نهاية عالم: سوريا وثمن السلطة والثورة/ محمد سامي الكيال
دفعت الثورة في سوريا أثماناً باهظة مقارنة بنظيراتها العربيات، fدون أن تحقق الحد الأدنى من أهدافها: النظام، بأركانه ورموزه، نجح في الاستمرار. ومازالت محاولة رصد تغيرات أساسية في بنيته سابقة لأوانها، نظراً لعدم توفر معطيات واضحة في ظل حالة الحرب القائمة. الخطاب السياسي والثقافي يراوح في مكانه لدى أغلبية الأطراف. وباستثناء القوى الكردية، يصعب أن نجد مشروعاً سياسياً واجتماعياً يمكن قراءته بجدية. يثير هذا الوضع أسئلة شديدة الحساسية عن البنى الاجتماعية السورية، سواء التي أنتجت الثورة، أو التي بقيت مؤيدة للنظام. لماذا خرج من سوريا بالذات، البلد الذي يمتلك نسبة متعلمين جيدة، وتراكماً مادياً وثقافياً مقبولاً، بمعايير العالم الثالث، النظام الأكثر وحشية، والثورة الأشد تعثراً ومأساوية على المستوى العربي؟
قد تكون محاولة الإجابة على هذا السؤال هي المشروع البحثي- السياسي الأكثر أهمية للمستقبل. إذا أراد المثقفون والناشطون السوريون والعرب الابتعاد عن الصيغ البكائية والعاطفية الجاهزة. يتطلب هذا وجود مؤسسات ثقافية وسياسية، يمكن أن يتم فيها نقاش أكثر تحرراً. وهو أمر متعذر الحدوث حالياً، وربما لا توجد لدى أي جهة الإمكانية والرغبة في تحقيقه. تبقى الجهود الذاتية للأفراد، الذين باتوا يملكون فرصاً كبيرة للإنتاج الثقافي، وهوامش حرية واسعة، بعد تفكك كثير من البنى الاجتماعية والسياسية والدينية، التي كانت تحدّ من قدرتهم على التعبير والتفكير المستقل. إلا أنه لا توجد أي ضمانة لاستغلال هذه الفرص. فتفكك البنى السلطوية لا يؤدي أوتوماتيكياً إلى زوال أساليب التفكير المستقرة، التي يرى الأفراد العالم من خلالها. يظهر هذا بوضوح في اللغة التي مازال يتم بها الحديث عن الوضع السوري. مفاهيم مثل «الوطن»، «الدولة»، «الثورة»، «المنفى»، «الذاكرة»، إلخ، تستعمل بالأسلوب القديم ذاته، وأصبحت هنالك حاجة ماسة لإعادة تعريفها، وإلا فقدت معناها بشكل كامل. فهل هنالك ما يمكن ويجب الحفاظ عليه من العالم الفكري والاجتماعي السوري السابق؟ وما هي الفرص التي تحملها عملية تفكك البنى وإعادة تعريف المفاهيم؟
وحشية خاوية
ما أنتجته الثورة والحرب السورية سياسياً وثقافياً كان مخيباً للآمال، حتى مقارنة بغيرها من الثورات والحروب الأهلية العربية. الحرب الأهلية اللبنانية مثلاً أنتجت كماً كبيراً من التنظيرات والأعمال الأدبية والفنية، وبغض النظر عن تقييمنا لمستواها، إلا أن مجرد وجود هذه المواد الفكرية، وإمكانية نقدها وتجاوزها، يعطي إمكانيات كبيرة للعمل الثقافي والسياسي. مصر، رغم تراجع تأثيرها الثقافي تدريجياً طيلة عقود، عرفت قبيل الثورة وبعدها تجارب أدبية وصحافية وإعلامية لا يمكن تجاهلها. أما السودان، المجهول عربياً لحد كبير، فتحتاج دراسة ثورته ومنتجاتها إلى كثير من الاهتمام والتركيز، للوصول إلى فهم يرقى لهذا الحدث المميز بكل المقاييس، يمكن إضافة تونس والمغرب للقائمة، والنتيحة تطرح كثيراً من الأسئلة غير السارة عن الحالة السورية.
فشلت الثورة السورية في صياغة رموز ودلالات ذات قدرة على التأثير والاستقطاب، ما جعل موقفها ضعيفاً في كثير من الأحيان، داخلياً وخارجياً. يمكن مبدئياً اقتراح أسباب عديدة لذلك، مثل ضمور الحيز المديني، وبالتالي غياب المؤسسات القادرة على إنتاج السياسة والثقافة والمعرفة، وعلى رأسها الصحافة والأحزاب السياسية والأكاديميات والنقابات. وهي حالة أوصلها النظام إلى تجلياتها الأوضح، ولكنه لم يخلقها من العدم. فالنظام نفسه، سواء في مرحلة تشكله أو استقراره، يحمل سمات واضحة لذلك الضمور المديني، ولولاه لما استطاع النشوء والبقاء وبناء قواعد شعبية متينة لتسلطه. إلا أن هنالك جانباً آخر لهذه المشكلة، وهو الأشكال المنفرة من الوحشية التي عرفها النزاع السوري. وعلى الرغم من أن الصراعات الاجتماعية حول العالم لم تنقصها الوحشية يوماً، إلا أن الوحشية السورية تبدو شديدة العبثية والمجانية والخواء، وذلك بالضبط لعدم استنادها إلى قاعدة سياسية ومعرفية، تعطي المبررات للعنف الدائر، وتكسبه بعض القيم. وهي حالة نادرة في الثورات عموماً. فمهما بلغت ممارسات الصراعات الاجتماعية همجيةً، فقد امتلكت دائماً محاميها ومؤرخيها، الذين أنتجوا معنىً لكل ما يِحصل. في الحالة السورية لا نملك مثل هؤلاء المحامين والمؤرخين، أو أن مرافعاتهم، لأسباب موضوعية وذاتية، ضعيفة وغير مقنعة. لا يقلل هذا بالتأكيد من عدالة القضية التي حملتها الثورة، ولكنه يطرح سؤالاً عن سبب فشل الممارسات الاجتماعية والثقافية السورية في الانتصار لقضية عادلة لهذه الدرجة.
بنى غير قابلة للحياة
يمكن القول إذن إن الحدث السوري، بسلطته الحاكمة وثورته، يحمل سمات البنى الاجتماعية التي أنتجته: الضعف الشديد للمؤسسات المدينية، الاعتماد على المجتمعات التقليدية الأبوية، الريفية وشبه الريفية، محدودية الحيز العام قبل نشوء النظام، وغيابه التام بعد تمكنه من السيطرة التامة. انتشار العلاقات الزبائنية، ضعف وسائل الإنتاج وتخلفها، ما يجعل نشوء طبقات لذاتها، سواء كانت طبقات عليا أو دنيا، أمراً متعذراً.
كل هذا يجعل إمارة الحرب شكلاً نموذجياً لإدارة شؤون الحياة في البلاد، الدولة نفسها تصبح تجمعاً متماسكاً لإمارات الحرب الأقوى. مع مزيج مهلهل من الخطابات التي تؤمن لها بعض الهيمنة والشرعية في نظر مؤيديها: الطائفية المضمرة، معاداة الإمبريالية، ما تبقى من خطابات القضية الفلسطينية، والعداء لإسرائيل، فضلاً عن بعض الصيغ القومية – الإسلامية. الثورة لم تنجح من جانبها حتى بالحفاظ على نسيجها الخطابي الضعيف، فأصبح لكل فئة شاركت بها، وأحياناً لكل فرد، ذاكرة متعارضة مع ذاكرة الأفراد والفئات الأخرى، وتأويلات متنازعة حول الوقائع والأحداث. وفي ظروف العجز البنيوي عن الإنتاج الخطابي والسردي، يصبح من شبه المستحيل إعادة إنتاج ذاكرة مشتركة، حتى لجمهور الثورة الأكثر إخلاصاً. متابعة مسيرة المجالس المحلية شديدة الدلالة ضمن هذا السياق، فهذه المجالس التي نشأت عفوياً بعد انسحاب قوات النظام من مناطق طرفية عديدة، وحاول كثيرون، من مثقفي اليسار المنشقين وصولاً لموظفي «المجتمع المدني»، دعمها وبناء أساس نظري وتنظيمي لها، سرعان ما تحولت إلى إمارات حرب ومحاكم شرعية، غير قادرة حتى على إنتاج خطاب إسلامي مقنع للمتدينين والسكان المحليين.
ربما كانت البنى الاجتماعية التي أنتجت النظام والثورة في سوريا غير قابلة للحياة، أو على الأقل لا تنتج أكثر من الحرب الأهلية الدائمة، وأشكالاً صادمة من التوحش وتدهور القيم الأخلاقية، باتت قابلاً للتصدير، بدلالة وصول مقاتلين سوريين إلى ليبيا، ولذلك فقد يكون زوال هذه البنى وتحللها، وبالتالي نهاية «سوريا» التي نعرفها، يصبّ على المدى الطويل في مصلحة سكانها، الحاليين والسابقين، بوصفهم أفراداً، وليس شعباً أو حتى جماعات أهلية. ورغم أن عملية التحلل هذه تتم ببطء شديد، ولا توجد علائم واضحة لما يمكن أن تؤول إليه في المستقبل، من الناحيتين السياسية والاجتماعية، فضلاً عما يرافقها من معاناة شديدة، فإن أي محاولة لإيقاف هذه العملية، وإطالة عمر البنى السورية، لن تؤدي بتصورنا إلى أكثر من إطالة أمد المعاناة.
تركيبات جديدة
المجتمعات الممزقة التي خلفتها الحرب، والأعداد الهائلة من اللاجئين والنازحين، المنتزعين من جذورهم ونمط حياتهم السابق، لا يمكن أن تبقى إلى الأبد مجرد حالة إنسانية بحاجة للدعم والتمكين. سيُنتج البشر بالتأكيد تركيبات اجتماعية وقيمية وثقافية جديدة، لا يمكننا أن نخمّن ملامحها الآن. كما أن كثيراً من الأفراد وجدوا أنفسهم ضمن بنى اجتماعية مختلفة في الدول التي لجأوا إليها، ما سيكسبهم خبرات ومنظورات مختلفة. هذا الوضع مفتوح بالتأكيد على كل الاحتمالات، ومخاطره تفوق فرصه، إلا أن الأجدى قبوله والعمل ضمن شروطه. وإذا كانت المجتمعات والأفراد سينتجون تركيبات جديدة بحكم الضرورة، والتفاعلات والظروف المعقدة التي يعيشونها، فإن خطر الجمود الحقيقي يكمن في مستوى الإنتاج الثقافي، الذي تمارسه النخب. الإصرار على المفاهيم التقليدية قد يؤدي لإسهامات فكرية وفنية وأدبية لا يمكن أن تصبح ضرورية أو عضوية ضمن أي سياق، وتعتاش على رعاية ودعم مصطنعين، تقدمهما مؤسسات مهتمة حالياً بالشأن السوري، قد تغيّر اهتماتها وتوجهاتها في أي لحظة.
ضخامة الحدث السوري، ونتائجه التي طالت بلداناً عديدة، تحمل من الإشكاليات والأسئلة ما من شأنه التمهيد لبروز تيارات ثقافية جديدة، خاصة إذا وضعناها ضمن سياق الانفجار الاجتماعي الكبير الذي يعيشه العالم العربي. من الظالم بالتأكيد الحكم مبكراً على المنتجات الثقافية التي ينتجها هذا الانفجار، أو الحديث عن فشل ثقافي عربي شامل. سبق للربيع العربي أن ساهم بانطلاق موجة احتجاجية عالمية، وإعادة إحياء ثقافة الميادين، التي يحتلها المحتجون ليبنوا فيها حيزاً عاماً لهم. فهل يمكن للبشر، الذين شهدوا هذه الأحداث الكبرى، أن يقدموا ما يعطي دفعة جديدة للإنتاج الثقافي على المستوى العالمي؟ هذا من الأسئلة التي يحتاج الإجابة عليها وقتاً.
٭ كاتب من سوريا
القدس العربي