مراجعات كتب

الأمّ والابنة: شحنة التطهير والرابط الأثير/ صبحي حديدي

في كتابها «أمهات وبنات في أدب نساء عربيات: حدود العائلة»، الذي صدر بالإنكليزية في سنة 2011 عن منشورات بريل في لايدن وبوسطن؛ تبدأ داليا عبودي من قصة الصبية جبينة في حكاية الجدات الفلسطينية، أو «الخرافية» الشهيرة التي تُروى في تنويعات عديدة، كما تتكرر نُسَخ أخرى منها في ثقافات عالمية أخرى، لكنها تلتقي عند خطّين اثنين في السرد: 1) اختطاف وضياع الصبية جبينة (التي اختارت لها أمّها هذا الاسم بعد أن كانت عاقراً وتوجهت بالدعاء إلى الله أن يرزقها طفلة بيضاء مثل قرص الجبنة)؛ وعودتها إلى أمها وقريتها، في نهاية سعيدة انطوت على زواجها من أمير أعجبه غناؤها العذب حين كانت ترعى الأغنام. ولعل أشهر اقتباس أدبي حديث للحكاية جاء عند الروائي الفلسطيني إميل حبيبي في «سداسية الأيام الستة»، تحت عنوان «الخرزة الزرقاء وعودة جبينة»؛ حيث حمّلها الراحل دلالات رمزية حول عودة الفلسطيني من منفاه، واستعاد بعض العناصر الواردة في «الخرافية»، مثل الأمّ العجوز والخرزة الزرقاء ونبع الماء.

لكنّ عبودي تسوق هذه الحكاية الفلسطينية على سبيل آخر يخدم موضوعات كتابها، أي مركزية الرابط بين الأمّ والابنة، وكثافته العالية، و«الشحنة التطهيرية» حسب تعبير الشاعرة الأمريكية أدريان ريش؛ أو، في ما تستمده من «الخرافية» الفلسطينية: سردية الضياع والاختطاف، والانفصال القسري عن حاضنة الأمومة، واللقاء السعيد، إلى جانب مصالحة الصبية مع ذاتها المختطفة والمضيّعة، وحلقات الوجود المتعاقبة من الولادة إلى الموت فالتجدد على أصعدة ذاتية وجَمْعية. وتذكّر عبودي بأنّ العلاقة بين الأمّ والابنة اجتذبت في الغرب الكثير من ميادين الاستقصاء والبحث والتنظير، خاصة بعد أن تحولت إلى موضوع مركزي في الدراسات النسوية والجندرية، كما حظيت باهتمام واسع في مختلف أنساق الثقافة الشعبية. لكنّ الموضوع في العالم العربي تكتنفه أستار كثيرة، ذات صلة بمبدأ «الستر» كما ترجح عبودي؛ والباعث الأكبر خلف ندرة الأبحاث في هذا المضمار هو حميمية العلاقات الأسرية عموماً، والعلاقات بين الأمّ والابنة خصوصاً. ولهذا فإنّ بعض نماذج السيرة الذاتية على قلّتها، وعدداً غير قليل من الأعمال الأدبية السردية، هي في عداد المداخل القليلة إلى ولوج هذه العوالم؛ الغنية مع ذلك، الكاشفة للكثير من المعطيات الإنسانية والنفسية، ثمّ الاجتماعية والاقتصادية والسياسية استطراداً.

هذا ما تسعى إليه عبودي في دراستها، الرائدة على صعيد اللغة الإنكليزية كما يتوجب التنويه، فتقيم تحليلاتها على منظورات متنوعة، نفسية ونسوية وثقافية ودينية وسياسية؛ ترتكز أوّلاً على شبكة الروابط بين الأمّ والابنة، لكنها تتوسع أكثر نحو العائلة والأطر الاجتماعية الأعرض. وعلى هدي هذا المنهج لا تُغفل الباحثة إدراج الأساطير والتنميطات والسرديات الشائعة عن هذه العلاقة في سياقات الثقافة، أو بالأحرى: الثقافات العربية، التقليدية والحديثة والمعاصرة. وأمّا السبب في اختيار الابنة، وليس الابن، فإنّ عبودي تشير إلى خصوصية الصلة الأنثوية بين الأمّ والابنة (والتي يمكن أن تقابلها خصوصية العلاقة بين الأب والابن)، في معمار العائلة العربية؛ كما تُبرز سبباً ثانياً هو أنّ للتربية الأمومية عميق الأثر على التكوّن الأنثوي للشخصية والذات والنفس، الأمر الذي يؤكد علم النفس المعاصر أنّ أنماطه مختلفة عند الذكر؛ وأمّا السبب الثالث فهو أنّ كلّ امرأة ابنة، ومعظم النساء يصبحن أمهات.

وفي تطبيق هذه المطارحات التمهيدية، وبعد فصل مكرّس للأسرة لجهة مركزيتها في المجتمع العربي، وكذلك إشكالياتها الكثيرة وحقائقها وأوهامها؛ تنتقل عبودي إلى خطّها التحليلي الأوّل، فتتناول علاقات الأمّ والابنة في أعمال السيرة الذاتية، فتتوقف عند فدوى طوقان في «رحلة صعبة، رحلة جبلية»، وفاطمة المرنيسي في «أحلام انتهاك: حكايات طفولة في الحريم». الخطّ الثاني هو العلاقات ذاتها ولكن في نموذجين من الأعمال الروائية: لطيفة الزيات في «الباب المفتوح»، سمر عطار في «لينا: لوحة فتاة دمشقية». الخطّ الثالث هو علاقات الإبدال والوكالة بين الأمّ والابنة، وكذلك الحضانة واليتم، كما تناولتها أعمال سمية رمضان وسلوى بكر ونوال السعداوي وسواهنّ؛ فتتوقف، في تحليلات أوسع، عند عالية ممدوح في «حبات النفتالين»، وحنان الشيخ في «مسك الغزال». الخطّ الرابع هو العلاقات وقد اتخذت سمة الاغتراب، والانحدار نحو الجنون، كما عند ميرال الطحاوي في «الخباء»، وأندريه شديد في «نوم بلا حدود».

وفي كلّ هذه الخطوط التحليلية اعتمدت عبودي صيغة التمهيد بمادة مفصلة تستعرض نماذج الآداب العالمية التي تضيء موضوعة الفصل، وكذلك أبرز الإسهامات النقدية والفكرية التي تساعد القارئ المستزيد على الذهاب أبعد في تلمّس جوانب ووجهات نظر أخرى، ثم الاختتام بجملة خلاصات تستجمع ما ناقشه الفصل من أفكار وفرضيات. وبهذا المعنى فإنّ الكتاب مرجع بالغ الأهمية في أبواب اختصاصه المعلنة، أي العلاقات بين الأمّ والابنة في أعمال الأدب التي كتبتها نساء عربيات؛ لكنه، أيضاً، موسوعة مصغّرة حول الكثير من المسائل المقترنة بدراسة أدب المرأة، والقضايا النسوية والجندرية، ومن زوايا نقدية ونفسية وسوسيولوجية وتاريخية.

والكتاب، ختاماً، جدير بالتذكير والإطراء، ثمّ التوصية بالقراءة، في مناسبة عيد الأمّ الذي مرّ عربياً قبل يومين؛ فثمة، هنا، مادّة ثمينة ومفيدة وضرورية حول ذلك الرباط الأثير.

القدس العربي

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى