الناس

من الرقة إلى الباغوز إلى مخيم الهول/ أحمد إبراهيم

مقدمة لابدّ منها

مُحدِّثَتي هي سيدة سورية، زوجة مهاجر سعودي كان خلال فترة وجود داعش في الرقة قائداً لقوات النخبة في مدرسة الزراعة في ريف تل أبيض الشرقي، ثم أمير الحدود للمنطقة الشمالية، وبعدها أمير المكتب الأمني لقطاع تدمر، ومن ثم أميراً لقاطع الكرامة بريف الرقة الشرقي. وكانت السيدة قد تزوجته عام 2015.

هي الآن أمٌّ لطفلتين، لكنني لا أرى فيها سوى تلك الفتاة الضاحكة ذات الضفيرتين، المتميزة في دروسها إلى درجة أنها كانت تساعدني عندما أنشغِلُ في صفّ آخر حيث كنتُ أعملُ مُدرّساً لصفوف مُجمّعة؛ والصفوف أو المدارس المُجمّعة هي تلك التي يتم فيها جمع تلاميذ من صفوف دراسية متفاوتة، بحيث يتم تدريسهم في شعبة واحدة من قبل مدرّس واحد لكل المستويات وكلّ المواد. كانت تساعدني في حلّ بعض المسائل لتلاميذ الصفوف الأدنى من صفها، بل وأحياناً تساعد مع من هم أعلى منها بصفّ دراسيّ.

إذن، هي إحدى تلميذاتي في مدرسة مُجمّعة من مدارس ريف الرقة الشمالي بين عاميّ 2000 و2005، ثم تابعت دراسة المرحلة الإعدادية في القرية نفسها، وأيضاً المرحلة الثانوية، وكانت في كل المراحل متفوقة وتطمح لأن تدرس الفلسفة والعلوم الإنسانية تأثراً بأحد أبناء عمومتها الذي تفوّقَ في هذا المجال، وقرأت لأجل ذلك كتباً كثيرة وكانت في كل مراحلها ذات أسئلة أكبر من عمرها في السياسة والدين، ومن بين قلائل من زميلاتها كانت سافرة الرأس، وهكذا حتى صفّها الثالث الثانوي عندما سيطرت داعش على المنطقة وأغلقت المدارس.

هذه القصة هي تتمة لقصة من سيرة عائلة من ريف الرقة، التي سبق أن نُشِرَت في موقع الجمهورية في 24 تشرين الأول 2014، حيث أن هذه الفتاة أو السيدة من أفراد تلك العائلة. وكان هذا الحديث الطويل معها قد جرى على مراحل من خلال اتصالات متعددة، بدأت في اليوم التالي ليوم خروجها من مخيم الهول مع ابنتيها، تقول:

ولأنني من الممكن أن أُعيدك من رِدَّتِك، وأُعلِّمَكَ بعض أمور دينك وأكسبَ أجركَ أولاً، ولأنكَ كنتَ أستاذي ثانياً، سأتحدّثُ معك؛ لكنني سأبدأ لك من تفاصيل اليوم الأخير في الباغوز، وبعدها سأروي لك مقتطفات من مئة وخمسين يوماً عشتُها في مخيم الهول، أما رحلتنا من الرقة إلى الباغوز فهي حكاية أخرى ربما سأرويها لك يوماً ما، وأعتقد أنه سيمرّ معنا كثيرٌ من القصص التي تريد أن تعرفها، ولكننا سنؤجلها إلى يوم أتعافى فيه أنا وابنتَيّ.

سيكون هناك دائماً في قصتي تاريخٌ عليك أنت أن تعادله مع تاريخكم، فنحن نفتخر بكل يوم تشرق شمسه ليُضاف إلى عمر دولتنا، وهو تاريخ غير ملزم ضمن دولة الخلافة، ولكننا نستخدمه للتفاخر. ولأن الشيء بالشيء يذكر، فنحن أيضاً نتفاخر داخل مجتمنا بعدد جنسيات عناصر دولة الخلافة، وأيضاً بعدد دول الكفر التي تحاربنا، وفخرنا الأكبر بأننا كما قال عنا الله تعالى في محكم تنزيله: وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ (10) أُولَٰئِكَ الْمُقَرَّبُونَ (11) فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (12) ثُلَّةٌ مِّنَ الْأَوَّلِينَ (13) وَقَلِيلٌ مِّنَ الْآخِرِينَ (14) عَلَىٰ سُرُرٍ مَّوْضُونَةٍ (15) مُّتَّكِئِينَ عَلَيْهَا مُتَقَابِلِينَ (16).

بدا في صوتي أثناء الحديث بعض الاستغراب، فقالت:

ولماذا تستغرب، ومَن غيرُنا يمكن أن يكون الـ«قليل من الآخِرِين»؟

في صباح اليوم رقم 1723 من عمر دولتنا الميمونة (الموافق ليوم الثلاثاء 5 أذار 2019)، في التاسعة والنصف صباحاً، كان هناك هدوءٌ مُستغرَبٌ منذ الصباح، لا يقطعه سوى صوت طائرات غادية ورائحة دون أن تنفّذَّ أي غارة على غير العادة. كانت ابنتاي، إحداهما في عمر ثلاث سنوات والأخرى في عمر سنة ونصف، تتناولان فطورهما الذي أعدّتُه لهما «يزيديتي الخرساء»، وهي فتاة يزيدية ربما عمرها 17 سنة، سبق أن أهداني إياها زوجي عندما كنا في الرقة، وأنا من هديتها إلى الإسلام وكسبت أجرها، ولعلَّ أحسن ما فيها أنها تسمع ولكن لا تتكلم، وقد فهمت منها أنها كانت تتكلم أصلاً، لكنها منذ أن سباها الأخوة حبست عن الكلام.

كانت الطفلتان تتابعان على جهاز الآيباد رسوماً متحركة «إسلامية»، وكنتُ أتمدّدُ على الأريكة، أتابع أيضاً على تلفوني عبر النت العراقي أخبارنا، الأخبار التي فرضناها نحن الموجودون في الباغوز فرضاً على العالم أجمع، عندما أصبحنا قبلة الإعلام ووسائل التواصل في العالم كله.

حينها دخل زوجي «أبو عبد الرحمن الجزراوي»، والجزراوي لقبٌ يٌطلَق هنا على مهاجري دولة الخلافة القادمين من أراضي آل سلول (تقصد السعودية)، أما قصة زواجي منه فهي إحدى القصص المؤجلة التي سنتحدث عنها ذات يوم.

من دون أن يُقبّلَ الطفلتين ويرفعهما في الهواء كعادته، ما أن دخلَ البيت، ومن دون سلام أو أي مقدمات، طلب مني أن أجهّزَ طفلتيَّ ونفسي، فنحن سنخرج من الباغوز. وطلب من يأن لا آخذ معي أي شيء سوى بدلات لي ولهما، والحزام الناسف.

سألتُها باستغراب؛ الحزام الناسف؟؟!!

لا..لا. ليس حزاماً ناسفاً حقيقياً، مع أنه كان سابقاً كذلك، كان حزاماً ناسفاً أبيض اللون، وهو اللون الذي تستطيع أن تُميّزَ من خلاله القادة والأمراء، إذ لا يُسمح للعناصر بلبس حزام أبيض اللون، ولكن قبل خروجنا من الرقة بيوم واحد كان زوجي قد أفرغ منه المتفجرات والقطع المعدنية المحشوة فيه، ووضع مكانها مبالغ من عدة عملات، ومنذ ذاك اليوم لا يفارق خصري حتى أثناء النوم كما كان لا يفارق خصر زوجي عندما كان حزاماً حقيقياً. أمازحُ أحياناً بعض الأخوات عندما أراهنّ لابسات مثله، فالأبيض يُميّزُ الأخوات القائدات.

استعجلني زوجي مرة أخرى وهو يشير برأسه إلى الطفلتين: «معكنَّ ساعتان فقط، حيث سيكون التجمع ثم توصية من الخليفة عبر أبي الحسن المهاجر، ومن ثم الانطلاق».

«ولكن إلى أين؟»، سألته فأجاب: «لقد أذِنَ لنا الخليفة بإخراج أغلب النسوة والأطفال، وكذلك الكثير من الأخوة المهاجرين، كي يتسنى للبقية القتال دون خوف على العوائل، وقد أبلَغَنا أنه قد تمّ الاتفاق مع الأمريكان على ذلك».

«وهل سيتم اعتقالنا؟ أم سنخرج كما خرجنا من الرقة»؛ سألتُهُ مستفهمة؟

«كما خرجنا من الرقة، ولكن هذه المرة سنذهب إلى مخيم الهول حسب الاتفاق، وليكن معلوماً لديكِ أننا سنفترق ما أن نخرج من الباغوز، لا تعطيهم اسمكِ الحقيقي، وإن سألوكِ عن زوجك قولي لهم لقد مات في القصف، لأنهم سيأخذونكم كنساء في جهة والرجال في جهة أخرى، فاصبري وصابري ولن أعدمَ وسيلة للتواصل معكم».

خرج إلى الباب، ولكنه عاد: «انتبهي لما سأقول جيداً، لا تتكلمي مع أحد حول الموضوع، أي أحد سواء من الجيران أو أيٍّ من الأخوات، ولا أي أي أحد، حتى يزيديتك لا تخبريهاـ فقط قولي لها سنبدل البيت، فالعوام غير مسموح لهم بالخروج وكذلك المقاتلون الأنصار وعوائلهم، ثم وضعَ في يدي ورقة عليها مجموعة أرقام وختم الرسول المعتمد كختم لدولتنا، ولكن بشكل غريب غير ما اعتدت أن أراه في بعض الأحايين، وقد أفهمني زوجي عندما أعربت عن استغرابي لشكل الختم أنه مخصص لأوامر الأمنية الخاصة بمولانا، وأن قلّة قليلة جداً يحصلون على ورقة ممهورة به.

وهكذا كان.

كان التجمع تحت تحليق مكثف لطيرانِ «عبّاد الصليب والمنافقين ممّن والاهم». كان عناصر من المكتب الأمني يحيطون بنا وبساحة التجمع، ولم يُسمَح لمن لا يحمل الورقة ذات الأرقام بالدخول إلى الساحة، كانت الورقة تسمى الكود، ولكل عائلة كودٌ خاصٌ بها متبوعاً بحرف «ذ» وتحته رقم؛ يشير الحرف إلى كلمة ذَكَر والرقم تحته يشير إلى عدد الذكور، وحرف «ن» يشير إلى كلمة نساء تحته رقم يشير إلى عدد النساء.

لم ننتظر طويلاً حتى وصل عددنا ربما إلى أكثر من ألف شخص من الكبار عدا عن الصغار، ثم أغلِقَت جميع المداخل الواصلة إلى مكان التجمع، واعتلى الأخ أبو الحسن المهاجر إحدى السيارات وفي يده مكبر صوت، وبعد أن حمد الله وأثنى، حدَّثنا بإيجاز أن هذا نصر، ولكنه نصر مع  الابتلاء، النصر هو وجودنا هنا في هذه الساحة وفوقنا طيران أكثر من سبعين دولة، والنصر أيضاً هو فرض خروجنا عليهم، أما الابتلاء فهو ما نحن ذاهبون إليه وما سنختبره، وحثّنا على الصبر عليه.

وتابع: «أيها الأخوة والأخوات، وهل يكون تمكينٌ إلا بعد ابتلاء. إن ما أصابنا وأصاب دولتنا من انحيازات وابتلاءات ما هو إلا بسبب تخاذل وتخلّف كثير من عوام المسلمين في ولايات الرقة والخير والبركة والموصل عن الجهاد، وابتعادهم عن دينهم، ولكن هذا الابتلاء هو أيضاً امتحان، سيعقبه فتحٌ كبير ونصر وتمكين من الله… بشراكم… والله وبالله وتالله لن تقف حدوده عند الأندلس أو روما، وسيكون ذلك على أيديكم وأيديكنّ»، ثم ذكر حديث الرسول: «افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة، وافترقت النصارى على اثنتين وسبعين فرقة، وستفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة، قيل: من هي يا رسول الله؟ قال: من كان على مثل ما أنا عليه وأصحابي». وأضاف المهاجر بعده: «ومن على ذلك اليومَ سوانا؟! وقريباً قريباً سيكون عوام المسلمين جميعاً على هذا أيضاً».

ثم أعطانا تعليمات بألّا نعطي أسماءنا الحقيقة ولا أسماء أزواجنا، ولا ما عرفناه أو خبرناه فترة عيشنا في كنف الخلافة، مضيفاً أنّ قيام الدولة من جديد هو ما يجب أن يشغل كل تفكيرنا، وأننا نحن المختارون القابضون على الجمر، وذكَّرَنا بحديث الرسول الكريم: «عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن من ورائكم أيام الصبر، الصبر فيهنَّ كقبض على الجمر، للعامل فيها أجر خمسين. قالوا: يا رسول الله أجر خمسين منهم أو خمسين منا. قال: خمسين منكم».

ثم أضاف: «بالنسبة للأخوة هم يعرفون ما يجب أن يفُعل، وكذلك بالنسبة للأخوات، ولكن أريد أن أؤكد للأخوات؛ لن تكونوا لوحدكنّ، هناك أخوات معكنّ، وسيكُنَّ مسؤولات وسيهتمينَ بالجميع، ونحن من هنا سنكون معكنّ هناك». لكنه لم يسمِّ هؤلاء الأخوات، وقال إننا سنعرفهنَّ هناك، ثم أوصى بالتأكيد على معاني الاجتماع والاعتصام بحبل الله.

بعد ذلك جددنا البيعة للخلافة على منهاج النبوة، ولخليفة المسلمين أبي بكر البغدادي الحسيني القرشي، وأنّ لا عزاء للمتخاذلين وأن العاقبة للمتقين. ردَّدَ الجميع خلفه بعد التكبير؛ دولة الإسلام باقية… باقية… باقية.

توجَّهَ الرتل مشياً يحفّه الأخوة الأمنيون من الجانبين حتى لا يختلط بنا العوام، وبعد ما يقرب من كيلومتر واحد عاد الإخوة حين لاح لنا مقاتلو التحالف الدولي، وهنا انعزل الرجال في رتل وبقينا كنسوة وأطفال في رتل، ورفعت الأخوات في المقدمة راية بيضاء، وكذلك رتل الإخوة.

وجهاً لوجه مع أعدائنا، ليس هيّناً… ليس هيّناً. في البداية جاء مقاتلو ومقاتلات الملاحدة الأكراد وفي أيديهم أجهزة تُفتّش عن المتفجرات فقط، ولم يكن مسموحاً لهم القيام بالتفتيش الذاتي أو تفتيش الأجساد أو الحقائب، ومن ثم جاء الأمريكان. كانت مصيبة كبيرة، لقد فتّشتنا مقاتلات أمريكيات، مصيبةٌ أن تمدّ مقاتلة كافرة ملحدة  سافرة يدها النجسة إلى أجساد الطاهرات العفيفات.

بعد التفتيش الذاتي، ومصادرة كل الأجهزة الإلكترونية والنقود والحلي، كنَّ يقمن بوضع المصادرات في كيس قماشي أبيض مع اسم صاحبته، ثم يَقُمن بترصيص الكيس. وأنا شخصياً كنتُ قد أخفيت معظم الأموال في حفوضات ابنتي. بعد ذلك صورونا، صوراً من ثلاث اتجاهات تحت إضاءة ساطعة، وأخذنَ بصمات أصابعنا العشرة على جهاز إلكتروني، وبعد ذلك صعدنا إلى باصات وشاحنات كانت مُعدّة سلفاً. كل ذلك تمّ دون أسئلة أو تحقيق، فقط الاسم والجنسية.

منتصف الليل بتوقيت مخيم الهول

تصفُ محدثتي مخيم الهول وأقسامه بناء على مشاهداتها خلال مئة وخمسين يوماً قضتها هناك:

يتألّف المخيم من ثمانية «فِيَز»، والمقصود بالفيز هنا قسم؛ أولها قسم الاستقبال الذي يضم العائلات القادمة حديثاً إلى المخيم، وفيه يتم تسجيل الأسماء والانتظار إلى حين توفّر خيمة حتى يتم الفرز.

القسم الثاني والثالث والرابع هي أقسام خاصة باللاجئين العراقيين من القائم والموصل والأنبار وصلاح الدين، وهو مختلط بين عوائل الدولة واللاجئين من عوام المسلمين. والقسم الخامس هو من أكثر الأقسام تمتعاً بالأمان والاستقرار، وهو أيضاً من أقدم الأقسام تاريخاً، يضمّ عوائل سورية من أرياف دير الزور ومن الشدّادي وأرياف الحسكة الجنوبية والشرقية.

القسم السابع من أخطر أقسام المخيم حسب تصنيف الجميع، سواء إدارة المخيم أو المنظمات العاملة هناك، وأيضاً حسب تصنيف الاستخبارات، وهو مرتعٌ لجميع استخبارات العالم كونه يضم الهاربين والمتخلّفين عن الجهاد والمتولين يوم الزحف من عناصر الدولة وعوائلهم، ويخضع لحراسة أمنية مشددة من قبل الأمريكان أنفسهم.

القسم الثامن هو قسم المهاجرات، وأيضاً الأنصاريات المتزوجات من مجاهدين مهاجرين (السوريات والعراقيات) وأطفالهنّ، وأيضاً يُصنَّفُ من الأقسام الخطرة بعد أن قامت عدد من الأخوات بقتل ثلاث مجندات من قسد على فترات، ساقهنَّ حظ الأخوات صدفة إليهنّ فتقربنَ بهنَّ إلى الله. وهو أيضاً يخضع لحراسة مشددة من قبل الأمريكان والفرنسيين، وأكثر مكان مفضل للإعلاميين الذين لا يجرؤون على الدخول دون حراسة مشددة من الأمريكان والفرنسيين.

وهناك أيضاً سوق المخيم الرئيسي، الذي يقع بين قسم الاستقبال وبقية الأقسام، وهو سوق بكل ما تحمله الكلمة من معنى، إذ يتوفر فيه كل شي من نكاشة البابور إلى أحدث أجهزة الهاتف، إلى كل أنواع الأطعمة واللحوم واللباس والحشيش والحبوب المخدرة والنقود المزوّرة والمهربين وبائعي الوثائق المزورة، وكل شيء، بما في ذلك المقاهي العامة ومقاهي الإنترنت. وهناك أيضاً أسواقٌ فرعية أصغر في كل قسم.

بعيد منتصف الليل بتوقيت مخيم الهول

دخلت الباصات إلى وسط القسم الذي عرفناه لاحقاً بالفيز رقم ثمانية، دخلنا إلى الخيم كيفما اتفق دون فرز أو تقسيم، فالهمّ الأول هو نوم الأطفال واستخدام الحمامات، على أن يتم التنظيم والفرز في اليوم التالي.

وفي اليوم التالي تم التوزيع حسب العائلات، فعلى سبيل المثال كثيرٌ من الإخوة متزوجون بأكثر من زوجة، فيتم وضعهنَّ إلى جانب بعضهنّ بعضاً، وأيضاً إذا كان هناك أختٌ عندها طفلٌ أو طفلان، فإنها تتشارك مع أخت تشبه وضعها في خيمة واحدة. وهكذا مضى اليوم الأول، الذي أصبحنا في نهايته جميعاً تحت سقف خيم عليها شعار الأمم المتحدة وبحراسة الأمريكان.

اليوم الثالث حسب توقيت مخيم الهول

أُضيفَ على عجل سورٌ حديديٌ ثانٍ، وأيضاً تم وضع ثلاث غرف مسبقة الصنع عند بوابة القسم من الداخل، وغرفة على باب القسم من الخارج، وبعد ظهر ذاك اليوم، بدأ التحقيق معنا ضمن هذه الغرف. كان التحقيق يمتد لساعات طويلة، وعلى فترات متقطعة، وحدث أنَّ بعض الأخوات دُعينَ إلى التحقيق ولم يرجعنَ أبداً، لكن عددهنَّ قليل.

في اليوم الثامن من بِدء التحقيق جاء دوري، وفي البداية عُرِضتُ أمام ثلاث نساء منقبّات، عرفتُ فيما بعد أنهنَّ «مُعرِّفَات».

مُعرِّفَات!؟ ما الذي يعنيه هذا؟

المُعرِّفات نساءٌ ممّن كُنَّ فيما سبق من الأخوات، لكنهنَّ خُنَّ وتعاونَّ مع الأمريكان، فيُعرِّفَنَ عن الأخوات إن كُنَّ يًعرفنهن، ومهمتهنَّ أن يُشاهِدنَ الأخت دون نقاب ويسمعنَ صوتها دون أن يتحدثنَ أمامها، ثم يَخرُجن.

رجلان وامرأة، أمام كلّ منهم حاسوب، وأنا أجلس مقابلهم. لم يجبروني على خلع النقاب إلا عندما كانت المعرفات موجودات، بعدها أرخيتُ نقابي. كانوا يعرفون تقريباً كل شيء، أصلي وفصلي. لم يصدقوا أن زوجي ميت، ولكنني أصررتُ على روايتي. سألوني إن كنتُ قد شاهدت جثّته فأجبت بالنفي، ثم عرضوا عليَّ صوراً كثيرة لأخوة وأخوات، لكني أنكرتُ معرفتي بأي منهم حسب ما أوصانا أبو حسن المهاجر.

ما أن خرجتُ من عند المحققين،حتى استلمتني ثلاث من الأخوات، وكان تحقيقهنَّ معي أصعب من تحقيق الأمريكان؛ هنا عرفتُ أولئك اللواتي قال عنهنَّ أبو الحسن المهاجر إنهنّ مسؤولات عنّا، وهو ما أشعرني بمزيج من الاطمئنان والخوف في وقت واحد، لأنهنّ هددننا بأن أي تعاون مع الأمريكان سيكون مصير صاحبته الذبح، وفعلاً في اليوم التاسع من بدء التحقيق تم العثور على أخت مدغشقرية مذبوحة في فراشها، الأمر الذي استدعى تشديداً أمنياً، ولكن من الخارج فقط وليس من الداخل.

أرجعوا لنا أغلب المصادرات، عدا بعض أنواع الجوالات. أنا شخصياً أرجعوا لي تلفوني ولكنه كان لا يعمل، ومعه ثلاثة آلاف دولار وبعض القطع الذهبية وخاتم ذهبي من دون حجره الكريم، وسرقوا البقية.

انتهى التحقيق خلال أسبوعين، وأيضاً في اليوم الأخير تم العثور على أخت عراقية ميتة في فراشها بأكثر من عشر طعنات، وجرى ذلك على خلفية تحدُّثِها إلى صحفية.

كان فريقٌ طبيٌ عسكريٌ يدخل علينا تحت حراسة مشددة مرتين في الأسبوع، ويُسمَح لنا بالخروج إلى السوق الرئيسي، ولكن تحت الحراسة، فكل أخت تتقدم بطلب للذهاب إلى السوق الرئيسي، وعند الموافقة تخرج مع حارسين يبقيان معها حتى تعود.

بعد نهاية التحقيقات الرسمية، بدأت تظهر ملامح دولة الخلافة هناك، حيث جرى تنظيم كل شيء، فكان هناك المكتب الدعوي الذي يهتم من خلال مجموعة من الأخوات بالدروس والإرشادات والهدي الصحيح، وخصوصاً للأنصاريات والأطفال. وأيضاً المكتب الشرعي، وهو قريبٌ من الأخوات الأمنيات، يتابع الخلافات بين الأخوات واللباس الشرعي وتنظيم الدروس الدعوية وتنبيه الغافلات عن حضورها.

المكتب الأمني يهتم بشبهات التعامل وإفشاء المعلومات ومنع التحدث إلى وسائل الإعلام، ومتابعة الاتصالات التي تجريها الأخوات من مقاهي الإنترنت الموجودة في السوق الرئيسي. وهنا أذكرُ حادثة، إذ كان لدينا في القسم الثامن خيمة خاصة للاتصالات، ولكنَّ خلافاً بين الأخوات الأمنيات وأخت أنصارية أدّى إلى إغلاقها  من قبل الضابطة الأميركية المسؤولة عن الاتصالات، وهكذا باتت أي أخت تريد أن تتواصل مع أهلها أو مع أي أحد خارج المخيم مضطرة لتقديم طلب إلى تلك  الحميراء المنمّشة، التي تسجّلها ضمن قائمة ثم تسمح لها حسب الدور باستخدام الإنترنيت.

كانت إحدى الأخوات الأمنيات قد سمعت الأخت الأنصارية تطلب من أخيها أن يدفع أي مبلغ لإخراجها من هنا، وبعد أن عادت إلى خيمتها أخضعتها الأخوات الأمنيات لدورة شرعية مدتها ثلاثة أيام، وعلى خلفية ذلك ألقت علينا الأخوات في المكتب الشرعي خطبة كانت بداية ظهور الشقاق الحقيقي بيننا كأنصاريات وبينهنَّ كمهاجرات، وهو شقاقٌ كان موجوداً لكنه غير ظاهر. وعلى إثر هذا حصلت حركات تبديل خيم وتبديل شريكات في خيم، بحيث أصبحنا كتلة غربية أغلبنا أنصاريات، وكتلة شرقية أغلبها مهاجرات.

أتذكّرُ بعضاً مما قالته أم الفاروق الكردية العراقية، وهي إحدى الأخوات الأمنيات: «والله ثم والله… إنكنَّ أيتها الأنصاريات ليس لديكنَّ أي إيمان أو احتساب أو صبر على البلاء. هل أذكركّنَّ عندما حاصر المشركون من قريش الثلة الثابتة على دينهم في شِعب أبي طالب ثلاث سنوات… ثلاث سنوات حتى لم يجدوا ما يأكلونه إلّا ما يلتقطونه من خشاش الأرض، حتى أوشكوا على الهلاك لولا رحمة الله التي أدركتهم. نحن اليوم أيتها الاخوات مثلهم، هم قدوتنا، فما بالكنَّ أيتها الأنصاريات تستنجدنَ بمن خذل دولة الخلافة من أهاليكنّ لإخراجكنَّ من هنا. ألاتتذكرنَ مما حذَّرَنا أمير المؤمنين منه، ألا تتذكرنَ عندما أوصانا عن طريق أبي الحسن المهاجر بعدم استخدام أجهزة الاتصال إلا لضرورة قاهرة. أيتها الأنصاريات، ليس لديكنَّ صبر ولا إيمان، أنتنَّ كما أهاليكنّ، تُرِدنَ أن تخذُلنَ رجالاً لا زالوا هناك يذودون عنا وعنكنّ… لا علم لكُنّ… ابحثنَ واسألنَ ما حكم مخالفة أمر الأمير، والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون».

ولكن رغم ذلك بقينا جميعاً مهاجرات وأنصاريات متمسكات بالعروة الوثقى كبينان مرصوص، ولم نبيّن خلافاتنا، فنحن الفرقة الناجية ممتثلات لأوامر خليفتنا أبي بكر.

الأخوات اللواتي يعملن كأمنيات متميزات في عملهنّ، ولكن بصراحة كُنَّ يعاملننا بِقلّة ثقة، ويُشعِرننا بأننا أقل درجة منهنّ حتى لو كنا زوجات مهاجرين، فما أن يستدعينَ إحدانا حتى تراهنَّ قلبنَ وجوههنّ إلى ملامح العدائية والعنجهية، وكُنَّ دائماً يتنمرن علينا وعلى المحيط، وحتى على الحارسات خارج السور، وقد وصل الأمر ذات مرة بأم إسلام البغدادية أن أمسكت إحدى مقاتلات الملاحدة التي كانت ترافق سيارة الطعام، أمسكتها من الخلف عندما كانت تلك تسند ظهرها على قضبان السور؛ كانت كلّ منهما في طرف، ولم تتركها أم إسلام إلا وأكثر من عشر طعنات في صدرها وبطنها. أخذوا أم إسلام، ولم نرها بعدها. لقد فرضت الأخوات الأمنيات سيطرتهنّ علينا أكثر من خلال مثل هذه الحوادث، والأخوات الدعويات كُنَّ يقلنَ لنا إن ذلك يقوي معنوياتنا ويعطينا إيماناً إضافياً بأن خلافتنا الرشيدة معنا بطريقة أو بأخرى.

هل يتعاملنَ مع المقاتلات الأميركيات بالطريقة نفسها؟

لا.. مثل هذه الحوادث لم تحصل ولا مرة مع المقاتلات الأمريكيات.

ألم يكن الحراس والمحققون والاستخبارات يعرفون بالهيكيلة والتنظيم الذي تتحدثين عنه؟؟

لا أعرف، لكن ما أعرفه أن كل الأخوات في القسم الثامن صادقات في القلب والقالب، وإخلاصهنّ لدينهنّ وخِلافتهنّ لا تستطيع كل استخبارات العالم زحزحته، وفي الأصل كنا نعرف أننا مقبلون على هذا الابتلاء، ومن أجل إعلاء شأن الخلافة والخليفة كنا كبنيان مرصوص، ورغم تجاوزات بعض الأخوات الأمنيات علينا لم تخرج منا واشية واحدة.

هل هو الخوف؟

لا.. وإن كان الخوف يلزم.

لقد قدّموا خدمة كبيرة لدولة الخلافة عبر تجميع كل هذا العدد من نساء ورجال دولة الخلافة في مكان واحد في الهول، من يسيطر داخل الأسوار هم أسود ولبوات الخلافة فكراً وعملاً، وهذا مكَّنَ الإخوة والأخوات من إعادة التنظيم ورصّ الصفوف. هل تلاحظ وتتابع كل تقارير إعلامهم التي تشير إلى تخوّف بلدانهم من الأفكار التي نحملها؟ هناك عشرات الآلاف من مجاهدي ومجاهدات الخلافة، وأنا منهم، لا يعرفون أسماءنا. نحن مع أطفالنا خزان الخلافة الاحتياطي وخلاياه المؤثرة، وعنصر المفاجأة الأقوى لدولة الخلافة العائدة والباقية بإذن الله.

ولماذا خرجتِ وتركتِ الأخوات هناك… وكيف خرجت؟

لن أتحدّث عن لماذا خرجت، ولكن أقول لك ولأمثالك، عودوا إلى الله قبل القدرة عليكم!!!!!!

أما كيف خرجت، فهناك كلُّ شيء مُباح إن كنت تملك المال، الفساد المنتشر في المخيم ساعد ويساعد كثيرين على الخروج؛ كنتُ قد أخفيتُ مبالغ من المال في الحفوضات التي ألبستها لابنتَيَّ كما ذكرتُ لك سابقاً، وعن طريقه وبالسرية الخالصة أوصلوني إلى بيت أهلي. هي تجارة القادة هناك، ولكني لا أثق بهم فربما أعادوني مرة أخرى.

ختاماً، أقول لك؛ إن كنت ستنشر كما حدثتك تماماً فلا مانع، أما غير ذلك فلا.

*****

حسب ما سمعت من هذه السيدة، هناك الهول والأهوال، هناك الجميع يريد طمس إرث حرب البارحة وطمس دوره فيها، بينما يعني الاستمرار على هذه النحو قيام القيامة مرة أخرى.

موقع الجمهورية

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى