سورية وزمن الانقطاع الثقافي/ مالك ونوس
ساد في الفترة الأخيرة، على وسائل التواصل الاجتماعي، جدالٌ بين سوريين ومصريين، حول المكان الذي شهد أول مطبعة كتبٍ باللغة العربية، هل كان القاهرة، أم حلب السورية؟ يرى المتابع في هذا الجدال ما يثير الشفقة والحزن؛ إذ ما نفع جدالٍ كهذا حين ننظر إلى واقع الثقافة في سورية، أو مصر. حيث ساد القمع في مصر منذ انقلاب الرئيس المصري، عبدالفتاح السيسي، على الرئيس السابق، محمد مرسي، وعلى ثورة 25 يناير، وبدأت مسيرة التضييق على الحريّات العامة، وحرية الصحافة، وحرية التعبير. بينما في سورية، ومع اندلاع الحرب الدائرة فيها، وإضافة للخوف الذي أسكت عدداً كبيراً من المثقفين، أُغلِقت الحدود منذ سنة 2011 أمام أي مُنتجٍ ثقافيٍّ أو معرفيٍّ مطبوعٍ كان يأتي من الدول العربية، أو الأجنبية، ما حرم ملايين السوريين من أهم عامل من عوامل التوعية والتآلف التي يحتاجها البشر أكثر ما يحتاجونها في الأزمات.
ففي سنة 2011، منعت السلطات السورية دخول الصحف والمجلات الثقافية والسياسية والدوريات المحكمة والكتب الصادرة حديثاً، ولم يُسجَّل من حينها دخول أي مطبوعٍ. وطال المنع حتى جريدة الأخبار اللبنانية، التي تعد من الصحف الموالية للنظام، والمتبنية روايته حول الأوضاع في البلاد، مُنعت مع ما مُنعَ من الدخول، لأسباب قد يعرفها القارئ وقد يجهلها. وفي الحديث عن المنع، أتت هذه السياسة في زمنٍ لم يعد المنع يجدي نفعاً مع أي سلطةٍ ترى ضرورة حظر المعلومة عن القارئ، في الوقت الذي يتوافر فيه الإنترنت الذي يمكنك عبره الحصول على ما تريد من معلوماتٍ، والاطلاع على ما يُنشر، من سياسةٍ وآدابٍ ونقدٍ وبحوثٍ، والتفاعل معها. غير أن هذا التفاعل يبقى ناقصاً مادام لا يؤدي إلى مثاقفة كانت تساهم فيها المجلات والجرائد حينما كان يحصل عدد كبير من القراء على ما يريده منها في وقتٍ واحدٍ، ويجري تداولها ونقاشها جماعياً، ما يؤدي إلى خلق حالة تثاقف كان لها دورها الفاعل في تشكيل بيئة ثقافية، في المدن السورية، وفي البلاد عموماً. بينما مع الإنترنت، يبقى الحصول على المعلومة والكتاب فردياً، والتفاعل معهما فرديٌّ أيضاً، لأن الآخرين يكونون قد حصلوا على معلومة أخرى، وكتابٍ آخر، في حقل معرفي وثقافي مختلف، من المتوفر في فضاء هذه الشبكة.
وإذ نتحدَّث عن فترةٍ تمتدُّ على سنواتٍ تسعٍ، هي سنوات الحرب في سورية، وهي ذاتها فترة الانقطاع عما يُنتَج في حقول الثقافة والفن والمعرفة والفكر، خارج الحدود السورية، فإننا نتحدث عن جيلٍ لم تقع يده على جريدةٍ أو مجلةٍ غير ما يصدر من جرائدٍ حكوميةٍ، توزّع في المكتبات في المناطق الخاضعة لسيطرة النظام. كما لم تقع يده على كتبٍ غير الكتب التي يُعاد طبعها، لتُعرَض في معارض الكتب التي تُنظَّم في المناطق التي باتت تُعرف بالمناطق الآمنة. وإذا ما أضيف هذا إلى تضعضع البنى الثقافية وحدَّة الاستقطاب بين المثقفين الذي طرأ بعد الحرب، تبرز خطورة أن ينمو هذا الجيل وسط رتابةٍ ثقافيةٍ يفرضها التماثل والتشابه الثقافي، الذي سيفرض بدوره شيطنة الآخر، ورفضه بسبب جهله به، بدلاً من التقريب بين المتخاصمين، وهو الدور الذي يمكن للثقافة والفنون عامة أن تضطلع فيه بنسبٍ وازنةٍ. ولا عجب أن يكون وسطُ الرتابةِ الثقافيةِ هذا هو الدافع الذي جعل الجدال بين المصريين والسوريين حول من حظيَ بالطابعة قبل الآخر يتصاعد، فكل منهما مدفوع بالنزعة التي استبدت به، وهي نزعة التمركز حول ذاته، تلك الذات المتخمة بشوفينية الأسبقية الحضارية. هذه الشوفينية التي جعلتنا نرى، على سبيل المثال، مِنَ السوريين مَنْ طالب باتباع التقويم السرياني، ورفض بقية التقاويم، كون السوريين أسلاف السريان الآشوريين، أصحاب الحضارة الأقدم في المنطقة، والذين وصل التقويم لديهم هذه الأيام سنة 6769، على ما شاع بين السوريين في المناطق الآمنة قبل سنوات، ولم يزل.
ومن تأثير هذه السياسة الذي ربما لا يُرى حالياً، هو حصول انقطاعٍ ثقافيٍّ لدى السوريين قد يولِّد تماثلاً ثقافياً يزيد من عوامل رفض الآخر. وإن لم يُلمس هذا التأثير بشكلٍ واضحٍ حالياً، فإن أوضح أثرٍ له هو ما نراه في ضحالة ما يُطبع داخل البلاد من شعرٍ وقصةٍ وروايةٍ، هذا إذا ما وضعنا البحوث في العلوم الإنسانية جانباً، والتي كانت في الأساس خجولة، ضحالةٌ لها ضلعٌ في تحييد دور الثقافة. أما عن ضحالة ما يُنتَج من شعر ورواية وقصة، والذي إضافة إلى تواضعه الفني وتواضع طرحه، تغلب عليه الذاتية والفردية، في وقتٍ تسيل فيه الدماء في الشوارع، ويقتطع المتدخِّلون في الحرب السورية أجزاءً من البلاد، ويُدمَّر ما تبقى من مدنٍ، وينزح أهلها عنها. كذلك من أسباب ما وصلت إليه الثقافة في سورية من ضحالة هو امتناع من بقيَ من الكتاب داخل البلاد عن الخوض في مسببات الحرب وفي مآسيها ومآلاتها، خوفاً من مساءلة السلطات لهم، سواء منهم من يقطن في المناطق التي يسيطر عليها النظام، أو أولئك الذين يقطنون في مناطق سيطرة المعارضة المسلحة.
ولا شك هنالك عاملٌ مهمٌّ في موضوع الانقطاع الثقافي، وفي عدم وجود إنتاجٍ يكون على قدرِ الأهوال والمآسي التي تعاني منها البلاد، هو غياب عددٍ كبيرٍ من الكتاب والباحثين والمترجمين والفنانين والمخرجين والعازفين والمؤلفين الموسيقيين وغيرهم، بسبب خروجهم من البلاد وهجرتهم وتشتتهم نتيجة توزُّعهم الجغرافي بين عدد غير محدود من الدول، لا يربط بينهم
سوى محاولات تواصل وتنسيق للعمل الجماعي، غالباً ما لا تثمر، أو إن أثمرت لا تستمر. وحتى لو نجح هؤلاء في التواصل في ما بينهم، ونجحوا في خلق حالةٍ فنيةٍ وأدبيةٍ لافتةٍ في بلدان الاغتراب، سيبقى تأثيرهم محدوداً في الداخل، بسبب سياسات المنع التي تحول دون وصول إبداعهم إلى أرض الوطن.
تبرز خطورة أخرى للانقطاع، تتمثل في أن الجيل الجديد الذي تشكَّل وعيه خلال الحرب، سيطرح أسئلةً كبيرةً لن يجد من يُجيبه عنها. ويمكن ملاحظة هذا الأمر حتى من خلال الأعمال الشعرية والروائية والقصصية التي تتصف بالذاتية والشخصانية، والتي هي بحد ذاتها تعدُّ تمثُّلاً لأسئلةٍ وجوديةٍ، وإن على الصعيد الشخصي لا العام. ومن اللافت في وضع سورية أنه لم يقارب وضع الدول التي شهدت حروباً. فعلى سبيل المثال، شهدت الجارة لبنان إنتاجاً ثقافياً ومعرفياً وفيراً خلال الحرب الأهلية اللبنانية التي اندلعت أواسط سبعينيات القرن الماضي، واستمرت خمسة عشر سنة، خاض في تجربة هذه الحرب وتداعياتها على مستقبل البلاد والأجيال التي عايشتها وعلى المحيط العربي. وساهم الوجود الفلسطيني، الطاغي على المشهد الثقافي والبحثي، وعلى مجال النشر والتوزيع، في إغناء التجربة الثقافية في لبنان خلال الحرب، وفي وسم الجو الثقافي اللبناني، الغني بطبيعة الحال، بسمته، بفضل حرية الكتابة والنشر النسبية، وحرية التعبير التي تميزت بها البلاد بعد استقلالها، على خلاف الدول العربية في تلك الفترة، وفي الفترات اللاحقة.
من هنا، نرى أنه كُتب لسورية أن تعاني، فوق ما تعاني، من هذا الانقطاع الثقافي الذي سيؤثر في الأجيال المقبلة بطريقة لن يراها كثيرون، ولن ينظر إلى خطورتها إلا قلةٌ. وستستمر البنى الثقافية القائمة بإنتاج الغث، بينما سيبقى السمين عسيراً على الولادة. وسيبقى، بالتالي، أي فعلٍ تصالحيٍّ وتآلفيٍّ ناقصاً، إذا لم يكن للثقافة دور فاعل فيه.
ضفة ثالثة