أن تقطف زيتون "العنازة" في برلين/ محمد ديبو
أهدتني صديقتي شجرة زيتون صغيرة، لأنها تدرك مدى حبّي لشجرة الزيتون، وما ترمز له بالنسبة لي، ومدى رغبتي بأن تكون تلك الشجرة في منزلي فعلا.
قوة الرغبة تلك، تعود إلى كوني أربط بين شجرة الزيتون وأمي، إذ لا أتخيل أمي إلا شجرة زيتون باسقة وهرمة: تغضّن وجهها، تجاعيد يديها، عمرها المديد، صوتها الخارج من بطن الأرض، سواء كان موبخا أو مشجعا لي، علما أنها (شجرة الزيتون) كانت مدار صراع بيني وبين أمي في طفولتي وشبابي. تلك الصراعات التي أتذكرها اليوم بحنين وخجل وندم.
حين مات والدي، كانت أمي حاملا بي في الشهر الثالث، وكان لديها خمس بنات، ولم يكن هناك من مورد رزق إلا الأرض وأشجار الزيتون وراتب تقاعدي زهيد، الأمر الذي أجبر أمي ودفعها لأن تهتم بالأرض وتزيد من زراعة الزيتون حين يتيسر لها المال القليل، كي تتمكن من إعالتنا وإطعامنا وتدريسنا.
كانت أمي في طفولتي وصباي تعمل جاهدة دوما لتأخذني معها إلى الأرض في أيام العطل والصيف كي أساعدها وأتعلم منها حب الأرض والعمل بها، كي “آخذ عنها كتفا”. وكنت كأي صبي مراهق يفضل اللعب والاهتمام بالبنات على هذا العمل، لذا كنت أتململ من العمل في الأرض وأتشاجر مع أمي التي توقظني باكرا لأتركها تذهب وحيدة وحزينة للأرض فيما أتابع نومي في لامبالاة. مع الزمن ستشذبني الحياة وتعلمني احترام الأرض وشجرة الزيتون، ربما تكفيرا عن ذنبي، ولتعويض ذلك الألم والندم الذي أشعر به تجاه تلك اللحظات التي عذبت أمي بها.
لا أتخيل أمي في طفولتي إلا قادمة من الأرض أو ذاهبة إليها، بثياب الفلاحة القروية البسيطة، ولا أتذكر لها حديثا إلا عن الأرض والزيتون، بل هي حتى اليوم حين أتحدث معها هاتفيا، تحدثني عن أشجار الزيتون، ثم تؤنبني: “تركتنا ورحت.. الأرض عم تذبل والزيتونات عم يموتوا..”. تقول ذلك، وكأنها تقول لي: تقتلون قلبي بإهمالكم للأرض التي دفعت روحي وأجمل أيام عمري على ترابها. كل حبة تراب بها جزء من تعب يدي، عرقي، شهقاتي، خوفي من المجهول والفقر… وحدها تلك الشجرات وذرات التراب تعرف ما دفنت من أحلام، وما ذرفت من شهقات ودموع…
نعم إنها شجرة الزيتون التي أطعمتنا ذات جوع وحمتنا ذات عراء. ففي إحدى الليالي لم يكن في البيت أي طعام، حتى الخبز ما كان موجودا. استيقظت أمي في الصباح الباكر جدا (الخامسة صباحا)، وذهبت إلى الأرض البعيدة عن القرية، والتقطت حبات الزيتون التي تبقى في أراضي الفلاحين بعد قطافهم مواسمهم، ثم عادت وباعتها واشترت بثمنها الخبز لنأكل صباحا.
بهذه الحادثة، كانت أمي تواجهني كلما تلكأت عن العمل أو سخرت من زيتوناتها فيما مضى. اليوم تتحول السخرية السابقة إلى سخرية من نفسي وتصرفاتي وأنا أتأمل شجرة الزيتون على شرفة منزلي في برلين، أمدّ يدي وأداعب أوراقها وكأني أمد يدي لتعانق وجه أمي ويديها وجغرافيا وجهها في بلادي البعيدة، كأني ألتمس وأطلب السماح والغفران.
تحول اعتنائي بشجرة الزيتون إلى هوس، إذ أسقيها في الصباح، أداعب أوراقها، ألامس ثمارها الغضة، لتأخذني الذكرى إلى البعيد البعيد، حين كنت أقطف الثمار في قريتي في موسم الزيتون، إذ يبدو أن اعتنائي بشجرة الزيتون بتلك الطريقة الهوسية، تعويض عن مكان مفقود وأم نائية، إذ انتبهت مؤخرا أني أسقيها وأهتم بها أكثر من النباتات والزهور الأخرى التي كثيرا ما أنسى سقايتها حتى، لأتحمل توبيخات حبيبتي التي تسارع لإنقاذها بالماء قبل ذبولها أو موتها.
حين أثمرت الشجرة التي على شرفة منزلي ببعض حبات الزيتون، كنت فرحا بها كما لو أنني أمتلك حقلا من الزيتون، إلى درجة أنني صورت الشجرة وثمارها وأرسلتها إلى أمي، لترد بصورة لها وهي تمسح بيديها حبّات الزيتون على شرفة منزلنا في العنازة (اسم القرية)، إذ شاءت الصدفة أنه بنفس الوقت كان أهلي في القرية يقطفون موسم الزيتون، الأمر الذي دفعني مباشرة لأقطف ثمار شجرتي وأتصل بأختي في القرية لتدلني كيفية صناعته، حيث أحتفظ اليوم في منزلي بعلبة صغيرة من الزيتون الذي صنعته بيدي، دون أن أدرك أني سأغدوا محاصرا بين شجرة الزيتون على شرفة المنزل وعلبة الزيتون في المطبخ، فكل مرور بجانب أي منهما يأخذني للبعيد فأغدو أسير التمزق الذي أعيشه بين زيتونة مفردة وضئيلة الحجم هنا وحقول شاسعة هناك: حقول اسمها الوطن، أو كان اسمها الوطن. هل هذا هو الفارق بين المنفى مهما تجمّل والوطن مهما كان تعيسا؟ هذا الوطن الذي لم نرث منه إلا الموت والموت!
الموت الذي يجعلني أكثر قلقا وتوترا كلما حضر، لأن أمي كثيرا ما حدثتني عن رغبتها بأن تدفن بجانب شجرات الزيتون في “أبو عرندس” أو “الضهر” (أسماء أمكنة في القرية)، وكأنها تعبّر عن وفائها لأشجارها بأن يتحول جسدها إلى سماد لجذورها، إذّاك أمد يدي لتراب زيتونتي في برلين وأعجنه بيدي برفق، فيما قلبي تبدأ دقاته في برلين ويسمع صداه في العنازة، ذلك الطفل الذي كان يلعب بالأزقة الموحلة ويقطف ثمار التوت والتين ويجلس تحت شجرة الزنزلخت التي لم تعد موجودة اليوم، حالما بكل شيء إلا أن يكون حيث هو الآن، يتأمل الطفل الذي كان، الطفل الذي لن يعود أبدا أبدا، الطفل الذي جلّ أمنياته اليوم أن لا تموت أمه وهو في المنفى بعيدا عن شجرة الزيتون التي تحب أن تدفن بجانب جذورها.
ضفة ثالثة