الناس

صديقتي الفنزويلية/ آية الأتاسي


قبل عشرين سنة، وفي مدينة هايدلبرغ الألمانية التقيتها أول مرة، كانت تجلس قربي في درس تعلم الألمانية، وبعد أن عرّفت عن نفسها، قالت إنها فنزويلية. يومها لم نكن نتكلم الألمانية، ولكننا تحاورنا بالقليل من الفرنسية والكثير من لغة القلب.

لا أذكر ما دار بيننا من حديث حينها، ولكنني أذكر أنها أخبرتني عن «الحمص» عندما علمت أنني سورية، ويبدو أنها تعرفت على الحمص بالطحينة في مطعم سوري في كاراكاس. جمعتنا في ما بعد حصص اللغة، وشغفنا بالسينما والأدب، كانت معرفتنا المحدودة بالألمانية لا تساعدنا في الغوص بعيداً في حواراتنا، ولكن هذا لم يمنع صداقتنا من أن تتعمق، فقد كنت أقرأها من خلال أفلام الموجة الجديدة الأوروبية، التي كانت تحبها، أو من خلال الكراس الصغير الذي كانت تسجل فيه قصائدها بالإسبانية، وعندما كنت أخبرها عن «نيرودا» و»لوركا»، كانت تبتسم، وكأنها فهمت وفهمتُ أن الأرواح تتخاطب وإن استعصت اللغة. بعد ما افترقنا كل في طريق دراسته، وصار للغربة مدن وسفر واكتشاف، عدنا والتقينا من جديد بمحض الصدفة، في المدينة نفسها، وفي قطار يعود إليها ويعيدنا إلى صداقتنا. بعد عشرين سنة بقيت هي الفتاة السمراء الجذابة نفسها، وكأن الزمن لم يمر عليها، فقط بضع خطوط حول العينين وفوق الجبين لا أكثر. ورغم دراستها للطب، ظلت تقرض الشعر، وصار لها برنامجها الشعري باللغة الإسبانية في الإذاعة المحلية الألمانية، وظللت أنا، رغم دراسة الهندسة، أمارس شغف الكتابة. وهكذا التقينا وكأننا لم نفترق، وكأن الصداقة خطوط تقاطع ونقاط التقاء.

الغربة والوطن ضدان، ولكن أنا وأنت صديقتان

بعد كل هذه السنين، صارت الألمانية الآن أكثر طواعية لكلينا، فجلسنا كسابق عهدينا في المقهى الجامعي، الذي أخذنا الحنين إليه، كما أخذنا حنين الأوطان إلى أحاديث السياسة، وكأنه لا مهرب لأمثالنا من الحنين المطبوع في مفاتيح لم تعد تفتح أبواباً، حتى أبواب الحرية المضرجة بالدماء. «حرية» قلتها لك بتردد، وأنا أعرف كم دفعنا ـ نحن السوريين ـ ثمناً غالياً من أجلها، قبل أن تسرق منا، كما سُرقت أوطاننا. رأيت الأمل يشع من عينيك، رغم لومك لي، عندما أعربت عن تحفظي على الرئيس بالوكالة غوايدو لأنه مدعوم من الأمريكيين، وقلت لي: «لا يهمنا من يدعمه، نريد أن ننتهي من حقبة الاستبداد، وغوايدو هو الأمل الوحيد بالنسبة لنا الآن».

تفهمت حينها ردة فعلك، وتذكرت إحساس الخيبة، الذي كان ينتابنا كسوريين من موقف اليسار العالمي الداعم للديكتاتور السوري، والمتنكر لحقنا في الحرية، تحت ذريعة أنها ثورة مدعومة من الدول الغربية الإمبريالية. اليوم نضحك بأسى عندما نتذكر كل المؤتمرات التي كانت تعقد تحت اسم «أصدقاء سورية»، والحقيقة أن لا أصدقاء ولا آباء لثورتنا اليتيمة، لهذا أقول لك بما يشبه الاعتذار: لا أصدقاء للمستضعفين على هذه الأرض، فلا تثقوا إلا بحقكم في الحرية، وقدرتكم الذاتية على بلوغها. كنا يومها نجلس في المقهى متجاورتين، كما في درس اللغة قبل عشرين سنة، ولكن كم تغيرنا وكم نحن متشابهتان.

وكأنك توأم الروح البعيدة، تجمعنا غربتنا وولادتنا في مدن الاستبداد، ويجمعنا يتم الأب ويتم الأوطان، أوطاننا المستحيلة التي لا نستطيع إليها طريقاً.

الوطن والغربة ضدان، ولكن أنا وأنت صديقتان.

تفتحين الجريدة الألمانية وتقولين لي: تفوقنا عليكم… وأنت تشيرين إلى المقطع الذي يقارن النزوح الفنزويلي بالسوري، ففي حين بلغ عدد النازحين السوريين منذ بداية الأزمة ستة ملايين، وصل العدد في فنزويلا إلى تسعة ملايين. وعندما تحاولين أن تشرحي لي الوضع في بلادك، أصغي إليك باهتمام، لأنني أعرف كم يحتاج صاحب الحق لآذان صاغية، فتخبرينني عن Colectivos وهي جماعات مسلحة تقاتل إلى جانب مادورو، مستفيدة من الامتيازات التي يمنحها لها، مكافأة على قمع المتظاهرين، أسمعك فيترجم رأسي فورياً الكلمة الإسبانية إلى كلمة «شبيحة» السورية. ثم تعجبني اللعبة، فأبحث عن مرادف لكل ما تقولينه وأسورنه، أي أحيله إلى مرادفه السوري: مثلاً نقص المواد الغذائية في فنزويلا وطوابير الانتظار الطويلة أمام المتاجر والأفران، يعيدني إلى طوابير الخبز السورية، التي صار اسمها في ما بعد «طوابير الموت»، بعد أن صار الخبز بطعم الدم. ولأنه لا يمكن أن نتحدث عن مادورو من دون ذكر شافيز، الذي مات في عام 2013 وترك السلطة لمادورو، تقولين: «هي تركة شافيز بكل ما فيها من قمع سياسي، وفساد ونهب للمال العام، وللمفارقة اليوم تعتبر ابنة شافيز «اليساري» من أغنى نساء أمريكا الجنوبية»، هنا أستعيد مباشرة عبارة «الأسد الأب يحكم من قبره»، وكأن للمستبد سلالة لا تنتهي.

في صوتك أسمع غصة، وأنت تخبرينني عن فنزويلا، البلد الذي كان الأغنى في أمريكا الجنوبية، بما يمتلكه من مخزون نفطي هائل، والذي لم يعد اليوم يصدّر إلا المهاجرين.

ثم تشيرين إلى بلوغ التضخم أرقاماً خيالية، وتذكرين المبالغ الطائلة التي صرفت على الأسلحة والقنابل المسيلة للدموع، في الوقت الذي يموت فيه الشعب من الجوع، بسبب نقص السلع الضرورية كالأرز والخبز والحليب، وعلى الرغم من توفر السمك بسبب سخاء البحر، إلا أنه لا زيوت متوفرة لقليه. وتضيفين أن النقص لا يطال فقط الغذاء، بل الأدوية ومستلزمات التخدير، ما جعل إجراء العمليات الجراحية مهمة مستحيلة، ثم على سبيل الخاتمة تقولين: «ببساطة كل شيء معطل هناك، إلا الفساد وتجارة المخدرات فهما في ازدهار». أبتسم وأحاول التخفيف عنك، فأقول لك أنكم على الأقل بمنأى عن الجماعات الإسلامية المزدهرة في بلادنا، وما تقوم به من سرقة للثورة وتصفية للحالمين بالحرية.

وعندما تصلك رسالة نصية من فنزويلا على هاتفك الجوال، تقولين لي: «كما ترين، أعيش هنا وقلبي هناك، يحتج ويتظاهر، وكثيراً ما تختلط عليّ الأمور عندما أفتح «الواتس آب»، وأرى صور أصدقائي الألمان في إجازاتهم السنوية يسبحون في مياه البحار، وقربهم صور أصدقائي الفنزويليين في المظاهرات يسبحون في مياه خراطيم شرطة مكافحة الشغب».

ويقودنا الحديث في النهاية إلى معتقلي الاحتجاجات الأخيرة في فنزويلا، الذين تجاوز عددهم 150 معتقلاً، فأعترف لك أن معاناة البشر لا تقارن بالأرقام، ولكن رغماً عني أتذكر آلاف المعتقلين السوريين، الذين ماتوا تحت التعذيب ولايزال مصيرهم مجهولاً. هل في الإسبانية مرادف لمصطلح مثل «مغيب قسريا»، لا أستطيع شرحه لك، فبعض من جنون ومجون القمع السوري عصي على الفهم والشرح الترجمة.

كل غريب للغريب نسيب

هأنذا قد سمعتك بقلبي ورأيت بلادك بعينيك، ولكننا في عالم لا يرانا يا صديقتي، نحن أصبحنا ظلال أنفسنا، الظل يتلاشى، بينما العالم يراقب موتنا بصمت في زمن سقطت فيه الأخلاق والأيديولوجيات، وفقد كل شيء معناه. تقولين إن الإنسانية هي بوصلتك، وهي معنى يتسع لكل شيء بما فيه المواطنة، فأتذكر العبارة الخشبية «الوطن فوق المواطن»، وأذكرك بأنه عندما يصير الوطن جاثماً فوق المواطن، يصبح الإنسان مجرد «نوع بشري» آيل للانقراض. وليكن هذا العالم ما يكون، ها نحن معاً في لامكان، نلف العالم ويلفنا، وكأننا طفلتان تديران مجسم الكرة الأرضية الزرقاء، بانتظار أن يختار الحظ لنا وطناً على الخريطة. هل سمعت يا صديقتي بشاعر اسمه امرؤ القيس، وبيته الشعري الشهير:

«أجارتنا إنا غريبان هاهنا وكل غريب للغريب نسيب»، غربتنا نسبنا الجديد يا صديقتي في عالم لم يعد لنا. عالم أصبح ملكاً لمن يحتله، جيوش تحمي الطغاة، وجنرالات روس يشرفون على موت أحلامنا وأحلامكم. حقاً، الديكتاتورية عابرة للقارات، ولكن الحرية عابرة مثلها. وكما قال جبران خليل جبران، الشاعر المهاجر:

أنت أعمى وأنا أصم أبكم

إذن ضع يدك بيدي فيدرك أحدنا الآخر

فأعطيني يدك يا صديقتي العزيزة، وانظري…

الحرية في العالم المقابل

تلك التي تعرفينها

تلك التي أعرفها

والتي لا يعرفها أحد منا.

ودعينا قبل أن يمضي كل منا إلى سبيله، نرفع نخب حلمنا:

الحرية لسوريا

Libertad para Venezuela

٭ كاتبة سورية

القدس العربي

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى