طوفان نفايات في بلاد البعث/ محمد فارس
انتشر مقطع مصور لنفايات طافية في نهر بردى عند منطقة «السروجية» في دمشق القديمة، بالقرب من قلعتها. لا جديد في «فيديو النفايات» الذي ظهر الشهر الماضي على مواقع التواصل الاجتماعي، والذي يختزل واقع البلاد المزري في 23 ثانية. فقد سبق أن انتشرت في الأعوام الماضية صور ومقاطع مصورة كثيرة مماثلة، في منطقة «المناخلية» وساحة «المرجة» وسط دمشق، حيث تظهر إطارات سيارات وعبوات بلاستيكية ونفايات أخرى تغطي سرير النهر أو تطفو على سطح مياهه. مقاطع مصورة أخرى، أظهرت عجز «حزب البعث» بعد 56 عاماً من حكم سوريا عن إدارة الموارد المائية، إضافة إلى وجود خلل كبير في إدارة نهر بردى تحديداً، والعجز عن إدارة العاصمة ككل. فمن خلال دراسة طريقة إدارة المياه في بلد ما، تمكن معرفة الكثير عن ذلك البلد، بحسب شمعون تال، رئيس سابق لهيئة المياه الإسرائيلية.
ولتلخيص مأساة نهر بردى، ربط الشاعر السوري عدنان العودة، في قصيدة «قدسيا» التي كتبها عام 2005، بين النهر الذي يمر قرب مدينة قدسيا غرب دمشق، ومشكلات غذّت أسباب الانتفاضة السورية عام 2011، من فقر وبطالة وتهميش وسوء إدارة. وختم العودة بـ «تحذير» من انتفاضة شعبية مقبلة، على شكل «مطر» موعود يثأر لكل «البخور» الذي «احترق». عام 2008، أدى الموسيقي السوري إياد الريماوي قصيدة «قدسيا» مع فرقة «كلنا سوا». واقترب اللحن الذي وضعه الريماوي على مقام العجم من نشيد جنائزي، خصوصاً أنه ترافق مع آلة الأورغن.
وعلاج المشكلات بالنسبة إلى نظام «البعث» لا يكمن في العمل على إدارة رشيدة مثلاً، إنما من خلال التعمية على المشكلة. فطالما أن أحداً خارج البلاد لا يراها، فهو يعتبرها غير موجودة. أما أولئك الذين يعانون من تلك المشكلة في الداخل، فلا ريب في أنهم، لو تكلموا، يهدفون إلى «إضعاف سلطة الدولة» وإضعاف «التجانس الاجتماعي» و«تقسيم المجتمع والوطن»، كما قال الرئيس السوري بشار الأسد في خطابه الأخير. وبيّن الأسد منذ بدء الاحتجاجات ضد نظامه ربيع عام 2011، أنه «لا يعتب على من يتظاهر، بل يعتب على من يصور ويرسل المقاطع».
ويبدو أن السلطات السورية لم تستطع منع «فيديو النفايات» إذ لم يكن الهاوي بحاجة لأكثر من كاميرا هاتف خليوي واتصال بشبكة الإنترنت ليوصل ما شاهده للجمهور. لم يكن مضطراً إلى الخروج من العاصمة وإعداد فيلم يتناول الآثار المترتبة على سياسات «البعث»، كما فعل المخرج السينمائي السوري عمر أميرالاي، والذي مرت الذكرى الثامنة لوفاته في شباط الماضي.
أميرالاي أخرج فيلم «طوفان في بلد البعث» الوثائقي، الذي صدر عام 2003 ومنعته السلطات من العرض. ويعرض الفيلم مقابلات مع سكان قرية «جعيفية الماشي» في الشمال الشرقي من ريف حلب. ويكيل أولئك المديح والتمجيد للرئيس حافظ الأسد و«حزب البعث»، خصوصاً إثر بناء «سد الفرات»؛ على رغم بؤس أحوالهم، الذي تُظهره كاميرا أميرالاي على مدى 47 دقيقة بعد 40 عاماً من حكم «البعث».
ولا تجد اللقطات الشبيهة بـ«فيديو النفايات» طريقها إلى الإعلام السوري الرسمي أو شبه الرسمي، بل يتم طرح قضية نهر بردى بعيداً من المهنية. سبق وكتب الباحث السوري سامي مبيض في صحيفة «الوطن» السورية الخاصة في 3 أيار/ مايو 2018، ملخِصاً حالة نهر بردى في أن حياة سكان حي «الروضة» تحولت «إلى جحيم، بسبب رائحة النهر الذي كان الدمشقيون يتغنون به ويكتبون فيه القصائد العصماء»، حيث «تحول بردى من نعمة إلى نقمة.»
وعلى رغم ذلك، وجدت السلطات نفسها ملزمة بالرد على «فيديو النفايات» بشكل «مدروس»، خصوصاً أنه مصور وسط دمشق ومن دون تعليق. فبعد يومين من نشره، استعرضت وكالة «سانا» الحكومية، «إنجاز شركة الصرف الصحي الحكومية في دمشق 80 في المئة من أعمال رفع مصبات الصرف الصحي عن نهر وفروعه في منطقة دُمَّر»! وأوضح مسؤول رسمي أن هدف المشروع، البالغ طوله 800 متر وكلفة نحو 170 مليون ليرة سورية، «رفع التلوث عن نهر بردى»! وأكد آخر أنه سيتم الانتهاء من المشروع منتصف آذار/ مارس الحالي.
لكن الوكالة نفسها عرضت لاحقاً في 17 شباط الماضي، تقريراً مصوراً عن «عودة المياه للتدفق بغزارة في مجرى بردى، معلنة عودة الحياة من جديد إلى شريان دمشق الحيوي.» إذاً، على مدى عقود، وبتنفيذ وإشراف حكومي، تصب في «شريان دمشق الحيوي» مياه الصرف الصحي من مناطق يقطنها الآلاف. كما أن الوكالة لم تكلف نفسها عناء الابتعاد من دمشق، فاختارت أن تنشر في الخبر ذاته صوراً لبردى من منطقتي «الربوة» و«الشادروان» السياحيتين؛ واللتين لا تبعدان من منطقة «السروجية»، حيث تم تصوير «فيديو النفايات»، أكثر من خمسة كيلومترات، مع أن طول نهر بردى نحو 84 كيلومتراً.
وبثت الوكالة تقرير «شريان دمشق الحيوي» بالتزامن مع خطاب ألقاه الأسد، اعتبر فيه أن نظامه يخوض 4 حروب: عسكرية، واقتصادية، أو ما سماه «حرب الحصار»، ورقمية إعلامية، أطلق عليها اسم «حرب الإنترنت والمواقع الاجتماعية»، إضافة إلى حرب إدارية قانونية سماها «حرب الفاسدين المتضررين».
والمفارقة أن الأسد قال: «نحن الآن أمام ما يسمى الجيل الرابع لحروب الإنترنت وهي تعتمد على دس المعلومات، يعني تظهر مواقع أو صفحات عنوانها وطني وتظهر أنها تتبنى وجهة وطنية… لكنها في الحقيقة مواقع خارجية.» وتابع: «في هذا المجال حتى الآن للطرف الآخر اليد العليا؛ لأنهم يتمكنون من تسويق أفكار، ليس لامتلاكهم التكنولوجيا، بل لأننا أحياناً نكون أقل حذراً في التعامل مع المعلومات التي تأتينا».
بيد أن الحذر في تعامل الإعلام الرسمي مع «فيديو النفايات» لن يجدي لمن يرى نهر بردى على أرض الواقع. فمن يتتبع مسار النهر اليوم، يرى شريطاً من الدمار الذي سبق عام 2011 بسنوات، من خلال نقل النهر في أنبوب لتزويد دمشق بحاجتها من مياه الشرب. واستطاع نظام «البعث» تدمير النهر ونظامه البيئي والسكاني بشكل يصعب معه الرجوع بعقارب الساعة إلى الوراء. فسهل الزبداني في ريف دمشق الغربي فقد أكثر من نصف مليون شجرة، بينما دمر الجيش الحكومي قرى عين الفيجة وبسيمة وعين الخضراء في وادي بردى؛ ولا يزال يمنع أهالها من دخولها منذ كانون الثاني/ يناير 2017. كما خسرت قرى وبلدات وادي بردى والغوطة مئات آلاف الأشجار، في عمليات التصحير والتدمير.
من الجلي أنه ومع حلول الذكرى الثامنة لاندلاع الانتفاضة في سوريا، ينطبق على نظام «البعث» في سوريا ما قاله الكاتب الإنكليزي لويس كارول، في روايته الشهيرة «أليس في بلاد العجائب» على لسان «قط الشيشاير»: «إن لم تكن تعرف إلى أين تمضي، فإن أي طريق سيوصلك إلى هناك». فإلى أي «غد حرّ كريم يمضي البعث قوياً» بعدما غدا فشله طوفان نفايات في بلاد البعث؟
درج