في الحنين إلى سورية/ هيفاء بيطار
نزح ثلث الشعب السوري من الجحيم منذ بداية الثورة السورية، وتوزعوا في بلدان عديدة. وبمتابعة أخبار نازحين كثيرين في أوروبا وكندا، تلمس لدى كثيرين منهم حنينا للرجوع إلى سورية، وخصوصا من الخريجين الجامعيين الذين كان لهم عملهم المهم في سورية، ودخلهم الذي يؤمن لهم ولأسرهم عيشاً كريماً، ومعظمهم أطباء متخصصون ومهندسون ومدرسون، في منتصف العمر. وبمتابعة ما يكتبونه على صفحاتهم في مواقع التواصل الاجتماعي، يبدو أن كثيرين منهم، وبعد أكثر من خمس سنوات من العيش في المنفى، بدأ يقوى عنده شعور الحنين للعودة إلى مدنهم في سورية، الأمر الذي يعود لأسباب عديدة، أحدها أن معظمهم لم يتمكنوا من تعديل شهاداتهم العلمية، ففي هولندا مثلاً يحتاج الطبيب السوري الإختصاصي إلى خمس سنوات، لتعديل شهادته في الطب، أي إذا أفلح في تعديل شهادته يكون قد قارب سن التقاعد، وفرص إيجاد عمل له ضئيلة جدا! ولم يتمكّن عديدون من هؤلاء السوريين النازحين، وقد تجاوزوا منتصف العمر، من تعديل شهاداتهم وإيجاد عمل. معظمهم لا يزالون يعيش على راتب دولة اللجوء الذي تكلفهم دوماً بأعمال تطوعية مجانية، تستهلك معظم وقتهم، فأطباء سوريون أخصائيون في هولندا مثلاً تكلفهم الحكومة بأعمال تطوعية، مثل متابعة حالات مرضى ومصابين في الحرب السورية، وبالتعاون مع مسؤولين هولنديين.
أطباء عديدون من هؤلاء يفكرون في العودة إلى مدنهم في سورية، بعد أن اطمأنوا إلى مستقبل أولادهم من حيث الدراسة والعمل، ويأملون أن يتمكنوا من استئناف عملهم السابق، فيعيدون فتح عياداتهم أو مكاتبهم الهندسية. اضطر مهندس من حلب إلى الهجرة مع أسرته إلى كندا، ووفق في إيجاد وظيفة بعيدة عن دراسته. وكان لديه في حلب مكتب هندسي، ويعمل في تعهدات البناء أيضاً. وبعد خمس سنوات من إقامته الآمنة في كندا، بدأ الحنين ينهش في روحه، شوقاً لحلب وقد خفت جحيمها، وهو الذي لم يخرج منها نازحا، بل تمكنت أخته من إرسال دعوة له ليزورها في كندا، ولذا يستطيع العودة إلى حلب، والتأمل أن ينعش مكتبه الهندسي، ويعود إلى العمل، لكنه لا يحس بالأمان، ولا يجرؤ على اتخاذ قرار العودة، بل تمر به الأيام والشهور، وهو ممزّق بين العودة إلى حلب أو البقاء الآمن في كندا، يسأل في “فيسبوك”: إلى أي سورية سأعود؟
أحد هؤلاء النازحين السوريين كان سجيناً سياسياً (رابطة العمل الشيوعي) تسع سنوات في سورية في فترة الثمانينات، كما تم اعتقاله مرتين منذ بداية الثورة، أمضى في كل منهما شهرين في المعتقل. طلب اللجوء إلى السويد، وتحقق طلبه، ولجأ مع أسرته إلى السويد، لكنه لم يطق تعلم اللغة، ولم يتحمل المناخ البارد، ولم يُوفق في إيجاد عمل، وهو في الخامسة والخمسين من عمره، فرجع إلى سورية ليعيش في منطقة يسيطر عليها الأكراد، وسورية أصبحت مُقسمة إلى دويلات. لم يندم على تركه العودة من السويد، ووجد لنفسه عملا، وتمكن من تحقيق دخل يؤمن له عيشاً كريماً، ويعيش الآن مرتاحاً في سورية، بعد أن اطمأن إلى مستقبل أولاده في السويد، من حيث الدراسة وضمان المستقبل.
وهكذا وقع شرخ كثير في عائلات سورية نازحة عديدة، فصل الأهل عن أولادهم. ونازحون سوريون لم ترافقهم زوجاتهم اللواتي فضلن البقاء في بيوتهن في سورية، لأنهن لا يطقن تركها مهما كان الثمن. مزقت الحرب أسرا كثيرة، وفصلت أزواجا عن زوجاتهم، وأبناء عن آبائهم وأمهاتهم. وأصبح المشهد السوري مأساوياً، ففي وقت يعود فيه نازحون سوريون إلى مدنهم وبيوتهم، حتى لو كانت متضرّرة، ثمّة أسر تنزح من مدنها السورية إلى أوروبا، وتنتظر أسر دورها في الهجرة إلى دول أوروبية أو إلى كندا. لم يعد السوري مستقراً نفسياً، فبلده قربها عذاب وبعدها عذاب. ومن تجاوزوا منتصف العمر يحرقهم الحنين إلى بلدهم، لأن لا مستقبل ينتظرهم في بلد المنفى، ويعيشون ممزقين نفسياً بين التوق إلى العودة والخوف من العودة إلى وطن أجبرهم على تركه انعدام الأمن والأمان، والفقر والخوف على حياة أولادهم، خصوصا إذا كانوا شباباً، من أن يتحولوا إلى “شهداء أبطال”.
في الصفحة نفسها في “فيسبوك”، تجد سوريين يكتبون عكس بعضهم. أحدهم ينهشه الحنين إلى الوطن ويريد العودة، وآخر يكاد يفقد صوابه من ضغوط المعيشة في سورية والغلاء وانعدام الأمان. كل سوري خاسر، فوجع الحنين يقابله وجع العيش غير الكريم في سورية، وكل سوري خاسر. ولا أحد يبالي بحل الأزمة السورية، لأن حلها للأسف لم يعد بأيدي السوريين. إلى متى سيتحمل السوريون عذاب الروح، وقد تجاوز صبرهم صبر أيوب.
العربي الجديد