سيرة عارف آغا: ذكريات رفعة الجادرجي عن جده البدوي/ محمد تركي الربيعو
في الثمانينيات، كان المعماري العراقي الراحل رفعة الجادرجي، قد فقد كل شيء تقريباً؛ فبعد سنوات من العمل المعماري، وجد نفسه بين ليلة وضحاها في سجن أبو غريب. وفي هذا المكان، وفي تلك الظروف الكيدية، لم يعد له من زوار ربما سوى طيف زوجته بلقيس شرارة، التي بقيت الشاهد على مسيرة حياته وتقلباته، وصديقه عطا عبد الوهاب الدبلوماسي والمترجم العراقي، الذي تقاسم معه يوميات السجن. أما الونيس الثالث، فقد تمثل في الذكريات، التي ستبقى تراوده طوال ما تبقى من حياته، ليعيد اكتشافها ومحاورتها، ويبحث في ممراتها المتعرجة عن سيرته المعمارية، وذكريات طفولته البغدادية، وفترة الدراسة في لندن وغيرها من المحطات، ولحظات الانحدار التي عاشها، وربما شعر بثقلها بشكل كبير في السجن.
كانت زيارة الذاكرة له طوال أيام السجن، بالإضافة ربما إلى عدم يقين الجادرجي من الأيام المقبلة، سببين كافيين ليقوم هذا المعماري بتأليف عدد من الكتب حول سيرته المعمارية، أو بالأحرى حول سيرة التطور الفكري للحركة المعمارية في العراق، بين عامي 1952 و1978. كانت البداية مع (شارع طه وهامرسمث)، الذي سيحدثنا فيه عن بعض الأحداث والمواقف، التي كانت تتشكل حول العمارة العراقية وفلسفتها؛ فبعد دراسته في لندن سنة 1954، كان قد وجد أنّ النظريات المعمارية، اليسارية أو اليمينية، المادية أو المثالية، بقيت قاصرة عن تفسير الواقع؛ فالعمارة كجسم مادي، لا تتألف فحسب من عنصرين متجانسين أو متناقضين، أي المحتوى والشكل، بل هو جسم حقيقي يولد جراء تفاعل بين المطلب الاجتماعي، والتطور التكنولوجي، وما يوفّره من مواد جديدة.
وبعد فراغه من تدوين هذا الكتاب، لن يتوقّف صاحب الوجه الحليبي عن الكتابة، وسرد تفاصيل أخرى من تاريخ العمارة العراقية؛ بل سيعكف على تسجيل السيرة الأكبر أو الأطول للعمارة العراقية، خلال قرابة عقدين أو أكثر، من خلال كتابه «الأخيضر والقصر البلوري» الذي سيضع مخططه الأول في شهر فبراير/ شباط 1980 داخل السجن قبل أن يُطلق سراحه بقرار من صدام حسين، بعد أن كلّفه الأخير بإعادة إعمار بعض الأماكن في بغداد. بيد أنّ سنان باشا العراقي، لن ينتظر طويلاً حتى يغادر البلاد، فقد كانت لحظة هدم نصب الجندي المجهول، التي وثّقها بكاميرته، بمثابة لحظة فراق مريرة عن تاريخه البغدادي والمعماري. بعد ذلك بسنتين تقريباً، كان قد أنهى قرابة نصف كتابه سالف الذكر، ليلتحق بعدها بأيام قليلة بجامعة هارفارد في أمريكا.
سيُتاح له، في يومياته داخل هذه الجامعة العريقة، تدريس حلقات من العمارة، كما سيجد أمامه الفرصة للإطلاع أكثر على تاريخ الفلسفة وعلى أقسام الأنثربولوجيا، التي سيدرسها لاحقاً، قبل أن يستعير بعض أدواتها وطقوسها لتأليف كتب عن مسيرته وذاكرة الطفولة مع عمارة بغداد العتيقة. في تلك الفترة، أو لنقل قبلها بسنوات قليلة، كانت هذه الأقسام، سواء في الولايات المتحدة، أو حتى بريطانيا، تتعرض لتأثيرات مختلفة ومتنوعة من الماركسية، ونمو النزعة النسوية، إذ يروي لنا سيدل سلفرمان ـ جامعة نيويورك، في سياق وصفه وتأريخه لدروب هذا الحقل، عن فترة الترجمات الغزيرة من الفرنسية، التي عرفتها الأنثروبولوجيا الأمريكية في فترة السبعينيات، فقد تُرجِمت كثير من أعمال الماركسيين البنيويين الفرنسيين والألمان والروس، بما في ذلك كتابات ماركس نفسه. لن نعثر في كتب الجادرجي اللاحقة، أو في حدود اطلاعنا، على إشارة واضحة، توضّح أي المدارس أو الأفكار التي تأثر بها آنذاك، لكن لا بد أنها التقت أحياناً بهذه التطورات الجديدة في أمريكا، وربما نعود لاحقاً لفحصها أكثر. وبغض النظر عن التأثيرات التي عاشها الجادرجي داخل أقسام الأنثروبولوجيا، فإنّ أدوات هذا الحقل ستساهم في حدوث انعطافة كبيرة على مستوى كتاباته اللاحقة، ولن نبالغ إن قلنا إنّ ما كتبه لاحقاً يختلف كثيراً عن سيره الأولى، صحيح أن العمارة البغدادية وتاريخها بقيت هي الشاغل الأساسي له، بيد أنّ طبيعة الأسئلة كانت قد تغيرت بشكل شبه كلي. وسيبدو هذا التحوّل جلياً مع مؤلفه «مقام الجلوس في بيت عارف آغا»، الذي سيدشن، وسيطبع بهواجسه معظم مؤلفاته اللاحقة أيضاً، إذ لن تحتّل شكل البيوت وتصاميمها الأولوية صفحاتَ هذه السيرة، بل سيكون الحديث هذه المرة عن الأشياء التي زيّنت هذه العمارة أو كستها، وبالأخص تاريخ الأثاث في مدينة بغداد، خلال النصف الأول من القرن العشرين، والدلالات الاجتماعية للجلوس على الأرض أو على السجاد، ولاحقا على الكراسي الفخمة أو «الكلاطخ»، وفق التعبير الشعبي العراقي.
ولن يقوم الجادرجي في هذا المشروع الجديد برحلة أثنوغرافية لأحد أحياء بغداد القديمة، كما كان يفعل عادة أصدقاؤه الجدد من الأنثروبولوجيين، لا لصعوبتها تقنياً، فمن هو أكثر معرفة منه ودراية بأحياء بغداد القديمة، بل لأنّ زمن العودة كان قد ولّى، أو ربما لم يعد متاحاً، ولذلك سيلجأ من جديد إلى يوميات الطفولة، وما نقشته في ذاكرته من صور عن بغداد الأربعينيات، لتكون بذلك ميدانه الأثنوغرافي البديل.
سيبدأ أولى خطواته الأثنوغرافية، وكان قد بلغ يومها الستين وأكثر، من أمام بيت أخواله وجده عارف آغا في شارع الرشيد. كان هذا البيت قد عرف مراحل تطور عديدة، بدءاً بهيكله القديم الذي تشكّل خلف (الحوش) بعد النصف الثاني من القرن التاسع عشر، والذي كان يرمز كما يوحي الجادرجي لتاريخ العمارة أو بالأحرى «للعقلية البغدادية» القديمة، قبل أن يعيش تطوراً جديداً مع تشييد دار ملحقة أخرى لزوجة جده الجديدة التركية (خاتون خانم)، الذي بني هذه المرة أمام الحوش وليس وراء ستائره. كان هذا البناء الجديد يُشير، بشكله المختلف، وشبابيكه المطلّة على العالم الخارجي، إلى أسلوب آخر في التصميم، أو الرتابة (العثمانية المتأخرة/خاتون خانم) والذي عرفته بغداد قبل الحرب العالمية الأولى. لن يطيل الجادرجي التمعّن في هذا الشكل، فموضوعه ليس العمارة، أو لنقل فإنّ استراتيجيته الجديدة في الكتابة حول العمارة العراقية وعلاقتها بالحداثة، لن تكون هذه المرة بأسلوبه السابق الوصفي، الذي عرفناه في يوميات الأخيضر، بل سيندفع إلى استخدام الأساليب واللغة الجديدة التي درسها في جامعة هارفارد. هنا سيحدثنا عن علاقة الإنسان بالأثاث (وسائل الجلوس) التي لا تقوم فقط، كما يرى، على تأمين الراحة فقط، وإنما تؤمّن له أيضاً أداة تستعمل لتحديد موقع هوية الفرد، أو الذات مقارنة مع الآخر.
كانت العمة فاطمة (ابنة عارف آغا) تجلس على سرير في الدار القديمة خلف الحوش، بينما لم يكن باستطاعة باقي نساء المنزل الجلوس إلى جانبها، وبالأخص الطبّاخة التي لم يكن مسموحاً لها سوى الجلوس على تختة (كرسي صغير)، أو على الأرض. هنا، سيتوقف قليلاً قبل إكمال رحلة البحث هذه، ليتحدّث عن تفاصيل مكانة الأنثى في بغداد القديمة. فقد كان يُنظر لهنّ في تلك الفترة، كما يروي الجادرجي اعتماداً على ذاكرته، بوصفهن يمثّلن الوجود المدنّس، الخطر على المجتمع، ولذلك كان يتعين مراقبتهن (عبر بناء منزل بدون شبابيك للعالم الخارجي وخلف الحوش)، كما اقتصر دورهن، على تأمين الذرية لتنتقل الملكية الزراعية إلى ذرية الأب المالك. هكذا كان واقع نساء البيت القديم، محكوم عليهن العيش كسجينات داخل الحرم؛ لا يأتي الجادرجي هنا على ذكر المراجع التي اعتمد عليها في سياق بنائه لهذه السردية، رغم حديثه ومقارنته بين واقع المرأة العراقية والمرأة الأوروبية في العصور الزراعية، وهي شيمة بقي الجادرجي يعترف بها ويفسّرها، كونه ليس مؤرخا أو أنثربولوجياً، بل بقي أقرب في أسلوبه البحثي لأساليب معماري القرون ما قبل الحديثة، الذين كانوا يمتنعون عن ذكر أسرار مهنتهم أو مصادرهم كي يحتفظوا بما لهم من مقام اجتماعي، أو منزلة طبقية.
وربما بقيت هذه الأسرار التي ذكرها في كتبه السابقه، هي المنهجية التي تحكم عمله في بيت عارف آغا، إذ لا وجود للمصادر أو ذكر لمصدر الأساسات التي بنى عليها تفسيراته لواقع المرأة العراقية، وكأنه هنا يعترف بأنّ الأنثربولوجيا، وإن كانت قد أثارت شغفه، لكنه سيبقى معمارياً في الأصل. بيد أنّ غياب هذه المراجع أو الخلفية النظرية لم يعنِ عدم إمكانية تحديد مصادر هذه القراءة. فمثلاً، يوحي حديثه عن مجتمعات الإنتاج وأنماط الملكية، عن تأثر واضح بمسودة ماركس وأنجلز الأثنوغرافية، وهو تأثر لم ينكره الجادرجي في يوم ما، لكنّه حذر من بعده الطوباوي، وتطبيقاته الأرثوذكسية على مجتمعات ما قبل الرأسمالية، ولذلك نجده يلجأ هنا للإعلان عن هذه القطيعة الجزئية، من خلال تخصيصه صفحات للحديث عن واقع اللامساواة بين الجنسين في بغداد؛ وكأنه بذلك حاول أن يتبع ذات الاستراتيجية التي أخذ ينتهجها في تلك الفترة عدد من الأنثروبولوجيين في أمريكا وخارجها، لتجاوز مفهوم الطبقة، من خلال التركيز مثلاً على قضايا الجندر واللامساواة، متأثرين بالتقارب الذي كان يحدث انذاك بين الماركسية والبنيوية. ولعل هذا الأسلوب قد يكشف لنا أن فترة هارفاد كانت بالنسبة للجادرجي فترة التأثر بالأنثروبولوجيا البنيوية الفرنسية ذات النكهة الأمريكية، وهو ما سيبدو أكثر وضوحاً من خلال كتابه اللاحق «دور المعمار في حضارة الإنسان» 2014 والذي خصّصه للحديث عن الفكر البنيوي للفن والعمارة في تاريخ أوروبا والعالم الإسلامي.
ربما ما يؤكد هذه القراءة، هي الخلاصات التي يمكن استقراؤها من نتائج دراسته حول أماكن الجلوس في بيت جده، إذ سيعود بنا إلى العمة فاطمة، التي كانت تجلس على السرير لساعات في حالة من الهدوء، لتعكس حياة الهامش والانزواء الذي عرفته النساء البغداديات في تلك الفترة. وفي الشتاء تنتقل إلى الطابق العلوي، لتجلس على فراش (دوشك) ومخدات متكئة على الجدار، بينما تغطي الأرض سجادة إيرانية تحتها حصيرة أكبر منها، في حين نجد أنّ فطيمو (غريبة ولكنها تعيش في المنزل) تجلس على تختها قرب باب الغرفة، أو تتربع على السجادة، بينما لا يسمح للخادمة سوى بالجلوس على الحصيرة، وهكذا تبقى العلاقة التراتبية بالنسبة إلى الجلوس ثابتة بينهم. أما في الدار الجديدة، التي تعكس حالة الحداثة المعمارية والاجتماعية البغدادية نعثر على تفاصيل مختلفة. إذ تقع الدار مباشرة على الشارع، خلافاً لحالة الانزواء، وقد يذكّرنا هذا المعطى بتطوّر المنازل في مدينة دمشق مثلاً في بدايات القرن العشرين، وهي الفترة ذاتها التي بنيت فيها هذا الدار، إذ أخذت النخب الدمشقية المحلية تحاول أن تتمايز من خلال المنظر الخارجي للبيت والشبابيك وباب الدار، بدلاً من اهتمامها بالشكل الداخلي؛ ولعل ما ميز دار خاتون خانم ما يسميه الجادرجي بأجواء الفردية على صعيد أماكن الراحة والجلوس والنوم، فقد خُصّص فراش وسرير نوم منفرد لكل فرد، وأصبح من الحرج جداً اشتراك فردين في سرير واحد، كما غدت لكل غرفة ستاثر وشبابيك، خلافاً للبيت القديم الذي لم يحتوي على شبابيك، لكن الجد ورغم هذه الإغراءات سيبقى يمارس حياته وعاداته في الجلوس على الأرض.
ربما ما حاول الجادرجي قوله هنا، من خلال هذه الصورة الأنثروبولوجية (البيت القديم مقابل البيت الحديث وتمسك الجد بجلسة الأرض)، أن هناك بنية أو ذهنية عراقية بقيت ترفض الإقبال على الحداثة (والتي جاءت بها خاتون خانم المتأثرة بالحداثة الغربية) وظلت تفضل الجلوس على الأرض (التي تعد مرادفاً أحيانا لفكرة الأصالة)، لتأكيد بعدها السلطوي أو الأبوي؛ فرغم ارتقاء العائلة على صعيد الأثاث والفردية، بقي جده يصرُّ أو يفضل الجلوس «على الدوشك» كرسالة تعبر عن «موقف تنازل متعال، منحه لنفسه» وفق ما يراه الجادرجي، وكتعبير عن امتلاكه هذا الحق بوصفه رب هذه الأسرة، خلافاً لوضعية العمة فاطمة، التي كان جلوسها على السرير يعكس موقفها الهامشي أو التقليدي الذي وُضِعت فيه من قبل المجتمع الذكوري.
إذن، ما تكشفه قصة جد الجادرجي مع «الكلاطخ»، أنّ فشل مشروع العمارة العراقي والحداثة في هذا البلد، ربما يعود لهذا العقل الأبوي/البدوي (ربما تمثّل له آنذاك في صورة صدام حسين الذي كان يظهر أحياناً مرتدياً العباءة والعقال)، والعادات التي بقيت تحكم هذا المجتمع.. قد تذكرنا هذه المقاربة، التي ترى أنّ سبب فشلنا يعود لسيطرة العقلية البطريركية، بمقاربات المؤرخ اليساري هشام شرابي حول المجتمع العربي، ورغم أن الجادرجي لا يذكر هذه الخلاصة مباشرة في سيرة جده، وإنما يكتفي بالايحاء إليها، بيد أنّه سيعود ليعترف بها بشكل أوضح، وفج ربما، في كتابه عن دور المعمار في حضارة الإنسان، إذ يشير إلى أنّ فشل تطور العمارة والفنون والفردانية في هذا العالم الإسلامي تعود بالأساس لزمن تهميش المعتزلة، «وسيطرة العقل البدوي»، الذي فضّل تطوير اللغة، كبديل عن الرسم والنحت والرقص، ولذلك «لم تغتن شبكة كلتشريات (ثقافة) المجتمع، أو تكون مهيئة لتتوافق بقدر مناسب مع متطلبات الحداثة وتطوراتها المتسارعة».. لكن سواء اتفقنا مع هذا الخلاصة الأنثروبولوجية (العقل البدوي)، أم لم نتفق (رؤية لاتاريخية)، فإنّ ما يُحسب للجادرجي في كتابه هذا، أو في جميع كتبه، أنّه نجح في تثوير ذاكرة عمارة بغداد، وإن بدت في مرات عديدة، وكأنها تحاول أن تروي لنا بهمس، وحزن أجزاء من سيرة الدمار الذي عرفته المدينة لاحقًا في زمن البعث، والحصار، والجوع، والغزو، وميليشيات البداوة الجهادية (السنية والشيعية)..
٭ كاتب من سوريا
القدس العربي
——————————————-
رفعة الجادرجي: حداثة تريد أن تتجذّر في أرضها/ ناصر الرباط
ظهر في العراق في منتصف القرن العشرين مجموعة من المعماريين المتميّزين الذين درسوا خارج البلاد، في بريطانيا غالباً، وعادوا إليها مشبعين بروح وطنية ونفَس حداثي. انغمس هؤلاء المعماريون العائدون في النضال الوطني وفي التحديث المعماري على حد سواء، في الفترة التي كان العراق يناضل فيها للحصول على استقلاله. وساهموا – كل على طريقته – في إرساء أسس العمارة المعاصرة في العراق، بالإضافة إلى مشاركتهم في إرهاصات الثقافة والفن الحداثيين التي كانت قد بدأت بالتشكل في بغداد وغيرها من المدن تحت مسميات عدة.
في تصميماتهم وفي تنظيراتهم، أراد هؤلاء أن يوفّقوا بين العقلانية الحداثية التصميمية والإنشائية والمعمارية من جهة والحس التاريخي والثقافي من جهة أخرى. وقد أدى اقتران هذين المسعيين في أعمالهم إلى صعود قضية الهوية إلى رأس اهتماماتهم التشكيلية في نفس الوقت الذي كانوا فيه يشاركون غيرهم من معماريّي العالم في حركة الردة على المظاهر اللاتاريخية للحداثة مع محافظتهم على انتمائهم له. ولكنهم بأغلبيتهم قد اضطروا، كما الكثير غيرهم من جيل المثقفين الطليعيين، إلى مغادرة وطنهم الذي تعرّض لخضّات سياسية شديدة في السبعينيات والثمانينيات جعلت حياتهم في العراق وممارستهم لمهنتهم فيه صعبة. ومع ذلك فهُم جميعاً قد حملوا عراقهم معهم في الوجدان وفي الخيال المعماري، حتى عندما كانوا يصمّمون مشاريع في الخارج، غالباً في مدن الخليج.
أحد هؤلاء المعماريين، رفعة الجادرجي (1926 – 2020)، غادر عالمنا في لندن منذ أيام عن عمر يناهز الـ 94 عاماً بسبب جائحة كورونا المخاتلة والقاسية. فهذا الرجل – الذي ترك العراق عام 1983 ولم يعد إليه إلا لزيارات قصيرة خيبت أمله إلى درجة أنه رفض العودة إليه بشكل نهائي حتى بعد سقوط نظام صدام حسين – أمضى سنوات غربته كلها وهو ينظّر لمفهوم العمارة تاريخياً وإنسانياً وحتى فلسفياً في عدة كتب أرادها بمثابة رسائل حب مفعمة بحميمية عميقة لعراق عابر للزمن أو لعراق منتج للزمن الإنساني.
فغالبية كتبه؛ من “شارع طه إلى هامرسميث” (1985) إلى “في سببية وجدلية العمارة” (2006)، مروراً بـ”الأخيضر والقصر البلوري” (1991) و”حوار في بنيوية الفن والعمارة” (1995) و”مقام الجلوس في بيت عارف آغا” (2001)، على الرغم من تنوّع مواضيعها لا يمكن تخيّلها فقط ككتب مجرّدة عن تاريخ العمارة عبر التاريخ الإنساني الطويل كله، بل هي مجبولة، بدرجات مختلفة وضمن أزمنة تراوح بين فترات محددة من حياة رفعة الجادرجي إلى تاريخ الوجود الإنساني كلّه، بأرض العراق وناس العراق وعمارة العراق منذ أن كان مهداً للحضارة الإنسانية أو محطة مضيئة لتطوّرها إلى أن أصبح متلقياً لها ومنفعلاً بها. ورفعة نفسه موجود في كتبه كلّها أولاً كمعمار مفكّر، ولكن أيضاً كإنسان متوحّد بالتاريخ الإنساني كله يستقي من ذلك التوحد معنىً لتطوّر المجتمعات والثقافات من خلال خربشات الناس على الأرض وفوقها على مر الزمن، أي العمارة نفسها.
قبل مغادرته العراق، كان التصميم هو وسيلة التعبير الأولى لرفعة الجادرجي، وكان التصوير الفوتوغرافي أداته الأساسية للوصول إلى لبّ التصميم المعماري عبر توثيق عمارة وحرف العراق وعاداته وطقوسه الدينية. ولكنه بعد مغادرته العراق للاستقرار ما بين لبنان وبريطانيا، هجر التصميم وإن استمر بالتصوير، وأنجز مجموعة كبيرة من الصور بحسِّ الأنثروبولوجي الذي لا شكّ لدي في أنه أراد أن يكونه وأنه تمثّله من خلال كون زوجته بلقيس شرارة أنثروبولوجية.
ولا بد أنه كان لوالده كامل، الصحافي والسياسي المشهور ومؤسس “الحزب الوطني الديمقراطي”، دور مهم في شبه امتهان رفعة للتصوير الأنثروبولوجي. فكامل هو أول عراقي وثّق للحياة اليومية العادية في العراق بحنان وتفهم وتعاطف ربما كان فيه شيء من الاكتشاف والانبهار من قبل ابن الطبقة المرفّهة هذا في بلد كان يعجّ بالفقر والعوز والتقاليد البالية. وقد نشر رفعة من ضمن ما نشر صور أبيه في منشورين مختلفين مع تعليقات ضافية أضاف إليها كتاباً صغيراً أسماه “صورة أب” (1985)، ولكنه لم ينشر صوره هو بطريقة منهجية قط، ربما لأنه اعتبرها مواد للدراسة في سبيل التصميم المعماري الذي كان هاجسه الأهم طوال إقامته في العراق وكان أيضاً سبب سجنه وسبب هجره العراق في النهاية.
فالجادرجي، الذي درس العمارة (بالصدفة كما يقول في مقابلة رائقة مع ريكاردو كرم موجودة على موقع يوتيوب) في مدرسة هامرسميث للفنون والعمارة بين عامي 1946 و1952، عاد للعراق ليؤسس مكتب الاستشاري العراقي ولكي يبدأ بالعمل كمعمار في المجالين الخاص والعام، وقد بدأ منذ الخمسينيات بتنفيذ العديد من المباني المهمة في بغداد وغيرها من مدن العراق لكي يصبح في الستينيات من المعماريين الأوائل الذين تُعهد إليهم المشاريع العامة الكبرى.
خلال تلك الفترة تقلّب في المناصب الحكومية المؤثرة في العمارة والعمران في وزارتي الأوقاف والإسكان. ولكن لحظة التألق الأولى جاءت من خلال احتكاكه بعبد الكريم قاسم زعيم ثورة/انقلاب 1958 ضد النظام الملكي الذي طلب إليه تصميم نصب تذكارية في بغداد أنجز منها اثنان يمثلان بحد ذاتهما قمّتين في العمارة العراقية الحديثة. الأول هو “نصب الحرية” الذي شبّهه الجادرجي نفسه باليافطة الحجرية التي تنافس في توازنها اليافطات التي كانت تملأ فراغ بغداد خلال التظاهرات التي عمت البلاد قبل انقلاب قاسم، والذي قام بوضع منحوتاته الجدارية الرائعة الفنان العراقي الأشهر جواد سليم الذي كان صديقاً مقرّباً للجادرجي.
أما النصب الثاني، وفي الحقيقة كان أول مشروع معماري يكشف هوية رفعة الجادرجي المعمارية برأيي، فهو “نصب الجندي المجهول” في “ساحة الفردوس” الذي هدمه صدام حسين عام 1982 ليقيم مكانه تمثالاً هائلاً وبشعاً لنفسه أزاله الأميركان غداة غزوهم العراق في نيسان/ إبريل من عام 2003. نصب الجادرجي اختزل في تكوينه وشكله المعقود الأهليلجي والمقوّس الجوانب، عصارة العمارة الرافدية الأولى التي أنشأها السومريون في سواد جنوب العراق في الألفية الثالثة قبل الميلاد والتي ما زالت إلى اليوم أسلوب بناء أساسي بالقصب والسعف يعتمد على قدرة هذه المادة الرائعة على الانحناء وتشكيل القبوات المقوسة المنتشرة في أهوار العراق والتي تعرف أحياناً بالصريفة. ثم أتى الجادرجي لكي يطوّر من هذا التشكيل رمزاً مجرّداً للعراق، أرض الأهوار وملتقى النهرين ومنبع الحضارة ومصدر العمارة المقبّبة والمقوَّسة من الآجر الطيني المشوي أو النيئ. وما نصبه ليس إلا بداية واعدة لما سيصبحه الجادرجي بعد عقود كمنظّر للاستمرار الحضاري الإنساني من خلال التنوّع المعماري القائم على الانتماء للمكان والإلمام بالخواص التشكيلية والإنشائية للمادة المحلية.
هذه البداية ستتطوّر إلى تشكيلات اختزالية للأقواس ستطعِّم واجهات مباني رفعة الجادرجي الحكومية في الستينيات والسبعينيات وتضفي عليها نكهة حداثية-محلية، المصطلح الذي اشتقه الجادرجي نفسه للتعبير عن عمارته الحداثية التي تريد أن تتجذّر في أرضها، فأبنية مثل مبنى “اتحاد الصناعات الوطنية” (1966) ومبنى “المجمع العلمي العراقي” (نفس السنة) ومبنى “شركة التأمين الوطنية” في الموصل (نفس السنة أيضاً والذي استخدمته داعش خلال احتلالها الموصل لإلقاء المثليين من أعلاه ودمّر في الأعمال الحربية اللاحقة لطرد داعش) ومصرف الرافدين (1969) وغيرها ما هي إلا تقاسيم على لحن القوس المزدوج الذي أصبح في الآن نفسه علامة الجادرجي المميزة وعنصره التشكيلي الأول الذي منه يستخلص إيقاع واجهة المبنى ومعناه.
هناك في مباني الجادرجي كلها رغبة جامحة بالتسامي من خلال الخطوط التي تحزّز واجهاتها وتضفي عليها توازنها الذي استمده الجادرجي من دراساته الفوتوغرافية لمكوّنات واجهات الشارع البغدادي وتنويعاتها الفراغية. وهناك في مبانيه أيضاً انتماء واضح للتاريخ وللمكان ولكن أيضاً حساسية تشكيلية لا يمكن فهمها إلا من خلال معايير الحداثة وذائقتها الجمالية. وهنا فعلاً بيت القصيد بالنسبة للمعماري رفعة الجادرجي، الذي عاش حياته ومات حداثياً ملتزماً على كل الأصعدة من العمارة إلى الاعتقاد الديني والحياة الشخصية والعلاقات الإنسانية وطبّق على تعامله معها كلها فلسفة شكاكة صارمة لم يحد عنها قط.
سُجن الجادرجي عام 1978 في عهد “البعث” بتهمة الخيانة العظمى لتحدّيه السلطة القائمة وغالباً لفرط كبريائه، على الرغم من كونه لم يكن سياسياً أبداً إلا من وجهة نظر فلسفية شاملة. وقد حُكم عليه بالسجن المؤبد ولكن أطلق سراحه بعد أقل من سنتين عندما أراد الطاغية الصاعدة أنجمُه، صدام حسين، أن يجمّل وجه بغداد وعيّن لذلك رفعة الجادرجي مستشاراً لأمانة العاصمة عام 1980. يُذكّر ذلك بقصة أحمد بن طولون، حاكم مصر الشهير الذي عندما أراد بناء جامِعه وفق طراز معيّن لم يجد من يبني له ذلك سوى معمار، عراقي أيضاً، كان مسجوناً لديه فأخلى سبيله وعهد إليه بالعمل.
هكذا الطغاة عندما يحتاجون لمن يحقق أحلامهم العمرانية، فقد أوكل صدام حسين للجادرجي تنظيم مسابقة معمارية عالمية لبناء جامع للدولة كبير استعداداً لـ”مؤتمر دول عدم الانحياز” المقرر عقده في بغداد عام 1983. لم يُبن الجامع قط، ولم يُعقد المؤتمر أصلاً، ولكن المسابقة والمشاريع التي شاركتُ بها وشروطها التي وضعها الجادرجي دخلت حيّز العمارة المعرفي كنماذج حداثية لتصميم المساجد وهي ما زالت تدرّس إلى اليوم.
غادر الجادرجي العراق بعد وقت قليل من انهيار المسابقة والمؤتمر في خضم الحرب المدمّرة بين العراق وإيران. ذهب إلى الولايات المتحدة الأميركية كباحث زائر في برنامج الآغا خان للعمارة الإسلامية في كل من هارفرد وإم. آى. تي. وتقلّد مناصب بحثية عديدة في كلتا الجامعتين في برامج ثقافية وفلسفية ومعمارية حتى عام 1992 حين عاد إلى لبنان أولاً حيث أطلق “مؤسسة الجادرجي” التي تحتفي بنوابغ العمارة الناشئين، ثم اتجه إلى لندن في الأخير.
في الأثناء حصل على جائزة الرئيس لإنجازاته من جائزة الآغا خان عام 1986 تبعتها جوائز عدة اعترافاً بمنتجه المعماري والفكري على حين انسحب هو وحبيبة العمر، بلقيس، من الحياة العامة ليتفرّغا للكتابة والقراءة والتفكر وسماع الموسيقى مع إطلالات قليلة ومتباعدة إلى أن وافته المنية في زمن الموت الاعتباطي هذا الذي نعيشه.
ترك رفعة الجادرجي خلفه إرثاً ضخماً مكتوباً ومصوّراً لا بد أن يتناوله الباحثون المعنيون بسيرة العمارة في العراق وتاريخ العمارة العالمية بالدراسة والتمحيص (منح الجادرجي مكتبة الآغا خان في إم. آى. تي أرشيفه كاملاً وهو متاح اليوم لكل الباحثين)، وترك أيضاً بعض مبان من روائعه في بغداد وإن كان العديد منها قد هدم خلال حياته، مما دفعه بنظرة المؤرخ الشاملة ونفس الفيلسوف الخلدوني الذي كانه إلى أن يعزو ذلك إلى هيمنة العقلية البدوية في العراق التي لا ترى في المباني أكثر من تأدية لوظيفة تنتهي بنهايتها. ولكن تأثيره على الفكر المعماري لن ينتهي لا بنهاية حياته ولا بزوال مبانيه، فهو قد نجح في غزْله ضمن المنظومة العالمية للعمارة كما نظّر خلال حياته كلها.
* مؤرّخ معماري سوري وأستاذ كرسي الآغا خان للعمارة الإسلامية في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا
العربي الجديد