الواقع خزّان أسئلة والروائيون العرب مطالبون بالإجابة/ مفيد نجم
الزمن مضغوط، مسرع، والواقع متغير في كل لحظة، العالم مترابط، والمعلومات تتدفق بسرعة رهيبة، بينما الناس وسط كل هذه الجلبة ممزقون، بين أفكار وأخبار، رؤى وأحلام، وواقع يغير جلده في كل طرفة عين. هذا الواقع فرض على الإنسان المعاصر اليوم أن يبحث عن عناصر أخرى تساعده سواء على فهم الواقع أو تحمّله أو على تجاوزه أو على إيقاظ أفكار ما أو تحقيق متعة ما. قارئ اليوم لا يشبه قارئ الأمس، وهذا ما غير وسيغير أكثر من الأدب.
المتغيرات الكبيرة والعاصفة التي طرأت في العقد الثاني من هذا القرن على الواقع الذي نعيش فيه، استدعت بلورة وعي تاريخي وسياسي واجتماعي خاص، في محاولة لفهم ما يحدث في هذا الواقع راهنا. من هنا نشأت العلاقة الوثيقة بين الروائي والروائية العربية مع الواقع في أكثر حالاته تأزما على المستوى الوجودي والإنساني.
ما تقوم به الرواية في نماذجها الأصيلة هو إعادة قراءة وتأمل واستعادة من منظور سردي وجمالي جديد تقوم به عين فاحصة وذكية. لذلك ليس من المبالغة القول إن كثيرا من هذه الأعمال تقوم بملء الفراغ الذي تركته الدراسات الاجتماعية والسياسية شبه الغائبة عن هذا الاهتمام. كل هذا يحسب لصالح الرواية وهو ما يسهم في توطيد علاقتها مع المتلقي العربي.
مغامرة كتابة
في الروايات العربية ثمة ما يقال عن التاريخ العاصف الذي عشنا فيه وما زلنا نعايشه وقد انتهى بنا إلى هذه النهايات غير السعيدة التي تضعنا اليوم أمام تحدي الحاضر والمستقبل. وإن الحديث عن إخلاص هذه الأعمال الروائية لقضايا الإنسان والواقع المأزوم لا يمكن اعتباره الإنجاز الوحيد لها.
ومن جهة أخرى فللكتابة السردية الناجحة شروطها الفنية والجمالية والسردية التي يتوجب على الكاتب/الكاتبة أن يستوفيها كاملة حتى تتحقق المعادلة الضرورية لنجاح العمل الروائي. لذلك عندما نتحدث عن الرواية التي خاضت هذه المغامرة فإننا نتحدث عن هذه الأعمال التي استوفت هذه الشروط وامتلكت في الآن ذاته قدرة جلية على إعادة تمثل وتمثيل الواقع على مستوى اللغة والبنية والدلالة وتعدد الأصوات فيها.
أعمال روائية عربية عديدة قدمت على المستوى السوسيولوجي والجمالي الكثير من الإضافات الهامة، التي لم يقدمها المؤرخ وعالم الاجتماع وإن كان عبر بنية سردية تخييلية تنطوي على تمثيلات سردية حاول الكاتب/الكاتبة من خلالها منح الواقع شكلا ومعنى، الأمر الذي يجعل منها أداة معرفة بالواقع.
من هنا كانت الرواية الناجحة معنية تحت الضغط الذي يشكله سؤال الحاضر على وعي الروائي/الروائية بالعودة إلى قراءة الحاضر من خلال الماضي لإدراك ما يحدث وفهم الأسباب الموضوعية التي أسست لهذه الانهيارات المتتالية في الواقع واستفحال أزماته ومآسيه الني نعيشها على أكثر من مستوى.
إن هذه المغامرة السردية على المستوى الفكري والجمالي لم يكن لها أن تتحقق بهذا المستوى السردي المدروس لولا الوعي العميق والتجربة التي تغني علاقة الكاتب/الكاتبة بالواقع وتثري لغته التي تشهد تنويعا في أشكال السرد وصيغه ووجهات النظر والشخصيات الروائية التي تقوم بأدوارها، في إطار بنية سردية حكائية قادرة على القيام بإنجاز هذه العلاقة الحوارية مع الواقع.
وقد نجحت هذه الأعمال في رهاناتها السردية، ولم يكن لها أن تحقق أهدافها لولا تلك العلاقة الجدلية التي وثقت عراها ودلالاتها بين التاريخي والاجتماعي في هذه الأعمال التي نجحت في تحقيق المعادلة في الكتابة الروائية الجديدة.
كل هذا لا ينفي أهمية الأعمال الروائية التي انشغلت بقضايا الواقع الراهن اجتماعيا وسياسيا وفكريا بعد أن انهمكت الكتابة الروائية بتمثل جوانبه المختلفة وفضح علاقاته وأسباب هزيمته كما تتجسد في هزيمة شخصياتها وأشكال المعاناة الصعبة والقاسية التي تعيش فيها بعد أن تحولت إلى ضحية له.
صوت القارئ
إن وعي الزمن في ما نتحدث عنه من الأعمال الروائية العربية نجده ظاهرا في العلاقة بين الجمالي والدلالي هو الذي يجعل من هذه الأعمال انعكاسا حيا للواقع، ما يجعل من الروائي/الروائية يتحول في هذه اللعبة السردية إلى شخصية أخرى داخل العمل تعيد تأويل الواقع من خلال إعادة بناء صوره وشخصياته كما يدركها الروائي والروائية وليس كما يجدها ظاهرة في الواقع.
لذلك لم تعد الكتابة الروائية في منظورها السردي ووعي كاتبها/كاتبتها تنطلق بعيدا عن هذه المدارات المسكونة بالهم الإنساني الوجودي والاجتماعي والسياسي الضاغط للواقع الراهن، الأمر الذي يجعل القارئ لهذه الأعمال يقف أمام تحول واضح في هذه الرؤية وفي انشغالاتها الجمالية والفكرية والثقافية التي أخلصت فيها إلى قضايا الحياة والإنسان، وكانت تمثيلا حيا لبؤس الواقع وإفلاسه على مستوى القيم والأحلام والأماني.
والغريب أن الروائية العربية التي ما زالت مشغولة بقضايا المرأة الإنسانية والاجتماعية لم تكن أقل شأنا في هذه المغامرة السردية وجمالياتها التي استعادت فيها حضورها من الهامش، ما جعلها شريكا مهما في إنضاج هذه المغامرة وتطوير لغتها في أعمال حازت على التقدير في أكثر من جانب.
إن هذا الوعي والجرأة في المقاربة والتمثل والتكوين لعالم يعيش صراعاته العميقة ومخاضاته العسيرة ساهم كثيرا في جعل المتلقي لهذه الأعمال يزداد معرفة بالواقع من خلال التحفيز الواقعي الذي تلجأ إليه هذه الأعمال عبر استخدام القيم الواقعية الراهنة.
إن هذا النجاح الذي حققته العديد من هذه الأعمال السردية هو الذي أسهم بشكل ملحوظ في تحقيق الرواية العربية انتشارها، فالقارئ الذي يبحث عن صوته وصورته الضائعة في صخب ما يحدث من انهيارات في الواقع هو الذي أصبح يجد في هذه الكتابة السردية بغيته، خاصة عندما تتعزز الحوافز الواقعية في الأعمال بالحوافز الأخرى التي تجعل الرواية في تمثيلاتها السردية للواقع تطرح معنى يشترك القارئ مع المؤلف في البحث عنه وإدراكه في ثنايا النص الروائي، وإن بدا هذا النص من خلال تعدد قراءته لا قاع له ما دامت هناك تأويلات جديدة يقوم بها المتلقي لهذا النص الروائي، الأمر الذي يسلب هذا النص تاريخيته ويجعله قادرا على عبور الزمن كما في أي عمل متكامل البنية ومتعدد الدلالة والتأويل.
كاتب سوري
العرب