مراجعات كتب

قراءة في كتاب مراد يتكين: “الفخ الكردي-ثلاثة مقالات-/ بكر صدقي

أوجلان وتاريخ الفرص الضائعة/ بكر صدقي

يغرق قارئ كتاب مراد يتكين “الفخ الكردي” في سرد تفصيلي لوقائع إخراج أوجلان من دمشق، إلى درجة المخاطرة بإضاعة مغزى اللوحة الكلية. لكن بعض التفاصيل الصادمة تعيد إليه الحس النقدي الذي يبحث، وراء سطح الأحداث، عن معنى تطورها.

يتفجع أنصار أوجلان عموماً من رحلة هروبه الطويلة من دمشق إلى اليونان، فروسيا، فإيطاليا، تلك الرحلة التي فشلت فيها لوبيات الحزب في أوروبا وروسيا في تأمين لجوء سياسي له، باعتبارهم عدم تجاوب حكومات تلك البلدان مع مطلب منح “القائد” اللجوء السياسي “مؤامرةً دولية” قادتها الولايات المتحدة ضد الحزب.

الواقع أن تمكن أوجلان من البقاء طليقاً طوال أشهر، قبل تسليمه في العاصمة الكينية إلى المخابرات التركية، هو الذي ينبغي تسليط الضوء عليه. ذلك أن عبد الله أوجلان هو، في نهاية المطاف، قائد منظمة مسلحة تحارب جيش دولة عضو في حلف الأطلسي. ومن هذا المنظور، يفترض بدولتين كاليونان وإيطاليا، عضوين في الحلف نفسه، أن تسلماه لتركيا بدلاً من حمايته، فتركيا تعتبره إرهابياً قاتلاً مطلوباً للعدالة. وينطبق الأمر نفسه، بدرجة أقل، على روسيا. فلا دولة يمكن أن تتورط في حماية شخص بمواصفات أوجلان ما لم تكن لديها دوافع قوية كالمصلحة القومية. وإذا كان بالإمكان تفسير الأمر بخصوص اليونان التي بينها وبين تركيا عداء تاريخي تضاعف بعد الغزو العسكري التركي لجزيرة قبرص، فلا ينطبق التفسير نفسه على إيطاليا ودول أوروبية أخرى كانت مرشحة لاستقبال أوجلان، لكنها تراجعت تحت ضغوط أميركية.

إن ما ساعد على فتور همة تلك الدول في التجاوب مع الضغوط التركية لتسليم أوجلان، إنما هو نظرتها إلى المسألة الكردية في تركيا بوصفها قضية حق شعب يتوق إلى الاعتراف بوجوده والحصول على حقوقه في الحرية والعدالة والمساواة، وإلى الدولة التركية بوصفها دولة قمعية تمييزية تعاند الاعتراف بتلك الحقوق ولا ترى في المسألة الكردية إلا إرهاباً تجب مواجهته بالقمع الدموي.

حين كان أوجلان في إيطاليا، بصفة مؤقتة، كان رئيس وزرائها ماسيمو داليما يبحث مع حكومات دول أوروبية كألمانيا وهولندا عن المبادرة إلى تقديم حل تفاوضي للمسألة الكردية في تركيا، بالتوسط بين الحكومة التركية وحزب العمال الكردستاني. طبعاً لم تتحول هذه الأفكار إلى مبادرات عملية، ليس فقط بسبب الضغوط الأميركية على الأوروبيين في موضوع أوجلان، ولكن أيضاً بسبب رسالة وجهتها منظمة هيومن رايتس ووتش الحقوقية إلى رئيس الوزراء الإيطالي، أوردت فيها معلومات موثقة عن جرائم قتل قامت بها منظمة حزب العمال الكردستاني بحق مدنيين أو خصوم سياسيين من الكرد إضافة إلى “حراس القرى” الموالين للدولة التركية الذين يعتبرهم حزب العمال الكردستاني خونة.

وينقل يتكين عن الصحافية الأميركية أليزا ماركوس التي ألفت كتاباً بعنوان: “الدم والإيمان: حزب العمال الكردستاني وحرب الاستقلال الكردي” مقاطع صادمة عن نمط الحياة المرفهة التي عاشها أوجلان في سوريا، وعن طبعه النرجسي المتمحور حول الذات، ما يثير النفور من هذا الشخص المتنطح لتمثيل حقوق شعب. فتذكر ماركوس أن أوجلان كان يتنقل بين دمشق وحلب حيث يملك في كل من المدينتين فيلا فخمة تحيط بهما حديقتان فيهما حوضا سباحة، وأن عدداً من النساء كن مسؤولات عن أداء الأعمال المنزلية في الفيلاتين، إضافة إلى عملهن في توثيق أقوال القائد، وأن المقاتلين الذين يأتون من حياة الشظف في الجبال لمقابلته كانوا يصدمون بمظاهر الرفاهية التي يعيش فيها. أما عن نرجسيته الشديدة، فتذكر ماركوس أنه كان يحب لعب كرة القدم مع مقاتليه في معسكر التدريب، فكانوا، طوال المباراة، يمدونه بالكرات ليسجلها أهدافاً. ثم يسأل أحدهم، بعد انتهاء المباراة، عن عدد الأهداف التي سجلها. وفي إحدى المرات غضب غضباً شديداً حين أجابه الشخص الذي سأله أنه سجل 12 هدفاً، قائلاً إنه هضم حقه بأربعة أهداف! وظل يرغي ويزبد على الرجل حتى اليوم التالي حين أتى على ذكر الموضوع في اتصال مباشر له مع القناة التلفزيونية الخاصة بالحزب حين قال: “إن تجاهل أربعة من الأهداف التي سجلتها هو مثل إنكار قتل أربعة من جنود الجيش التركي”!

ليس فقط أن الحزب، وأوجلان بالذات، أهدرا فرصة تعاطف دول أوروبية مع حقوق الكرد في تركيا، بسبب ممارساتهما ومسالكهما العملية، بل كذلك أضعفا اتجاهات داخل الدولة التركية كانت تنحو منحى ضرورة الحل التفاوضي السلمي، مقابل منح صقور تلك الدولة ما يدعم حججهم لتسويغ النهج الاستئصالي. وفي هذا السياق، يذكر يتكين معلومة، أقرأها للمرة الأولى، هي أنه كانت الأجواء داخل قيادة أركان الجيش، في خريف 1998، ميالة إلى تناول المسألة الكردية من منظور سياسي، جنباً إلى جنب مواصلة ضرب مواقع مقاتلي حزب العمال الكردستاني. كذلك نحن نعرف أن الرئيس الأسبق تورغوت أوزال قد قام ببعض المبادرات لوضع أساس تفاوضي حول المسألة الكردية، لكن موته المفاجئ المثير للجدل قطع ذلك المسار المحتمل. أي أن مبادرات الدولة السياسية لم تبدأ مع حزب العدالة والتنمية كما هو شائع، بل له سوابق وفي بيئة قيادة المؤسسة العسكرية بالذات التي كانت تحكم من وراء الستار في ذلك الزمان.

بدلاً من استثمار تلك الفرص، وبخاصة التعاطف الأوروبي، أهدرها الحزب على مذبح علاقاته المشبوهة مع النظام السوري ودول أخرى لها أجنداتها، إضافة إلى انتهاكاته بحق الكرد ممن يعارضونه سياسياً. صحيح أن الحزب قد أعلن، أكثر من مرة، وقف إطلاق النار من طرف واحد، لإفشال مساعي أصحاب الحلول الإستئصالية داخل الدولة التركية، لكنه بالمقابل قام بعمليات عسكرية مفاجئة وغير مفهومة منحت أولئك الصقور الذريعة المناسبة لقلب الطاولة والاندفاع نحو تصعيد العنف.

هناك نقطة مهمة تستحق التساؤل: حين أبلغه النظام السوري عن ضرورة مغادرته الأراضي السورية، تجنباً لحرب هددت تركيا بشنها على سوريا، كان أمام أوجلان خيارين: إما التوجه إلى جبل قنديل حيث تتمركز قوات الحزب، أو التوجه إلى أوروبا الغربية. وقد اختار الثاني بناء على وعود قدمها له نواب من حزب الباسوك، إضافة إلى مسؤول في المخابرات اليونانية، بالحصول على حق اللجوء السياسي في اليونان. وفي تبرير هذا الخيار الذي سيكلفه حريته، يقول أوجلان إنه فعل ذلك تمهيداً للجنوح نحو العمل السياسي السلمي، من خلال العمل على كسب تعاطف دول أوروبا الغربية لتضغط على أنقرة من أجل إطلاق عملية سياسية لحل المشكلة الكردية.

لكن حسابات البيدر لم تطابق حسابات الحقل، فتحول أوجلان إلى كرة نار تلقي بها الدول في أحضان دول أخرى، وصولاً إلى تسليمه إلى المخابرات التركية في كينيا بجهود الأميركيين.

على رغم كل ما ذكر، يبقى أن مسؤولية الدولة التركية عن استمرار الصراع الدموي إلى اليوم، هي الأكبر بالمقارنة مع مسؤولية “العمال الكردستاني”. ذلك لأنها دولة، ومن المفترض أن تكون هي المبادرة إلى إيجاد الحلول، بدلاً من تأجيج الصراع. ما يحدث في الواقع هو أن الدولة تستعيد رشدها، من حين إلى آخر، فتنحو نحو الحل السياسي، لكن الحسابات الصغيرة للطبقة السياسية تنجح، في كل مرة، في قلب الطاولة والعودة إلى الحرب، تماماً كحسابات حزب العمال الكردستاني قصيرة النظر أو الانتهازية.         

تلفزيون سوريا

عشرون عاماً على اعتقال أوجلان/ بكر صدقي

(قراءة أولية في كتاب مراد يتكين: “الفخ الكردي”)

الواقع أنه كتاب قديم نسبياً، فقد صدرت طبعته الأولى في العام 2004. لكن الطبعة الجديدة، الصادرة قبل أشهر قليلة، تتضمن إضافات مهمة، ربما تزداد أهميتها، هذه الأيام، بسبب عودة أوجلان إلى مسرح السياسة التركية والإقليمية، بعدما سمحت له وزارة العدل باستئناف زياراته الاعتيادية، من قبل ذويه ومحاميه على السواء.

صحيح أن حزب الاتحاد الديموقراطي، الفرع السوري لحزب العمال الكردستاني، هو لاعب مهم في الصراع السوري، بصرف النظر عن غياب أوجلان أو حضوره في المشهد السياسي، لكن عودة “الزعيم التاريخي” إلى الظهور والكلام، من المحتمل أن تكون له آثار مهمة على سير الأحداث في الفترة المقبلة، وذلك بالنظر إلى سوابق مساهماته، وعلاقتها بتوجهات السياسة التركية الداخلية والخارجية، وبالنظر أيضاً إلى وزنه في وجدان مناصريه وتأثيره غير القابل للإنكار على خياراتهم ومسالكهم.

بهذا المعنى، ثمة فائدة في العودة إلى مسار طرده من سوريا واعتقاله ونقله إلى تركيا، في شباط العام 1999، وما سبق ذلك من أحداث ودسائس استخبارية برع الصحافي “مراد يتكين” في الغوص فيها، فأصدر كتابين في هذا الباب، الأول بعنوان “كتاب الدسائس للمهتمين” والثاني بعنوان “كتاب الجواسيس للمهتمين”.

أما في الطبعة المزيدة من كتابه “الفخ الكردي: أوجلان من دمشق إلى إمرالي” الصادرة

بمناسبة مرور عشرين عاماً على اعتقال زعيم حزب العمال الكردستاني، فقد جمع أكبر ما يمكن من معلومات حول تلك العملية التي ما زالت الدولة التركية تفخر بإنجازها بوصفها عملية دبلوماسية – استخبارية – سياسية ناجحة، ناقلاً شهادات موثقة من رجال السياسة والاستخبارات والدبلوماسية وضباط الجيش والشرطة ممن كانت لهم أدوار فيها.

في مقدمته للطبعة الجديدة، يلفت يتكين نظر القارئ إلى وقائع من الماضي قد تشكل دليلاً لقراءة الحاضر، بخصوص الدور الأميركي في أحداث المنطقة، وما يهم منها تركيا بصورة خاصة، فيقول إن جينا هاسبل التي عينها الرئيس الأميركي دونالد ترمب، أواخر العام الماضي، على رأس السي آي إي، خلفاً لمايك بومبيو الذي سيصبح وزيراً للخارجية، كانت في العام 1999 ترأس مكتب السي آي إي السري في تركيا. وهو العام الذي شهد التعاون الاستخباري الأهم بين الولايات المتحدة وتركيا، من خلال الدور الرئيسي الذي لعبته الاستخبارات المركزية الأميركية في إخراج أوجلان من السفارة اليونانية في كينيا، حيث كان يختبئ، وتسليمه للاستخبارات التركية (MİT) في 15 شباط 1999.

“كانت للولايات المتحدة، في ذلك الوقت، ثلاث أولويات استراتيجية فيما خص تركيا “يقول يتكين، ثم يعددها بالترتيب التالي: “1- خط نقل النفط باكو – جيهان؛ 2- التحضيرات القائمة من أجل غزو العراق؛ 3- التقريب بين تركيا والاتحاد الأوروبي”. لنلاحظ هنا أن يتكين ممن يتبنون النظرية التآمرية القائلة إن احتلال العراق تم بترتيب مسبق قبل وقوع هجمات 11 أيلول 2001 التي دفعت إدارة جورج بوش إلى شن حربين على كل من أفغانستان والعراق. ويعترف يتكين بجهله بما إذا كان لهاسبل دور ما في تحديد تلك الأهداف الاستراتيجية أو تنفيذها أم لا، بالنظر لسرية عمل الاستخبارات المركزية. لكن ذلك لا يمنعه من لفت النظر إلى وقائع متزامنة حدثت أثناء تولي هاسبل لمحطة الاستخبارات المركزية في تركيا، أي العام 1999، وفي مقدمة تلك الوقائع اعتقال أوجلان بدعم مباشر من السي آي إي. أما الوقائع الأخرى فهي كما وردت في مقدمة الكتاب:

    في 21 آذار 1999، استقل فتح الله غولن طائرة تابعة لشركة الخطوط الجوية التركية متوجهاً إلى الولايات المتحدة حيث استقر في بنسلفانيا وتابع نشاطه من هناك قائداً لجماعة دينية كبيرة كانت حليفة لحزب العدالة والتنمية في السنوات الأولى لحكمه، ثم تحول التحالف إلى عداء فصراع وجودي، منذ العام 2013، وبخاصة بعد المحاولة الانقلابية الفاشلة في 15 تموز 2016.

    في أشهر الربيع بدأت الولايات المتحدة بتقديم السلاح والذخيرة لمقاتلي البيشمركة التابعين لبارزاني وطالباني. ويعتبر يتكين هذه الخطوة، في إطار العقل التآمري نفسه، تمهيداً لغزو العراق وإقامة كيان فيدرالي في شماله، فكتب يقول: “في اليوم نفسه الذي وافق فيه الرئيس الأميركي بيل كلينتون على العملية الاستخبارية المشتركة بين سي آي إي والاستخبارات التركية، أي في 5 شباط، وقع أيضاً على قرار بتقديم المساعدات للبيشمركة الكردية”.

    في 18 تشرين الثاني 1999، تم التوقيع على إنشاء خط نقل النفط “باكو – جيهان” في أنقرة، بمشاركة كل من الرئيس التركي سليمان ديميريل ورئيس أذربيجان حيدر علييف ورئيس جورجيا أدوار شيفارنادزة، وبحضور الرئيس الأميركي بيل كلينتون كشاهد على التوقيع.

    تركيا التي أوقفت التعامل بحكم الإعدام، بمناسبة محاكمة أوجلان، أصبحت عضواً مرشحاً في الاتحاد الأوروبي، في قمة هلسنكي المنعقدة في 10 كانون الأول 1999، وذلك بعدما تخلت اليونان عن استخدام حق الفيتو بخصوص عضوية تركيا، “بسبب دورها المخجل في إيواء أوجلان بعد إخراجه من سوريا، وبسبب الضغوط التي مارستها كل من الولايات المتحدة وفرنسا وألمانيا وبريطانيا عليها” حسب مراد يتكين.

    من مساوئ هذا النوع من التحليلات أنها تترك لخيال القارئ أن يذهب بعيداً في استنتاجاته. فاللوحة التي يقدمها يتكين، أعلاه، توحي بأن الولايات المتحدة هي من يمسك بكل الخيوط كما لو أننا في مسرح دمى. فهي التي سلمت أوجلان لتركيا (في 4 شباط اقترح السفير الأميركي في أنقرة على الأتراك “تسليم أوجلان”، فاجتمعت قيادات الدولة العليا واتخذت قرارها بقبول تلك الهدية، كما ينقل يتكين في كتابه)، وهي التي استقبلت، بعد شهر واحد، فتح الله غولن على أراضيها. غولن الذي ستتغلغل جماعة مريديه في مؤسسات الدولة وأجهزتها بتسهيل من حكومة العدالة والتنمية، وصولاً إلى تنظيم انقلاب عسكري فاشل على الحكومة، بعدما اتسع الشقاق

    تكمن أهمية الكتاب في تجميع عدد هائل من التفاصيل، وبعضها يكشف عنه للمرة الأولى، تفيد في تكوين صورة متكاملة لجزء من التاريخ القريب

بين الحليفين السابقين المدعومين من أميركا. وهي التي ستشترط على أنقرة وقف العمل بحكم الإعدام بخصوص عبد الله أوجلان، وستدعم طلب تركيا للحصول على عضوية الاتحاد الأوروبي، وستذلل العقبة اليونانية أمام فتح باب تلك العضوية. كذلك ستقوم واشنطن بتسليح بيشمركة الكرد في شمال العراق وتدعم إقامة إقليم فيدرالي. وهكذا سيقدم الكتاب مادة غنية لقارئ تركي مشبع بنظرية المؤامرة وبفكرة أن أميركا تحكم العالم.

على رغم ذلك، تكمن أهمية الكتاب في تجميع عدد هائل من التفاصيل، وبعضها يكشف عنه للمرة الأولى، تفيد في تكوين صورة متكاملة لجزء من التاريخ القريب.

لم أتناول، في هذه العجالة، من كتاب يتكين إلا الجانب المتعلق بدور الولايات المتحدة في تسليم أوجلان إلى تركيا. ستكون لنا عودة لاحقة إلى بعض الجوانب الأخرى منه.     

كيف حاولت الاستخبارات التركية اغتيال أوجلان في دمشق؟/ بكر صدقي

(قراءة في كتاب مراد يتكين: “الفخ الكردي”)

كانت عملية فاشلة جديرة بهواة، لكنها ستأتي أكلها لاحقاً. هذا ما يمكن استخلاصه من السرد التفصيلي الذي جاء في كتاب يتكين.

في الخلفية السياسية لقرار الاغتيال، يورد يتكين الخلافات بين أركان السلطة في تركيا التي كانت في حالة من التنافس على استثمار الأمر سياسياً. فقد كانت رئيسة الوزراء تانسو تشيلر تريد حصر العملية في جهاز الأمن التابع لها لكي تقدمها كإنجاز شخصي لها على أمل استثماره في الانتخابات العامة الوشيكة. في حين أن من شأن إدخال رئاسة الأركان في العملية أن يحولها إلى إنجاز لقيادة الجيش ورئيس الجمهورية سليمان دميريل. لذلك فشل السياسيون في اتخاذ قرار الاغتيال، أواخر 1995، ليعود الموضوع إلى طاولة البحث، مجدداً، بعد أشهر قليلة، فيتولى العملية، تخطيطاً وتنفيذاً، جهاز الاستخبارات القومي mit.

“كانت الخطة بسيطة” يقول يتكين “تقوم على تفجير سيارة مفخخة بمتفجرات ذات قدرة عالية على التخريب، أمام أحد الأبنية التي يرتادها أوجلان في دمشق، فينهار البناء ويقتل الهدف بداخله”.

دخلت الخطة مرحلة التنفيذ في 15 نيسان 1996، بقرار تم التوافق عليه بين رئيس الجمهورية ورئيسة الوزراء ورئيس أركان الجيش معاً. وسميت بـ”عملية المرسيدس” نسبةً إلى السيارة العتيقة التي كان يستخدمها أحد عملاء الاستخبارات التركية في جولات الاستكشاف التي قام بها قبل العملية.

كان ثمة ثلاثة بيوت يستخدمها أوجلان في دمشق، أحدها للقيام بالاتصالات الهاتفية بالتقنية الفضائية، ويقع على طريق مطار دمشق الدولي. هذا هو البيت الذي تم اختياره بسبب تردد أوجلان اليومي عليه وإمضائه بضع ساعات فيه، لإعطاء تعليماته إلى مقاتليه في الجبال عبر الهاتف. وسيتم تكليف عميل سوري الجنسية بوضع السيارة المفخخة أمام المبنى ثم مغادرتها وتفجير العبوة عن بعد.

لكن الخطة لم تسر كما خطط لها. فقد رفض العميل المكلف القيام بالعمل المطلوب، حين تم إخباره بشأن العبوة. فتم تكليف عميل آخر، سوري الجنسية أيضاً، سيسجل فشلاً من نوع آخر.

اشترت الاستخبارات التركية سيارتي مازدا متماثلتين، من ذلك النوع المستخدم بكثرة على خطوط النقل الداخلي في المدن السورية (الميكروباص أو الصالون المغلق). أدخلت إحداهما إلى سوريا حيث تم تزويدها بلوحة مرورية سورية، ثم أعيد إدخالها إلى تركيا بعبور نظامي عبر الحدود، حيث تم استبدالها بالسيارة الثانية المزودة تحت أرضيتها بطن من المتفجرات، ومحملة ظاهرياً بشحنة من البطيخ، عبرت الحدود مجدداً إلى الأراضي السورية وتابعت طريقها، من دون عقبات، إلى دمشق.

كان على سائق المازدا أن يركنها أمام باب البناء الذي يتردد عليه أوجلان لإجراء اتصالاته اليومية، ثم يرخي براغي بابها الخلفي لتتجه قوة الانفجار نحو الهدف بصورة رئيسية. لكن السائق العميل الذي سيطر عليه الهلع ركنها على مسافة بعيدة، نسبياً، من بوابة المبنى، ولم يرخ البراغي كما في التعليمات التي تلقاها. وجرى تفجير العبوة عن بعد، لكنها لم تحقق شيئاً من هدفها.

كان ذلك في يوم السادس من أيار 1996، بعد تأكد مركز المراقبة من دخول أوجلان إلى المبنى. فقد كانت اتصالاته الفضائية مراقبة من قبل جهاز الاستخبارات التركي، بصورة دائمة.

لهذا التاريخ رمزية لم يفت يتكين الإشارة إليها. وإذا كان عندنا معروفاً باعتباره “عيد الشهداء” بالإحالة إلى تاريخ إعدام عبد الغني العريسي ورفاقه في العام 1916، فهو معروف في تركيا باعتباره تاريخ إعدام القائد اليساري الطلابي البارز دنيز غيزمش ورفاقه في العام 1972. المصدر الاستخباراتي الذي سأله مؤلف الكتاب عن المغزى من اختيار هذا اليوم بالذات لعملية اغتيال أوجلان، نفى أن يكون هناك أي تعمد في ذلك، مبرراً الأمر بـ”المصادفة البحتة”. لكن العارف بسوابق عناية الدولة التركية بالرمزيات التاريخية، سيعرف أنها ليست مصادفة على الإطلاق. يكفي للتدليل على ذلك النظر في توقيت إعدامات 1972 المذكورة بما يطابق تاريخ إعدامات جمال باشا السفاح في بيروت ودمشق.

العملية الفاشلة ستتحول، بواسطة الإيحاء غير المقصود، إلى قصة نجاح ستحصد الحكومة التركية نتائجها بعد عامين. صحيح أن أوجلان لم يقتل، واقتصرت الأضرار على بعض الدمار في واجهة المبنى وبقربه، لكن عالم الاستخبارات وحكومات الدول أخذت انطباعاً فحواه قدرة المخابرات التركية على اختراق القلعة الأمنية العصية لدولة حافظ أسد التي أقوى ما فيها أجهزة استخباراتها!

جهاز الاستخبارات الأسدي الذي تعرض لهذا الاختراق، فعلاً، راح يعتقل عدداً من المجموعات اليسارية التركية من تلك التي هرب أعضاؤها إلى سوريا بعد الانقلاب العسكري للعام 1980، بحثاً عن عملاء جهاز الاستخبارات التركي. وقد ظل بعض من هؤلاء في معتقلات النظام لسنوات عديدة من غير أن يثبت عليهم أي تورط في عملية التفجير، ولم تقبض على أي من العملاء الحقيقيين ممن شاركوا في العملية في جميع مراحلها.

ولكن، بالمقابل، تفرض نفسها المقارنة التالية بين المخابرات التركية والمخابرات الأسدية: فمقابل الفشل الهزلي للجهاز التركي في عملية الاغتيال المذكورة هنا، نجد “النجاح الباهر” للمخابرات السورية في الاغتيالات العديدة التي قامت بها في لبنان، بما في ذلك التفجير الضخم الذي أودى بحياة رئيس الوزراء اللبناني الأسبق رفيق الحريري ومرافقيه في قلب بيروت، في 14 شباط 2005.

المهم أن قدرة المخابرات التركية على تنفيذ تفجير داخل العاصمة دمشق، قد خلقت انطباعاً لدى حكومات دول عديدة بقوة الجهاز التركي وإمكاناته الكبيرة. ومن بين من انطلى عليهم هذا الانطباع حافظ الأسد بالذات الذي سيتوقف، في خريف العام 1998، عن الكذب كلما سأله الأتراك عن أوجلان المقيم في دمشق، فيأخذ تهديدات سليمان دميريل بإشعال الحرب على محمل الجد، ويأمر بطرد أوجلان خارج الأراضي السورية، ويوافق، بعد ذلك، على جميع الشروط الأمنية التركية فيما عرف باسم “اتفاق أضنة”، كل ذلك بسبب عملية التفجير الفاشلة التي أثارت خوفه.

هكذا يكون الجهاز التركي قد حقق هدفاً كبيراً من حيث لم يقصد ذلك!

اسم الكتاب

Kürt Kapanı: Şam’dan İmralı’ya Öcalan

اسم الكاتب

Murat Yetkin

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى