«تجديد الخطاب الديني»: التراث والأسئلة العبثية/ محمد سامي الكيال
أثار السجال بين شيخ الأزهر أحمد الطيب ورئيس جامعة القاهرة عثمان الخشت جدلاً كبيراً كما هو متوقع، فـ»التراث»، والمقصود هنا الدين، يجب أن يعاد بناؤه على أسس جديدة، كما يرى الخشت. في حين يؤكد الطيب أن «التراث» غير قابل للعبث، فهو ما أوصل المسلمين في ما مضى «إلى الأندلس والصين»، والمشكلة ليست فيه، بل في التخلف العلمي والتبعية للغرب. هذا النوع من المقولات مألوف جداً في الثقافة العربية، يُردد منذ قرن ونصف قرن من الزمان على الأقل، وتكراره في عام 2020، وبعد الربيع العربي، والتغيرات الاجتماعية الكبرى التي عرفتها مصر والعالم العربي، لا يبدو خالياً من الإملال والعبثية.
من جديد تُطرح القضايا نفسها: الماضي المجيد، التبعية، الأصالة والمعاصرة. ومرة أخرى يُقدم الدين بوصفه سبباً للتقدم والتماسك الاجتماعي، ومستودعاً للهوية، في حين هو بريء تماماً، رغم كل هذه المكانة المركزية، من أن يكون عاملاً مؤثراً في أي ظاهرة سلبية يعيشها معتنقوه. وكأنه أصبح فجأة مجرد عامل ثانوي. هذا التناقض في منطق شيخ الأزهر، وغيره من المدافعين بشكل مباشر أو غير مباشر عن «التراث»، بمن فيهم بعض اليساريين، يقابله تناقض لا يقلّ إشكالية في معسكر الحداثيين: إذا أردنا التقدم فلا بد أن ننظر للوراء، ونبقى منشغلين بالدين والتراث دوماً.
من الصحيح أن كثيراً من الحركات النهضوية، خاصة في أوروبا مطلع العصور الحديثة، كانت «أصولية» بشكل من الأشكال، أي حاولت العودة لأصول فكرية ودينية بدت أفضل مما هو سائد في العصور الوسطى، إلا أن هذه الحركات سعت إما لتجاوز الفكر المسيحي بأكمله، عن طريق إحياء التراث اليوناني والروماني، أو حتى الجرماني، أو غرقت في أشكال من التطرف الديني، أشد قسوة على الناس من ممارسات الكنيسة الكاثوليكية، التي كانت في ذلك الزمن تعيش عصر نهضتها الفنية والعمرانية الخاصة. محاولة استنساخ ما جرى في تلك العصور المضطربة، تُسقط من حساباتها كثيراً من العوامل التاريخية والثقافية والسياسية القائمة حالياً. الدول العربية ليست في القرنين الخامس عشر أو السادس عشر، فالعالم بأكمله اليوم، شرقاً وغرباً، يعيش في القرن الحادي والعشرين. وأسئلة عصرنا لا بد أن تكون مختلفة عن أسئلة عصور «الإصلاح الديني». بالتأكيد ليست كل الأسئلة مفيدة أو قابلة للإجابة، فما المشكلة بأسئلة الإصلاح الديني؟ وما السبيل لطرح أسئلة أكثر فائدة، أو ربما أكثر ديمقراطية؟
الخروج من الدين
تقوم فكرة «الإصلاح الديني»، كما تُطرح عربياً، على محور أساسي: الدين هو العامل الثقافي والسياسي الأهم في حياة الأفراد والمجتمعات، وهو المسؤول عن تأخرهم بسبب مشاكل أساسية فيه، ولذلك فإن إصلاح الدين هو المدخل الضروري للتقدم. مشكلة هذه الفكرة أنها ترسّخ سيطرة الدين على الحياة العامة والشخصية، فكل تغيير يجب أن يُمهر بختم ديني كي يصبح شرعياً. وهكذا يجب على كل جديد أن يجد فتوى له من داخل المنظومة الدينية، أي معالجة مشاكل الدين بمزيد من الدين.
هذا المنظور شديد الجوهرانية، يختزل العوامل الاجتماعية والثقافية شديد التنوع بجوهر اجتماعي وحيد هو الدين. كما يفترض أن كل المواطنين هم بالضرورة مسلمون، والإسلام هو المحدد الأساسي لسلوكهم، أو هم على الأقل قانعون بالخضوع للمفاهيم الإسلامية، أياً كان معتقدهم وفلسفتهم الحياتية. وبالتالي فعندما نصلح الدين سينصلح حال الناس. يمكن القول إن كثيراً من المؤسسين لما يعتبر حالياً تطرفاً أو إسلاماً سياسياً كانوا مصلحين دينيين، مثل محمد بن عبد الوهاب ورشيد رضا وحسن البنا.
المجتمعات العربية لم تكن يوماً «إسلامية» بهذا التعريف المختزل، تلعب عوامل عديدة، شديدة الاختلاط والتركيب، أدواراً شديدة الأهمية في حركة المجتمع: الإثنية والقومية مثلاً، مستوى التعليم والتمدن والتأثر بالثقافات الأخرى، وبالتأكيد العوامل الطبقية، والطائفية غير الإسلامية. دعك من أنه يوجد كثير ممن هم مسلمون بالهوية، ولكنهم غير متدينين أو حتى مناهضين للفكر الديني، وهؤلاء أعضاء في المجتمع، لا يمكن الاستمرار بإنكار وجودهم، ومن المفترض أن لهم حقوقاً مساوية لحقوق المتدينين.
ربما كان الأجدى العمل على تحجيم الطموح الديني التقليدي، أو الإصلاحي، للهيمنة على كل مناحي الاجتماع الإنساني. «الخروج من الدين»، هو مفهوم طرحه المفكر الفرنسي مارسيل غوشيه، قد يكون شديد الأهمية في هذا السياق. لا يعني غوشيه بـ«الخروج» هنا نهاية الدين أو العداء له، بل إن الدين، في الشرط الحديث، لم يعد المنظور الاجتماعي والحياتي الوحيد، بل واحداً فقط ضمن منظورات متعددة، لا أفضلية له عليها. بالتالي ليس من المفيد الاستمرار في تعويد المتدينين والمؤسسات الدينية، على أن منظومتهم هي الإطار الشرعي الوحيد في المجتمع والسياسة، الأفضل مواجهتهم بالوقائع التي يرفضون استيعابها: هنالك منظومات أخرى للتفكير والتواصل والفعل، عليهم القبول بها والتعامل معها. وبدلاً من المحاولة السطحية لاستنساخ عصور الإصلاح الديني الأوروبي، ربما كان على «الحداثيين» أن يفهموا الجديد الفعلي الذي جاءت به موجات النهضة والتنوير: الخروج من الدين.
النزعة الدستورية
ضمن هذا السياق فإن التركيز على مفهوم التعاقدية أكثر فائدة من الحديث عن الإصلاح. التعديلات في الفكر والممارسة الدينية أمر يعني المتدينين أساساً، ولا يحقّ لغيرهم التدخل فيه، ولكن في الحياة والمجتمع، اللذين ليسا كلهما ديناً بالطبع، أطراف وأفكار وممارسات أخرى، وعلى كل الأطراف أن تجد صيغة تعاقدية تؤمن التعايش على أساس التساوي الكامل بالحقوق، وحياد الدولة الديني، لا هيمنة دين واحد على الجميع. يمكن تسمية هذا بالنزعة الجمهورية الدستورية، وربما كان أفضل من عبّر عنها عربياً الرئيس التونسي الراحل الباجي قائد السبسي، لدى عمله على تعديل قوانين الإرث في بلاده: «ليس لنا علاقة بالدين أو القرآن، ولكننا نتعامل مع دستور الدولة، والقول إن مرجعية الدولة التونسية مرجعية دينية خطأ فاحش». لا أهمية للتفتيش في ضمير السبسي لمعرفة قناعاته الدينية، فهو تصرّف كما يليق برئيس دولة ذات مرجعية دستورية وعقد اجتماعي: قوانين الإرث القائمة تنافي المبدأ الدستوري القاضي بالمساواة بين المواطنين، أياً كان جنسهم، وبهذا يكون تصريح الرئيس التونسي الحالي قيس سعيد: «لا تأويل في ما حُسم بالنص القرآني»، خطوة هائلة للوراء، وضرباً للمنطق التعاقدي للدولة ذاته، نحو ديكتاتورية هوياتية.
يجب بالطبع أن لا يُقصى المتدينون من صياغة العقد الاجتماعي، ولكن اعتبار أن مبادئهم مهيمنة مسبقاً في عملية صياغته، ينفي مفهوم «التعاقدية» من أساسه. إذا كان لدى المتدينين ما يعتبرونه حقيقة، فعليهم أن يقوموا بترجمة حقيقتهم هذه من اللغة الدينية إلى لغة علمانية، يمكن لكل الأطراف في المجتمع فهمها والتواصل معها. حسب رأي الفيلسوف الألماني يورغن هابرماس، في طرحه الشهير الذي اعتُبر «ما بعد علماني». هذا الرأي ينبني على أن الحقيقة «بين ذاتية»، أي أنها منتج اجتماعي، يأتي نتيجة التواصل في الحيز العام بين البشر، بلغتهم العادية والمشتركة، وليست مبادئ متعالية ومقدسة، يملكها طرف واحد مسبقاً.
كيف يتم الإصلاح؟
للإصلاح الديني، عندما يكون قضية مفروضة على المجتمع بأكلمه، جوانب سلبية كثيرة، ولكن عند وضعه في موقعه الأنسب، بوصفه شأناً يعني المتدينين وحدهم، يمكن أن يصبح عاملاً اجتماعياً إيجابياً، فهو قد يساعد في إيجاد حلول للأشخاص الذين يجدون أنفسهم ممزقين بين إيمانهم الديني وضرورات حياتهم، ويساهم بتهيئة المتدينين للمشاركة في العملية التعاقدية، بدون شروط متعالية.
إلا أن الإصلاح لا يأتي فقط نتيجة النوايا الطيبة للمصلحين ورجال الدين، بل بسبب تغير الظروف الاجتماعية، بما في ذلك مجريات الصراعات السياسية والموجات الثورية. قضية الإصلاح الديني اليوم، رغم استعمال اللغة القديمة نفسها، تأتي في سياق جديد: الانتفاضات العربية، والدور السلبي الذي لعبه الإسلام السياسي والتزمت الديني في عرقلة طموحات التغيير. ورغم كل المآسي الكبرى التي رافقت الربيع العربي، فلا يمكن إنكار الدور الذي لعبه في عملية «الخروج من الدين»: طرح قضايا مثل السيادة الشعبية، الحريات العامة والفردية، حقوق الإنسان، وبروز مطالب فئات كانت دائماً مقصاة وغير مرئية، مثل النساء والمثليين والأقليات. كل هذا لا يمكن استيعابه ضمن المنظومة الدينية، ذات المرجعية غير الدنيوية وغير الإنسانوية، ومهما حاولت هذه المنظومة، بالاستعانة بسلطة جهاز الدولة، إخفاء هذه القضايا أو سحق حامليها، فالرجوع للوراء بات شبه مستحيل.
الصراع لأجل الديمقــــراطية، بمفهــــومها الجمهوري الدستوري، لا الهوياتي، هو الطريقة الأكثر نجاعة لدفع رجال الدين للإصـــلاح، وهو برأينا النشاط الأهم الذي يجب على المهتمين بالتحديث القيام به، لا الانشــغال بالكتب القديمة والمناقشات الفقهية والعقائدية، فلهذه الأمور أهلها ومختصوها، و«الإصلاح» مشكلتهم لا مشكلة الجميع.
٭ كاتب من سوريا
القدس العربي،