حنين إلى مشفى صغير تحت القصف/ وردة الياسين
الأرض ثابتة، وبناء مشفى الدولة الجديد في مدينة أنطاكيا في تركيا ثابت أيضاً. أدركُ أن رأسي هو الذي يدور؛ «هل سأسقط أرضاً أمام شباك الموظف وهو يسجل بيانات الكيملك (بطاقة الحماية المؤقتة)، قبل أن أدخل غرفة الإسعاف؟»، أُحدّثُ نفسي. «لا تقرفني ملامح وجهك، ولا تنظرني عيناك نظرة حنق، ألف دولار كلّفني الحصول على هذا الكيملك»، أودُّ أن أصرخ في وجه الموظف.
يشتدّ شعوري بالاختناق، «كم سيكلفني الهواء هنا حتى أستنشقه!»، أهذي في داخلي. استلقي على السرير، تُعلقُ لي الممرضة مكفهرة الوجه كيس «السيروم»، وتطلب بالإشارة من أم عبدو، جارتي التي رافقتني إلى المشفى، أن تكشف عن كامل جسدي. بثورٌ وبقعٌ حمراء كثيرة تجتاح جسدي، لا أرغب بالنظر إليها ولا إلى جسدي، مراقبة كيس السيروم أفضل. أشعر بالراحة إذ يُعلَّق كيس «السيروم»، وهو شعور اكتسبته عندما دخلت المشفى في مدينة إنخل بريف درعا أواخر عام 2015؛ أقول لأم عبدو: «هل تعلمين أنني عشت على أكياس السيروم ستة أيام كاملة».
تأخذني ذاكرتي إلى مساء من مساءات أواخر تشرين الثاني 2015، كنتُ قد حزمتُ حقيبتي استعداداً لمغادرة نوى إلى تركيا عبر طرق التهريب. أودّعُ جيراني وأصدقائي بألمين، الأول هو ألم الفراق، أما الثاني فكان مصدره معدتي ومغصها المستمر بِحدة منذ يومين. لم أزر طبيباً، ولم أكترث، ظننته تشنجات عصبية أحدثتها شدة التفكير والقلق من المغامرة التي سأُقدم عليها، وهي قرار الرحيل من درعا. ولكن الألم ازداد في مساء الرحيل إلى درجة لا تُطاق.
إلى المشفى الميداني في نوى حيث أسعفني أصدقائي ليلاً، قال الممرض المناوب إنني أتعرض لـ «كريزة رمل»، وكان حله سريعاً… إبرتي «ديكلون» و«ديكسون» وبعدها سأرتاح على حد زعمه. لم أرتح طوال الليل وطوال اليوم التالي، فكان مشفى إنخل هو الوجهة التي ارتأى أصدقائي إسعافي إليها، فهو مشفى يمتاز بكادره الطبي.
تبحث أم عبدو عن المترجم فلا تجده، أجتهد أنا وهي في الشرح للطبيب التركي عن حالتي، باستخدام إشارات أيدينا وملامح وجهينا. أريه علبة الدواء النفسي الذي أتعاطاه منذ ثلاثة أشهر، وأحاول أن أخبره بأنني عندما زدت جرعة الدواء -كما طلب طبيبي النفسي- أصابتني الحساسية. مشدوهاً، ينظر الطبيب إلى جسدي الملطّخ بالبقع والبثور، أعتقد أنه فهم ما شرحته، لكنه، ورغم إشارتي عشرات المرات إلى معدتي، لم يتمكن من فهمي، أو أنه لم يتريث لفهم ما كنت سأقوله حين كان يهم بإعطائي حقنة «كورتيزون»، وهو أنني خضعت قبل ثلاث سنوات لعملية قرحة في الإثني عشر، وقد حذّرني الأطباء حينها من إبر الديكلون والديكسون أو الكرتزون… تباً للغة الأجنبية، قاسية هي كما اللجوء.
شرحتُ في مشفى إنخل كل شيءٍ للأطباء بكل يسر وسهولة: مكان الألم، مدة الألم، أوقات الألم. ابتسم أحدهم وقال لي: «بسيطة، بسيطة…خير، شوي وبتفوتي على غرفة العمليات». كان أهالي إنخل والكوادر الطبية فيها قد حولوا قبو إحدى الروضات إلى مشفى، أحاطوه بأكياس كبيرة وكثيرة من التراب، احتضنته بصورة محكمة. قصفه الطيران مرات عدة، لكنه ظلَّ المشفى، وكوادره ظلّت خلية النحل. كان يستقبل في اليوم الواحد عشرات الحالات الإسعافية، ويجري الأطباء فيه عشرات العمليات الجراحية. وكانت عمليتي هي العملية الأخيرة، في الساعة الحادية عشر ليلاً، التي سيجريها الطبيب بعد أربعة عشر عملية جراحية أجراها في ذلك اليوم.
سحب الطبيب من بطني خمس ليترات ونصف من الماء، ورتق ذلك الثقب في الإثني عشري، الذي أحدثته إفرازات معدتي الحامضية؛ «وضعكِ كان خطراً جداً، ولكنك نجوتِ. الحمد لله على السلامة» يخبرني الطبيب الذي أجرى لي العملية بعد أن استيقظتُ من البنج، فابتسمتُ له ولكل الأصدقاء والجيران الملتفين حول سريري. كانوا كُثُراً، جميعهم جاؤوا، أشعر بالأمان وهم حولي، أمسك بأيديهم واحد تلو الآخر، في حين أنني أبحث عن يد أم عبدو في مشفى أنطاكيا، أريد أن أمسكها فلا أجدها، إذ تركتني وحيدة على مقعد خارج بناء المشفى وأسرعت لتحضر لي الوصفة الطبية من الصيدلية المقابلة للمشفى. حتى الزكام يغدو مرضاً خطيراً وشديداً عندما تكون وحيداً في بلاد اللجوء.
فتحت عينيَّ بشكل واسع عندما أخبرني الطبيب أن خفقان قلبي وارتعاش أطرافي المستمر منذ دخولي إلى تركيا صيف 2018 هي أعراض جسدية لمرض نفسي هو «اضطراب الهلع والخوف»، وقلت لطبيبي النفسي «مستحيل»؛ استهجنتُ الهلع والخوف وأنا التي كنت أطلب من النساء اللواتي كُنَّ معي في الغرفة نفسها في مشفى أنخل، أن يهدأن ويكففن عن الصراخ خوفاً وهلعاً من صوت طائرة الميغ المحلقة فوقنا في السماء.
لم يتوقف الطيران وقتها عن قصف أطراف المدينة، وكان من المتوقع جداً أن يتعرض المشفى للقصف، لأن فصائل المعارضة المسلحة كانت وقتها تشن هجوماً على بلدتي الدلي والسحيلية في ريف درعا الغربي، لتخفيف الضغط عن الفصائل التي كانت تتصدى لتقدم قوات النظام على مدينة الشيخ مسكين. لم يقصف المشفى إثر ذلك بصواريخ الطائرات، لكن قوات النظام المتمركزة في الصنمين أمطرت محيطه بعشرات قذائف المدفعية، التي جعلت جدرانه تهتز بشكلٍ أيقظني من نومي، لأرى ممرضات المشفى يتنقلن بين الأسرّة بكل طمأنينة. الطبيب النسائي الحاضر تواً يستعد لدخول غرفة العمليات لإجراء عملية قيصرية لإحدى السيدات، التي التي أخبرته أنها كانت قلقة من أن لا يحضر بسبب شدة القصف خارجاً، فيرد عليها مبتسماً: «والله جنبي نزلت القذيفة وأني جاي لهون، الله ستر».
من أين جاء الأطباء والممرضون في مشفى إنخل بكل هذه الشجاعة؟ هل تعطلت في أدمغتهم أجهزة استشعار الخطر؟ أو ربما أن أجهزتهم تلك لم تتوقف أصلاً عن إطلاق إنذارات الخطر، لكنهم اعتادوا صوت الإنذارات وألِفوها حتى غدت جزءاً من كيانهم؛ ألِفوها إلى درجة أنه حين سقطت قذيفة على مدخل باب المشفى وتناثرت شظاياها إلى الداخل لتصيب أحد الأطباء في رأسه، أجرى الطبيب المصاب، حالما ضمد رأسه، عمليتين جراحتين متتاليتين.
في الواقع، لم يكن كل الأطباء في مشفى إنخل خريجين ومختصين، فمنهم طلاب طب لم ينهوا اختصاصاتهم، وفضلوا ترك جامعاتهم والتطوع في العمل الطبي في المناطق التي كانت خارجة عن سيطرة النظام. أخبرتني وقتها أم محمد، وهي الممرضة المسؤولة عن تغيير الضمادات لي، أنها تعمل أساساً مدرسة للغة العربية، ولكنها خضعت لدورات وتدريبات في التمريض. ومثلها خديجة، وهي القابلة القانونية في المشفى؛ وحسين، وهو الشاب الصغير الذي يتولى مهمة تعليق أكياس سيرومي، والذي كان يقول لي:«حطيتلك المُسكّن بالسيروم، هسّع بِخفّ الوجع وبتنامي مرتاحة». وقد اكتشفتُ فيما بعد عندما غادرت المشفى، أن حسين لم يكن يضع أي مسكن في أكياس السيروم، فعلاج معدتي وقتها يمنع أن يدخلها أي دواء مسكن. غريبة قدرة أدمغتنا على صناعة الوهم، وهمٌ يجعل جسدي يرتخي إلى أقصى الدرجات، فأغطّ في نوم عميق مطمئن لأن حسين قد وضع المُسكّن في كيس السيروم.
واسعٌ كمدينة، شاهق مرتفع، فيك أقسام كثيرة ومعدات وأجهزة حديثة ومئات من الأطباء والممرضين المختصين؛ يالك من صرح، يا مشفى الدولة الجديد في أنطاكيا. أنظر إلى البناء المتقن وأقول لنفسي، وكم سيبدو مشفى إنخل أمامك صغيراً كقزم. ولكن مشفى إنخل، الذي تتجاور فيه غرف الإسعاف والعمليات والتحاليل والصيدلية؛ والذي وضعت الممرضة في غرفته المخصصة للنساء ذات مرة فرشة على الأرض لإحدى المريضات لأن كل أسرّتها كانت مشغولة، ذاك المشفى تمكَّنَ من إنقاذ حياة امرأة وتوائمها الأربعة.
جاءت المرأة من نوى في حالة إسعافية، حيث داهمها المخاض وهي في شهرها الثامن بسبب رعبتها الشديدة من الطائرة التي ألقت أربعة براميل دفعة واحدة في حيها. ما زال المشهد ماثلاً في ذاكرتي، إذ كانت المرأة تتألم بشدة، أدخلوها سريعاً إلى غرفة العمليات، وصارت قصتُها حديث كل المشفى ذلك اليوم، لأنها كانت حبلى بأربعة توائم. وضعوا اثنين من التوائم الأربعة في حاضنات مشفى إنخل، ونُقل الآخران إلى مشفى أخر لا أتذكر اسمه، لأن مشفى أنخل لا تتوافر فيه سوى حاضنتان اثنتان للأطفال حديثي الولادة.
عظيمة كمية الشقاء التي كانت تعانيها المشافي في المناطق الخارجة عن سيطرة النظام، ترزح دائماً تحت وطأة النقص في المعدات والأدوية والأجهزة؛ وتحت وطأة تعريف المشفى الميداني بأنه مكان مخصص لمعالجة الجنود والمسلحين في المعارك، ما يبرر قصفه. لم أكن أنا أو المرأة وتوائمها الأربعة، ولا الطفل الصغير الذي بُترت يده في مشفى إنخل نتيجة إصابته بقذيفة عشوائية، جنوداً أو مسلحين.
أتمعّنُ في سماء مشفى الدولة الجديد في أنطاكيا، أجلس أنا وأم عبدو بكل هدوء في الباص، ونحسب الوقت الذي سيستغرقه وصولنا إلى المنزل، لكننا لا نكترث فعلاً للوقت، فعلى حدّ قول أم عبدو: «شو ورانا، على مهلنا، بنتفرج على هل الطريق لحتى نوصل».
أضع رأسي على بلور شباك الباص وأرحل بعيداً إلى اليوم الذي غادرت فيه مشفى إنخل. كان الطبيب يفضّل أن أبقى تحت المراقبة في المشفى أكثر من ستة أيام، ولكن الضغط كبير على المشفى، وهناك نقص شديد في عدد الأسرة، وبحسب تقديره فإن حالتي كانت قد أصبحت أقرب إلى الاستقرار، كما أنه يمكن لأي ممرض أو صيدلي أن يعطيني حقن العلاج في المنزل، وأن ينتزع الكيس الموصول بمعدتي، الذي تجتمع فيه السوائل والإفرازات الحاصلة في منطقة العملية، بعد أن تجف وتتوقف عن النز.
«احملي الكيس جيداً»، تطلب مني الممرضة لدى مغادرتي مشفى إنخل، ويحثني صديقي الطبيب، الذي تبرع بإيصالي إلى المنزل على الإسراع في صعود الدرج، فسيارته لا يمكنها أن تتوقف طويلاً أمام باب المشفى؛ «اضغطي بيدك على مكان العملية… استرخي، ولا تجزعي» يطلب صديقي الطبيب، وينطلق بسرعة جنونية محاولاً الخروج بأقصر وقت ممكن من مدينة إنخل، المستهدفة يومها بوابل لا يرحم من القذائف.
أعانق أم عبدو، أشكرها ملياً؛ وأذهب إلى السرير أريد أن أنام، وأريد أن يعود بي الزمن إلى الوراء، إلى مشفى إنخل، حتى أعانق كل الممرضات وكل الأطباء، وأعانق حسين وأخبره أنني قد اكتشفت حيلته.
موقع الجمهورية