غسان الجباعي يكشفُ عن الإشعاع المُبدع للمسرح/ أنور محمد
■ المسرحُ مُنذُ أوَّلِ عرضٍ مسرحيٍّ قُدِّمَ، هو فعلُ نهوضٍ عقلي لا تأخُّر تاريخي. والنهوض ليس في النص ـ أي ما يقوله النص؛ بل أيضاً ما يفعله المُخرجُ، حيث خطابه/ إخراجه يكون تنموياً يهزُّ بُنيةَ وهياكلَ الثقافة والاقتصاد والأمن ـ الدولة الأمنية. وإن لم يستطع؛ فيحجمها.
المُخرج غسان الجباعي في كتابه «المسرح في حضرة العتمة» يسردُ ذكرياتٍ، ويحكي عن تجارب عاشها، هي بالنسبة له مشروع عمل يحترم الموروث – البنية الداخلية للمجتمع السوري، مثلما يتألَّم وإلى الآن من أوَّل صفعة تلقاها على وجهه في حياته؛ وبكى عندما اعتقل وهو طالب عام 1983 حين أجاب الرجل القصير النحيل الذي لا يشبه الجلادين بأنَّ مهنته العلمية (مُخرج مسرحي) وليس كشاش حمام أو بائع دخان، ليفتح أفقاً لبُنية حديثة مع المسرح تدعم التماسك التاريخي لهذا المجتمع.
فنستشفُّ من سرده أنَّ أوَّل ما يصطدم الإنسان حين يصير يعي دوره التاريخي- يصطدم مع (النص) كائناً ما كان جنسه، وليس مع الناس، ولكن الأنظمة الاستبدادية العربية تَرْكَبُ النصَّ لكسرِ رَقَبةِ البشر في أن يطيعوها، وتبقى هذه الدولة تابعةً، فيما مجتمعاتها تصير بلاليع استهلاك.
في سرده الذي هو شهادة حيَّة ودقيقة عن حال المسرح إنْ في مدينته «السويداء»، بل وفي المُدن السورية؛ هو يستردُّ المسرحَ من الآلية الصناعية للدولة المستبدة – آلية تطويع المسرح والفنون لخدمة رأيها، هو يكشفُ عن الإشعاع المُبدع للمسرح. ينزعُ فتيلَ الإقصاءِ والإخفاء بدون أن يلغي التناقض بين النور والعتمة، بين العقل والقلب. فالمسرح مَنْجَمُ الأفكار الإنسانية العاقلة. هو الرأسُ الباحثُ عن الحرية، كما عن العدالة، بما لا يتعارض بين المُبدعين، كَنُخَب تعقل، وبين المستهلكين كمجانين تُجننهم الدولة. فالكلمة المسرحية التي يريدها على الخشبة وهي تخرج مِنْ فِيهِ الممثِّل، أن تكون لؤلؤة الحرية الثمينة، لتُعقلن المجنون فرداً أو جماعة، لأنَّ الكلمة هذه تَعدُّ لحالةٍ، تُشَغِلُنا لنصنعَ حالةً ثقافية تليقُ بإنسانيتنا، فنستمتعُ بالجمال استمتاعاً معرفياً، وهو الذي يرفض أن يتحوَّلَ الفنَّان إلى بائعٍ، وشاهدِ زورٍ، والفنُّ إلى سلعةٍ، بل ماخور. وذلك منذ مثَّلَ أوَّل دورٍ مثَّله في مسرحيةٍ شعرية عن عيد الأم عام 1960 وهو في الصف الثالث الابتدائي، إلى أن أخرج مسرحية «أسلحة مدام كارار» لبريخت على مسرح سينما سرايا في السويداء عام 1974 وحتى الآن.
المُخرج غسان الجباعي يرى أنَّ الكلمة على الخشبة هي قوَّة تفكيك وتهديم وإعادة بناء للروح الإنسانية، وهي أيضاً حاجة (لغوية) للعقل كي يُبدع حريته فلا يقع في التكرار وإعادة إنتاج التخلف. فوظيفة المسرح الذي على الخشبة هي إفراز الأصالة كمبدأ ومصدر للتطوُّر، وليس للتفوُّق والتعالي، بما يربط ويُعزِّز ويُنمي علاقة الإنسان بالمجتمع كان يمينياً أو يسارياً أو بين بين.
فالجمال الذي يفرزه المسرح على الخشبة كما يصوِّرهُ الجباعي في كتابه «المسرح في حضرة العتمة» هو مُلكية للناس لكي يحميهم من فيروس الاستبداد، فالجمال يعمِّق شعورنا بالحياة كونه يؤسِّس للنقد – نقد حقائقَ كالإيمان والعلم، لتحلَّ الإنسانيات محل اللاهوت، كان دينياً أو سياسياً. والمسرح عند غسان هو ملكية جماعية لا يجوز استعماله استعمالاً احتكارياً من قبل الأفراد أو الدولة. هو مشاع للناس ليقيم؛ لتقومَ بينهم علاقة ديالكتيكية تقوي وتدعم خبرتهم الوجودية بمعارفهم وعلومهم – بالإنسانيات.
المُخرج على الخشبة المسرحية هو يجمع مسألة كيميائية، ومن ثمَّ يقوم بنشرها على جسد الممثلين بحواسهم الخمس وربَّما الستَّ، وبصورةٍ (وبائية) ليس بالمعنى المرضي، ولكن بمثابة ترياق. بالمناسبة الأفكار التي تحتفل بكرامة الإنسان تبدأ من على خشبة المسرح، وتنتشر بسرعة كبيرة – كما الثورات على المستبدين؛ نذكِّر بالثورة الفرنسية كمثال، فهي أفكار تملك قوَّة العدوى، لأنَّها أفكار تتصارع، تصرع، أو هي مُصارعون صنعوا هذه الدراما/ التراجيديا؛ تراجيديا تُقاسمنا- نُقاسم فيها أبطالها مصيرهم – مصيرنا. فالمسرح؛ العرض المسرحي يُملي، أو يفرض على المُخرج أن يفرجنا كيف صار البطل بطلاً تراجيدياً، وكيف صار الخائن خائناً تراجيدياً – حتى في الكوميديا، هناك صـــــراع، حتى يتمَّ تحقيق الهدف. والمُخرج مهما كان النص (نيئاً) عليه أن يسويه بتقـــــوية الصدام التراجيدي، وهذا لم تقبض عليه إلاَّ قلَّة قليلة من المخرجين المسرحيين السوريين والعرب، وهذا ما يؤرِّق غسان الجباعي، الذي لم يتنفَّس أوكسجين الخشبة ذلك لقلَّة الفُرص، أو لإخماد الفرصة/ إخماد حريقها حين أخرجَ مسرحية «السهروردي» لاحتفالية حلب عاصمة الثقافة الإسلامية 2006، ومُنِعَتْ من المُشاركة.
المُخرج المسرحي حين يُخرج المسرحية ويحولها إلى عرض هو يُفضِّل- أو ضروريٌّ أن يكشف لنا إحساس شخصيات المسرحية بالحب، بالحرية، بالكرامة. وهو يغوص عميقاً وبجرأةٍ وشجاعة في عوالمهم الداخلية ليس كممثلين وحسب، ولكن كبشرٍ ينفعلون ينفعلون، ويجنُّون يجنُّون، ويعقَلون يعقَلون وهم ينتقمون لآلامهم. فالجباعي في عتمته، التي هي أقربُ إلى المذكَّرات المسرحية يعرضُ ويستدعي بألمٍ أحداث الخراب الذي حلَّ بالوطن والعالم، وهو يسوق الأفعال التراجيدية الكارثية التي يصنعها الطغاة بحميميتهم (الأبوية) على شعوبهم. هو يبثُّها إشارات، ولكنَّها واضحة لقسوتها وصدقها كونها ذات طبيعة تاريخية/ إنسانية. إذ يرى أنَّ البشرية تذكر مايكل أنجلو أكثر من أسرة آل مديتشي، وتذكر شكسبير أكثر من ذكر الملكة إليزابيث، وبريخت أكثر من ذكر هتلر وغوبلز، ونيرودا أكثر من ذكر الجنرال بينوشيه، وتذكر لوركا وبيكاسو أكثر من ذكر الجنرال فرانكو.
المسرح كائنٌ قويٌّ، وإذا ضَعُفَ فلأنَّ المُخرجَ ضعيفٌ، يجبُ استعمال القوَّة معه ليس بصفتنا مُستبدين، بل لأنَّ تراخينا كجمهور، هو ما يفسحُ لمثلِ هؤلاء الضعفاء أن يحكمونا، فيتسلَّلُ الجراد والقمل والطاعون والسلُّ ومرض نقص المناعة والسرطان، وكذلكَ «النارُ النووية» إلى روحنا وجسدنا، هذه النارُ التي تُثبِّتُ وجود الدولة المطلقة؛ الدولة المُستبدَّة.
القدس العربي