الذين يحبّون الحروب/ رشا عمران
“إذا استطعت الوصول إلى الجنرال مكازني، فأعطه أمر إيقاف الهجوم أمام شهود، إذ إن بعض الجنرالات يحبون القتال”.. يقول ضابط إنكليزي للعريف شوفيلد، المكلف بتسليم رسالةٍ من قيادة الجيش البريطاني إلى فيلق مكون من 1600 جندي، يستعدّون للهجوم على بقايا الجيش الألماني الذي كان قد تراجع إلى خط هيندنبيرغ، بخطةٍ لنصب كمينٍ للجيش للفيلق الأول، عرفت بها قيادة الجيش البريطاني مصادفةً، فأرسلت جنديين شابين في مهمةٍ تكاد تكون مستحيلة، يخترقان بها أراضي العدو لإيصال رسالة التحذير، ويُصارعان للنجاة وللبقاء على قيد الحياة التي لم تكتب للجندي بليك، إذ يطعنه طيار ألماني إثر إسقاط جيش الحلفاء طائرته، ويحاول الجنديان البريطانيان إنقاذه من الطائرة، فيطعن أحدهما. في الحرب لا تتعاطف مع عدوك، فإن فعلت فإنك قتيل لا محالة. في الحرب اقتل عدوك مباشرة، واقتل كل من تشكّ أنه ليس صديقا لك. التردّد يجعل عدوك ينتصر عبر قتلك. وفي الحرب، عليك أن تعيش مع الموت، وأن تمشي بجانبه وفوقه من دون أدنى التفاتة، الالتفاتة إليه قد تجعل منك خائفا. في الحرب، أيضا، عليك أن لا تخاف، الخوف يجعلك مهزوما، ويجعل عدوك منتصرا.
ليس ما سبق سوى استنتاجات شخصية، خطرت لي بعد مشاهدة الفيلم الحربي “1917” الذي كان يعرض في صالات السينما في القاهرة قبل أيام. سامح الله صديقتي التي شجعتني على حضور الفيلم في عرضه الأخير قبل أيام، إذ عليكم أن تتخيّلوا حالة السوريين وهم يتابعون فيلما كهذا، ومع كل لقطةٍ تخطر مدينة سورية في البال، أو ثمّة شبان سوريون، سوف يستبدل المشاهد السوري الممثلين بهم. الممثلون الذين يعيشون نشوة نجاح الفيلم وإبداعهم في التمثيل، بعد أن أنهوا التصوير، وبدأ الفيلم يعرض على شاشات العالم، بينما سيبقى المشاهد السوري وقتا طويلا وهو يحاول إقناع نفسه بأن ما رآه تلك الليلة في صالة السينما فيلم سينمائي، وليس وثائقيا عن الحرب والدمار والموت في سورية.
كتب الفيلم وأخرجه البريطاني سام منديز، صاحب أوسكار عام 2000 عن فيلمه “الجمال الأميركي”. ويقال إن أحداث 1917 رواها لمانديز جدّه لأبيه الذي شارك في الحرب العالمية الأولى، بينما قام بالبطولة الممثلان البريطانيان الشابان: جورج ماكاي ودين تشارلز، مع ظهور سريع لممثلين إنكليز معروفين، ككولين فيرث، وبينديكت كامبرباتش. ونال عدة جوائز، وهو مرشّح للأوسكار عن أفضل فيلم لهذا العام، ولو كانت هناك جائزة تعطى من مشاهد ما لفيلم، لمنحتها أنا لمدير التصوير العظيم، روجر ديكنز، الذي أبدع في استخدام كاميرته وخبرته الطويلة في تصوير مشاهد مذهلة، متصلة كما لو أنها مشهد واحد طويل، وتحبس الأنفاس من فرط دقته في اختيار كادرات الحرب.
حسنا، لن أحكي عن الفيلم أكثر، احضروه، لمن يتاح له ذلك. سأحكي عن فكرةٍ غريبةٍ، خطرت لي بعد مشاهدة الفيلم: في كل الحروب، عبر التاريخ البشري، بقيت النساء بعيداتٍ عنها. الحرب فعل ذكوري بامتياز، ليس فقط بالمعنى النفسي، بل بالمعنى العملي. الرجال هم من يقاتلون، هم القتلة والقتلى، تقتل النساء في الحروب طبعا، لكنهن يقتلن بحرب الذكور. حتما ثمّة نساء اشتركن في الحروب وقاتلن، لكنهن الاستثناء، كما أن الحروب تقتل من الرجال أكثر بكثيرٍ مما تقتله من النساء. ليس الموت المادي فقط، بل هناك دمار الروح وموتها شيئا فشيئا في أثناء الحروب، بينما الجسد حي، ذلك الصراع الذي يخوضه المقاتل للتعوّد على الموت، وعلى رائحة الدم ورائحة الجثث المتعفّنة، وعلى الغبار والدخان والدمار الذي يحدثه هو أو يحدث أمامه، وعلى صوت القصف ورائحة البارود التي تطلع من الآلة التي يحملها هو وعدوه معا، وصراعه للتغلّب على الخوف، وللبقاء على قيد الحياة، ومحاولة تبنّي قيم كبيرة لتبرير الحرب: كالشرف والوطن والعلم.. بينما، غالبا، في داخل الشاب المقاتل رغبة في الهروب من كل هذا الثقل القاتل، وإكمال حياته بشكل طبيعي، الحروب تُحزن النساء وتقهرهن، لكنها تشوّه الذكور وتدمر كيانهم الإنساني. في الحرب تنتظر النساء أزواجهن وإخوتهن وعشاقهن وأبناءهن، ويمُتن من الشوق والخوف عليهم، ويعانين الفقد والحزن والخوف، لكن ما يحدث للذكور في الحروب أكثر هولا وفظاعة وقسوة. ولا يمكن مقارنته، بأي حال، بما تفعله الحروب بمن لم يشارك فيها. أفكّر بملايين ملايين الذكور الذين دمّرتهم حروبٌ شاركوا بها لأن “بعض الجنرالات يحبّون الحروب والقتال”.
العربي الجديد