الناس

غرفة السطوح/ كميل أسود

    «لا بد لكل إنسان من أن يجد ولو مكاناً يذهب إليه، لأن الإنسان يمرّ بلحظات لا مناص له فيها من الذهاب إلى مكان ما، إلى أي مكان! هل تدرك يا سيدي الكريم، هل تدرك ما معنى أن لا يكون للإنسان مكان يذهب إليه؟».

    الجريمة والعقاب، دوستويفسكي

من على حافته اشتهيتُ القفز. اشتهيتُ القفز مرات لا تحصى، بعدد نجوم سمائه وشُهُبها اشتهيتُ القفز، بعدد الطائرات التي حامت وقصفت أهلي على بعد عدة كيلومترات اشتهيتُ القفز، وحدها عُقد الشِفاه الموجهة باسم الحب على مطلّه حالت دون ذلك؛ ذاك القمر الرخاميُ الذي أضاء تلك القبلات، هو ما منعني.

إنه «سطوح» منزلي في حلب الغربية (أصبحت حلب حلبين مع الحرب)، حلب الأم والمقبرة، حلب البَرَكة والمجزرة؛ سطوحي الذي حوى غرفة لها باب يُدخلك إليها بعد تسلّق درج البناء اللولبي، فيها سريران جمعا أجساد معظم علاقاتي وعلاقات أصدقائي، ومطبخ وحمام صغيران حاولا سدَّ حاجاتي وحاجات من طلب قضاء الحاجة أو سدّها، ومدفأة لم تعمل قط بسبب قصر ارتفاع السقف.. هكذا قال لنا «أبو الشومينيهات» على الأقل.

باب غرفة السطوح مصنوع من الحديد، حتى الآن لا نعلم لا أنا ولا عائلتي لماذا هو حديدي؛ هل نتوقع أن يأتي سارقٌ من السماء فنمنعه بباب حديدي؟ تتصدر السطوحَ بحرةٌ صغيرة، مرمرُها أزرقٌ سماوي، فيها قضيبٌ معدني ينتصب في وسطها، كانت وظيفته أن يكون نافورة ماء في الماضي، ولكن الصدأ تسلّقَ حديده مع تقدّم الزمن، وأصبح دعابة «الخازوق» التي يحب أصدقائي إطلاقها عليه. كانت هذه البحرة حوض استقبال قشور الفستق السوداني، وبقايا كاسات العرق المتعرّقة، والكثير الكثير من الرصاص الطائش الذي كنت أجمعه في صباحات الأيام التي تلي السهرات الطوال، عند جمعي لبقايا أوساخ سهرتنا منها.

منزلي كان في الطابق الثالث، وهو منزلٌ  كبيرٌ نسبياً، ولي فيه غرفة خاصة لم أكن أشعر بالحرية فيها. كان والديَّ كبيران في السن، يتجولان دائماً في المنزل فأسمع وقع خطواتهما تدبّ في منتصف جمجمتي. ولحسن حظ التعساء، أتى اليوم الذي قررا فيه ترتيب غرفة السطوح وجعلها للآدميين، فقد كانت «غرفة الكلب» قبلي.

عاش أخي الوحيد الذي يكبرني بعشرين حولاً على أمل وجود أخٍ في حياته، وكلّما كان يلحُّ على أهلي بطلب أخ له كانوا يجلبون له كلباً تلو الآخر بدلاً من الأخ، فتمت تربية معظم كلاب أخي في تلك الغرفة على ذلك السطوح، إلى أن أتيت أنا، كلبٌ «يعي وجوده». وهكذا استُبدِلَت الكلاب بي، فأنا لا أعضّ  ولا أنبح، ولا أحتاج إلى كثيرٍ من العظم والدجاج، لكنني وفيٌّ مثلها. على كل حال، بدأت الغرفة تتحول إلى مكان صالح للسكن، وبدأ أهلي بتأجيرها لكسب بعض المال قبل تحوّل الثورة إلى حرب بعدة سنوات، وما لبثت أن انفجرت الحرب، فلم يعد أحدٌ يجرؤ على استئجار الغرفة، فالأسطح لدينا كانت مستقبلات لهاونات المجاهدين، كسر الله أيديهم وأدخلهم جهنم بلا حوريات، مع كثيرٍ من حرق الجلود واستبدالها إلى الأبد.

سقطت الغرفة بالتقادم المُكسِب في أيدينا أنا وأصدقائي وصديقاتي. استلمتُ مفاتيحها بحجة عدم التأخر خارج المنزل في العام 2012، عندما كانت حلب على وشك أن تتحرر أو أن تسقط (على هواكَ/كِ)، فأصبحت مدينة أشباح حتى في حارات «المسيحية» في القسم الغربي منها، التي كانت أشد المناطق «أمناً وأماناً» أثناء المعارك.

رحت أعيد تعميرها الفني وأضيف لمسات عليها، فقد كانت جافة مملة، كأنها غرفة نوم أحد ضباط الاتحاد السوفييتي؛ مكعبة الشكل تماماً، فلم يكن دماغي الكروي يناسبها، ولا هي كانت تتسع فيه، فلا مكعب يسقط في كرة مفلطحة، ولا كرة تسقط في مكعب أصغر منها.

افتتحتُ غرفتي بقناع V for Vendetta، الذي أهدتني إياه صديقة أحضرته من بريطانيا خصيصاً لي لمعرفتها بعشقي لهذا الفيلم، فوضعته في صدر الغرفة وزينته بِـ «عكال» أحمر، لا أعلم لماذا. ثم أحضرتُ كرسياً هزازاً مصنوعاً من القش والخشب البني الغامق، ورثته على حياة عين جدتي أطال الله في عمرها، فهي حية ترزق إلى اليوم، وقد تجاوزت الحرب العالمية الثانية والانتداب الفرنسي في مراهقتها ومطلع شبابها، وتجاوزت الثمانينات وبونات السكر والرز وهي تدخل الكهولة، ثم الثورة والحرب وسقوط شرفة بيتها جراء هاون طائش وهي عجوز. ذهبتُ إليها وأخذتُ الكرسي بحجة الدراسة والهزّ والارتخاء عليه أثناءها، ثم تحوَّلَ هذا الكرسيُّ إلى كرسي «من يصل أولاً» من أصدقائي الكثر، فأصبحوا يهتزون وتهتز معهم أحاديثنا وأفكارنا والبيوت من تحتنا جراء القذائف الموازية لاهتزازه.

كنتُ دكتاتورياً في استئثاري بالكرسي معظم الوقت، وأيضاً في وضع موسيقى السهرات والصبابة، وهذا مثالٌ عن دكتاتوريتي العادلة. أتساءل كيف لبشار الأسد أن ينزاح عن كرسيه وكرسيّ والده الذي جهزه له من بعده، وأنا بدوري لا أشارك كرسياً هزازاً عتيقاً، من قشّ له من الثقوب عدد سنين أصدقاء عمري! لا أعلم إن كانت المشكلة في مفهوم الكرسي نفسه، أم في إلية من يجلس عليه، أم في عقله، أم في كل هذه الأشياء معاً.

تدخلي السيميائي التالي كان جواباً عن ملل حيطان الغرفة الأربعة من نفسها، فاستعنتُ بصديقي المخرج السينمائي الأرمني الحلبي العالمي متقاطع الهويات وعابرها، ليمدني بمكتبته الفنية التي تحوي عدداً لا يحصى من اللوحات، فاخترتُ منها لا على التعيين.

كان في الغرفة سريران، أحدهما خاص بي و بحبيبتي السمراء، والآخر أملاك عامة. هكذا كان قانون الغرفة. المهم، اخترتُ للجدار الملاصق لسريري لوحات مطبوعة طباعة ممتازة عند المصور ديكران في حي العزيزية، الذي كان الأشهر من بين أقرانه وأغلاهم على ما أذكر. اخترتُ له أعمالاً للفنانين Cara Thayer و Louic Van Patten، فتربعت عليه لوحاتهما المؤلفة من وجوه وأجساد معجونة بشكل رهيب يعطي انطباعات أعمق من موضوع العمل نفسه، وكأن هذه الوجوه والأجساد معجونةُ أطفال بيد الله، يلعب بها وهي تشاهدنا على السرير نزاول الحب وأحاديث الظهيرة، ساعتنا المفضلة أنا وحبيبتي للهرب من عجقة درج البناية إلى غرفة السطوح. الطريف في الأمر كان وجود صليب كبير خشبي فوق سريري، منعتني أمي من إزالته لتحتفظ الغرفة بهويتها السابقة؛ لن أشتهي أن أكون مكان ذاك المصلوب في هذه الغرفة ما حييت!

للجدار الذي يلامس كتف جدار السرير، اخترتُ أعمال Andrew Wyeth، رسامٌ أعتقد أنه يرى الريح ملونة فيستطيع رسمها من على النوافذ مخاطباً انحناءات الأشجار، محترماً الطبيعة والفراغ أمام أوجه شخصياته، مصوِّراً عمق مشاعرها الساكنة وارتباطاتها بمحيطها الجاف؛ معظم أشخاصه أداروا ظهرهم له، لكنني أشك بأنه هو من أدار ظهره لمن أحب الحياة، فلوحاته موتٌ ملونٌ بألوان صابون الغار، تدرجات البني والزيتي والبيج. اخترتُ إحدى لوحاته لتكون صورتي على الواتساب أثناء عملي في منظمة إغاثية، كنا ندّعي فيها التخفي (على أساس) لحماية أنفسنا من دماثة المخابرات؛ صورتي كانت رجلاً قصيراً أشعث الشعر، يجلس على كرسي صغير شارداً من الشباك، يدير ظهره للعالم. لا أعرف لماذا اخترتُها، من الممكن أنه كان لديَّ معرفة باطنية بأن جميع نشاطات العمل الإغاثي عدمية أمام كل هذا الدمار.

في الجدار الثالث كان Denis Forkas حاضراً بذاكرته الثقيلة عن الاتحاد السوفييتي، وبتأثره بالإغريق حيناً وبالسحر والصوفية حيناً آخر، يرسم الموت بتفاصيل من خيوط وأشكال تبث في أصدقائي الرعب والهلع عندما تنعكس ظلال الشموع على اللوحات.

لكن لوحتي المفضلة كانت لرسام يدعىRaoef  Mamedov، توسطت تجمع اللوحات في صدر الغرفة، تحفته كانت تحاكي لوحة العشاء الأخير لليوناردو دافنشي، يتوسطها مسيح بمتلازمة داون تعلو وجهه ملامح المتلازمة مليئة بالأنسنة ذات جمال مبهر، وحوله تلاميذه الاثنا عشر (الحواريون) أيضاً بالمتلازمة ذاتها، كلٌّ منهم ينظر باتجاه مختلف، يشرد في شيء لا نعلمه، ولطالما استفزت هذه اللوحة معظم أصدقائي مسيحيين كانوا أم مسلميين أم مطيزين.

طبعاً، لا ثقافة لي في مجال الرسم على الإطلاق، وسردي للأسماء أعلاه تم عن طريق بحثي ضمن مكتبة صديقي المخرج المؤرشفة بحسب أسماء الرسامين؛ وبالاستعانة، طبعاً، بالخال غوغل، لكنني ومع ذلك أدّعي أمام نفسي تذوق الفن بشكل عام، والمعاصر منه بشكل خاص، لأنني أعتقد أنه لا داع لأن تعرف السياق التاريخي والمدرسة الفنية بشكل معمق، بل فقط أن تشعر، ما أجمل أن نشعر!

بعيداً عن الحيطان الأربعة وما لها وما عليها، كان سطوح الغرفة يمثل المفهوم المعاكس لمفهوم «العلاقة عن بعد»، فقد كان «علاقة عن كثب»، لكنها في الوقت نفسه علاقة يتحكم بها الريح والليل وغياب الكهرباء، فزاوية بنايتنا شمالية، وجلساتنا كانت في حضرة عتم السماء؛ كان الليل يلهينا عن تتبع تعابير وجوهنا، فكنا نتبادل الأحاديث والدموع والضحكات دون ملامح؛ ما أجمل تلك الثقة، الثقة القلبية، الرؤى القلبية.

وأنا اليوم، أجول وأصول في الغرفة وأتمشى فيها وأخرج إلى سطوحها الشَرِح، وأنا بعيدٌ بُعدَ قارّة وطائرة والكثير من حواجز التفتيش عنها، أرى حبيبتي السمراء تمشي بقربي فيها، ذات العيون الصغيرة التي تتسع الوطن وأهله ووجعهم، ترتبها وتساعدني في تنظيفها وتجلس على الكرسي الهزّاز، تتفقد هاتفها من رسائل أهلها المزعجة وخوفهم المشروع عليها مني، أنا اللاأخلاقي الذي لا أحبّ وطني «بيت الأسد». تضبط هاتفها على وضعية الصامت، وتلتفت إليّ، أنا المُتعِبُ دائماً وهي المريحة أبداً، نحمل بعضنا بعضاً ونتشارك الصمت والكلام والعري.

أفتقدُها اليوم لأسباب لا تحصى، منها نرجسيتي وأمراضي العقلية وسرطاني العكروت المتربص، وانعدام سطوح مشترك بيننا، أو غرفة تضعُ أعيننا في سقف واحد. ليس لدي مشاعرُ لأشاركها إياها هنا. لم أكذب عليها عندما قلتُ لها إنني فقدت مشاعري تجاهها مع البعد وقهره، لكن العلاقات عن بعد لا تنتهي بانتهاء الكلام وحسب، فالأرشيف الرقمي خاصتنا طعنٌ في جبين الصفح والتعافي، لم أقل النسيان حتى. كمية الهواء انخفضت إلى النصف من بعدها، وكأن الألوان أصبحت أبهت، والمشتهيات باتت أقل طعماً والسماء أقل زرقة والماء أكثر لزوجة والنَفَس أقرب للهاوية منه للهوى. كلّما شعرتُ بالضعف أسمع رسائلها الصوتية على كافة وسائل التواصل، وأصلّي منتظراً غرفةَ سطوحٍ مستقبلية تجمعني بها بشكل عبثي. إنه اعترافٌ بالضعف، لم تعلّمني أمي عليه، ولم تخبرني عنه، ولم يسمح لي والدي بذرف دمعة واحدة من دون عبارة «إيش… بنت؟!». من قال له إنني لا أتمنى أن أكون امرأة، لا بل وشديدة الضعف، فأسمح لنفسي بالبكاء جهاراً، وأن أفتخر بنهديَّ وأن أنجب قبيلة من الأطفال، فأكسر جميع الصور النمطية خاصته!

    أنا غرفة انتظار عتيقة

    مليئة بالورود الذابلة

    يملؤها خليط عجيب

    من أزياء فات زمانها

    ولا يتنفس فيها عبير عطر مسكوب

    إلا الرسوم النائحة

    ولوحات بوشيه الشاحبة.

                     شارل بودلير

لَفَظتنا حلب واحداً تلو الآخر، فاختار السطوح القاسي جمع العديد من حفلات/جنازات الوداع، كانت أصواتنا مخنوقة أثناءها، لم نكن نستطيع النظر في أعين بعضنا بعضاً، نجلس على كراسي بلاستيكية بيضاء ونمدد أقدامنا على البحرة، ونسهو في الغيم، نتحدث عن إمكانية التقائنا في الشتات، ونحن نعلم ضمنياً صعوبته؛ كنا نحاول غناء بعض الأغاني  لنخفف مرارة الوداع، كانت على طريق عيتيت (أبدلنا عيتيت بحلب فيها) وعصفور طلّ من الشباك أقربها إلى دمعنا.

جمع هذا السطوح من الأصدقاء الكثير، من مختلف الأعمار والأديان والثقافات، توحدوا في حبّهم للعلو والمشاركة في الأوجاع وهدر الوقت في المزاح والنق، كثيرون منهم التقوا هناك من دون سابق معرفة. كانوا يهربون إليه بعد تعب الدراسة أو العمل أو المشاكل العائلية، أو لمشاركة الأسئلة الوجودية فيما بيننا.

وتلك الغرفة المشبعة برائحة الزمن حيناً وبعطور من مرّوا حيناً آخر، الممتلئة بالشموع على زجاجات النبيذ التي ناحت انتهاء دمها وفرحنا به، الممتلئة بالأحلام المكسورة والأغاني الحزينة وبأصوات الطائرات. كانت قوقعتنا، مخبأنا السري الذي لطالما ضمَّ أصدقاءً طلبهم الأمن للزيارة فمكثوا في الغرفة لعدة أيام حتى زال الخوف، وأصدقاء لم تكن لديهم رفاهيتي في ممارسة الحب متى أرادوا، فكانت الغرفة ملاذهم، وآخرين ضاقت بهم الدنيا فاتصلوا وهم تحت بنايتي قائلين: افتح، معنا الكثير من مذهبات العقل، لنيأس سوية على سطوحك، لنبتعد قليلاً عن انفصال طرفي المدينة وخصامهما، فلطالما حضنت الغرفة وسطوحها بدايات علاقاتي ونهاياتها وخيباتها؛ لطالما أشعلت هذه المجرة المصغرة أحلامنا عن الحرية وفيها، أحلامنا بأن نبني وطناً لانخاف فيه من الحب وعلانيته؛ لطالما رسمنا مستقبلنا ونحن نسكر ونهتز على الكرسي، ونحن نضحك ونحن نبكي، ونحن نصلي ونتضرع. واليوم، سافر كل الذين مرّوا على هذه الأمتار القليلة، وانتشرنا وأصبح كل منا في شتاته معزولاً، نحوّلُ أمكنتنا الأصيلة إلى مجموعات واتساب مصطنعة، وبقي ذاك المكان وحيداً مُحتَرِماً فراغه، شاهداً على ما كان.

هذه هي أنا، تؤنّثني غرفة سطوحي، ولا أستطيع إلا تذكُّرها، لا تذكيرها.

موقع الحمهورية

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى