الناس

سجن العقاب.. أخطر سجون جبهة النصرة في إدلب: التأسيس، الأقسام، “فلسفة” التعذيب، تجارب من مرّوا به/ أحمد عبيد

“قضيت سبعة عشر يوماً متواصلاً داخل ذاك النعش الحديدي، وكانت المرة الثالثة التي يضعوني به خلال عام ونصف قضيتها في سجن العقاب” هذا ما يقوله سعيد لحكاية ما انحكت، فما هو هذا النعش الحديدي المعروف بأنه وسيلة التعذيب الأخطر والأشد في سجن العقاب التابع لجبهة النصرة؟ يكشف التحقيق التالي استراتيجية السجن، تأسيسه وأقسامه ووسائل التعذيب فيه، والرشاوى وعمليات ابتزاز أهالي المعتقلين السائدة فيه، والتهم الموجهة للمعتقلين التي غالباً ما ترتبط بمخالفة الشريعة الإسلامية، كما يصوّر تجربة عدد من السجناء وما تعرّضوا له داخل مغاور سجن العُقاب.

(إدلب، سوريا)،”حاولت مراراً أن أوصف شعوري حين تلقيت تلك التهمة، لكني عجزت عن ذلك، مؤسف أن نكون في عيون الآخرين أبطال وصنّاع للإنسانية، وفي عقول من نعيش معهم المأساة ذاتها عملاء وخونة، لمجرد انتقاد سياسة يتبعها فصيل عسكري، يحرف فيها البوصلة عن الهدف الذي خرجنا لأجله، ويُعيد الخوف لقلوب الأهالي بعد سنوات على تحرّرهم منها، منذ خروج المنطقة عن سيطرة قوات الحكومة السورية”.

لم يعرف حمزة (26 عاماً، مستعار)، وهو أحد عناصر منظومة الدفاع المدني السوري، المعروفة باسم “الخوذ البيضاء”، الذي شهد انسحاب مقاتلي “هيئة تحرير الشام” من قرى ريفي حماة الشرقي وإدلب الجنوبي صيف عام 2019، أن منشور عبر حسابه الشخصي في موقع التواصل الاجتماعي “فيس بوك” يصف فيه شعوره أثناء انسحاب أرتال المقاتلين سيودي به إلى “سجن العُقاب” أحد أخطر سجون هيئة تحرير الشام، جبهة النصرة سابقاً، في الشمال السوري.

يكشف التحقيق التالي استراتيجية سجن العُقاب التابع لهيئة تحرير الشام “جبهة النصرة سابقاً”، تأسيسه وأقسامه ووسائل التعذيب فيه، إضافة لتسلم قادة سابقون في تنظيم داعش إدارته، والرشاوى وعمليات ابتزاز ذوات المعتقلين السائدة فيه، والتهم الموجهة للمعتقلين التي غالباً ما ترتبط بمخالفة الشريعة الإسلامية، كما يصوّر تجربة عدد من السجناء وما تعرّضوا له داخل مغاور سجن العُقاب.

موقع وسيطرة

يتألف سجن العُقاب المعروف بكونه أخطر السجون الأمنية في مناطق سيطرة المعارضة المسلحة في محافظة إدلب شمالي سوريا، من سلسلة كبيرة من المقرات، تمتد على طول جبل الزاوية جنوبي المحافظة، وهو عبارة عن 11 مدجنة واقعة على الطرق الجبلية الواصلة بين قرى “البارة، كفرنبل” و”احسم، دير سنبل”، والتي  هجرها أصحابها قبل سنوات، جراء العمليات العسكرية والقصف المكثف على قراهم، إلى جانب 3 مغاور تمّ تجهيزها خلال فترة قصيرة جداً لتصبح أشبه بالأفرع الأمنية الخاصة بالحكومة السورية، فضلاً عن مغارة “كنصفرة” التي تعتبر السجن الرئيسي الأخطر والأكثر تشديداً بالنسبة للمعتقلين.

تتولى هيئة تحرير الشام إدارة سجن العُقاب، وهي جماعة متشددة مقاتلة في سوريا، مدرجة على قوائهم الإرهاب الأوربية والأمريكية وغيرها من البلاد العربية. كانت تعرف باسم جبهة النصرة، وفي أواخر يوليو/ تموز 2016، غيّرت اسمها لـ “جبهة فتح الشام”، وذلك تزامناً مع إعلانها فك الارتباط بتنظيم القاعدة وكسر الولاء لزعيمه أيمن الظواهري. وفي نهاية فبراير/ كانون الثاني 2017 أصبح اسمها “هيئة تحرير الشام”، وهو الاسم المتبع حتى الآن.

الإدارة بعهدة قيادي في تنظيم داعش!

مبايعته لتنظيم داعش بعد انشقاقه عن جبهة النصرة، لم تعفه من إدارة سجن العُقاب حتى اليوم، فارتفاع مستوى الإجرام معيار أساسي لاختيار صاحب هذا المنصب.

القيادي السابق، وأحد مؤسسي جبهة النصرة، صالح الحموي، المعروف باسم “أس الصراع في الشام”إن السجن تأسس عام 2014، في مغارة جبلية واقعة بين مدينة كفرنبل وبلدة كنصفرة في جبل الزاوية، تزيد مساحتها عن ثلاثة آلاف وخمسمائة متر مربع، تم تحصينها بسور مرتفع يحيط بها، حيث تم تقسيمها لغرف وزنازين مجهزة بأبواب حديدية متينة.

وأضاف الحموي الذي تواصلت معه “حكاية ما انحكت” عبر تطبيقات المراسلة الفورية، أن السجن كان يتبع في بداية تأسيسه لقطاع محافظة حماة فقط، إلا أنه أُقيم في جبل الزاوية بسبب كثرة المغاور الطبيعية فيها، لافتاً أن “السجن نشأ دون تخطيط مسبق، وكان لا بد منه للتخلص من معاناة فصائل المعارضة من هروب السجناء المتكرر، بسبب عدم وجود سجون مشادة بطريقة منظمة، إلا أنه كان من المقرّر أن يقتصر على العناصر الأمنية في الحكومة السورية وتنظيم داعش”.

وأكَّد الحموي أن “أبو خديجة صوران” محمد أبو خديجة، شاب عشريني، ينحدر من بلدة صوران بريف حماة الشمالي) أحد قياديي جبهة النصرة من أصحاب الجنسية السورية، وينحدر من محافظة حماة، تولى إدارة العُقاب منذ تأسيسه، وتركها فترة مبايعته لتنظيم داعش، ليعود ويستلم إدارته من جديد.

أواخر عام 2016 عملت جبهة النصرة على توسعة سجن العُقاب، وتسليم سلطته للمكتب الأمني المركزي بقيادة “أبو أحمد حدود”،المسؤول الأمني العام، سوري الجنسية من مواليد محافظة ريف دمشق، ترك دراسته في الجامعة، والتحق بصفوف الحركات الجهادية في العراق بعد الغزو الأمريكي، تسلَّم قيادة قطاع الحدود العراقية عام 2019 ضمن صفوف تنظيم داعش، ومن هنا جاءت تسميته “حدود”، وانضم لجبهة النصرة عام 2012 وأصبح أحد مرافقي الجولاني وصندوق الأسرار، وخاصة فيما يتعلق بالهدن مع الحكومة السورية، بيع الصحفيين، العلاقات الخارجية، ملفات التمويل.) لكن بقي حدود يعمل بإشراف “أبو خديجة” قطاع حماة المسؤول عن تأسيسه.

وعلى الرغم من توكيل “أبو عزام الشرعي” بمهمة تحويل المتهمين إلى السجن والبت بقضاياهم، إلا أن تعيينه لا يتجاوز كونه شكليا، في حين ينفرد الأمنيون بالقرار والسلطة، بحسب الحموي.

أقسام العُقاب؟

على غرار أقبية الحكومة السورية التي تحتوي معتقلات لسجن المعارضين والمعارضات للحكومة السورية، تعتمد إدارة سجن العقاب استراتيجية مشابهة في تسمية الزنازين وطرائق التنفس فيها، فلا منافذ للهواء في تلك المعتقلات، ولا تُغني بشيء النوافذ الصغيرة على أبواب الزنازين التي تحمل أرقاماً متسلسلة بالعشرات من المعتقلين الراقدين فيها، فكان لا بد لها من وضع شفاطات هواء للحفاظ على حياتهم.

أسبوع واحد في مغاور العقاب، كفيل بإصابة أي سجين بالأمراض التنفسية والجلدية بسبب صعوبة التنفس، وتقسيم السجن الداخلي، والرطوبة العالية في جدرانه، والتي غالباً ما تصل لدرجة “المزمنة” نتيجة الإهمال الطبي، وغياب الرعاية الصحية أو طرق الوقاية منها.

إسماعيل (36 عاماً, مستعار) يقول لحكاية ما انحكت: “أصبت في الشهر الأول من اعتقالي عام 2018، بمرض تنفسي نتج عن ارتفاع درجة الرطوبة في جدران مغارة العقاب، والهواء المكرر الذي يدخل الزنازين المنفردة والرباعية عبر شفاطات الهواء الكهربائية، ولم يكترث أحدهم لأحوالنا الصحية رغم تدهورها، وعند إغماء أحد السجناء، لا إجراء هناك سوى إخراجه إلى التشميسة بضعة دقائق، ليعود مجدداً إلى ما كان فيه”.

ويتابع إسماعيل: “عشرات السجناء أُصيبوا بأمراض جلدية كالصدفية والتهاب الجلد المعروف بـ “الأكزيما”، بسبب الجو العام للسجن، وخاصة أولئك الذين قضوا فترات طويلة بالمنفردات، والتي تتضمن حمامات ومراحيض بداخلها، والتي كانت تطوف بين الحين والآخر، ويبقى السجناء يجلسون على مياه الصرف الصحي في أرضية الزنزانة عدة أيام”.

وختم إسماعيل حديثه: “مهما طال الوصف، ومهما تخيلت شكل أجسام المصابين بالأمراض الجلدية، لا يمكنك تخيّل رائحة الأجساد المتعفنة من الرطوبة”.

عدد من المساجين الذين قابلتهم “حكاية ما انحكت” قالوا: “يتألف السجن الرئيسي من أربع وعشرين زنزانة منفردة، بطول مترين وعرض متر واحد، ومنها باب لدخول حمام صغير داخل كل منها، يُسجن فيها عادةً سجينان أو ثلاثة بحسب أعداد المعتقلين في السجن، إضافة لزنزانتين يُطلق عليهما اسم “الرباعيات”، وهي غرف أكبر من سابقتها نوعاً ما، تكون مخصصة لأربعة معتقلين، فضلاً عن ست غرف مختلفة الحجم، تُعرف باسم الجماعيات، منها ما يتسع لخمسة وعشرين سجيناً، وأخرى لخمسة وأربعين”.

وبحسب المساجين فإن العقاب يضم قسماً للمكاتب الإدارية، ويبلغ عددها ستة مكاتب، اثنين منها مخصّص للمحققين، وواحدة لمدير السجن، وأخرى لأميره، إلى جانب مكتب التنفيذية ومكتب المتابعة.

سجن العقاب يُخالف قوانين السجون الدولية بشكل كلي، ولا يلتزم بأي من قواعد الأمم المتحدة النموذجية الدنيا لمعاملة السجناء، والتي أقرت النسخة الأخيرة منها في السابع عشر من كانون الأول/ ديسمبر 2015، استناداً لتقرير لجنتها الثالثة، والتي تضمنت مئة واثنتي وعشرين قاعدة، بينها خمس وثمانين قاعدة عامة التطبيق، وسبع وثلاثين قاعدة تنطبق على فئات خاصة، كالسجناء المحكوم عليهم وذوو المشاكل الصحية العقلية، والسجناء الموقوفين رهن المحاكمة، والمدنيين، والمحتجزين بغير تهمة.

وخصّت الأمم المتحدة أماكن الاحتجاز بست قواعد، وخدمات الرعاية الصحية بثلاث وعشرين قاعدة، وموظفي السجن بتسع قواعد، إضافة لثلاث قواعد لكل من الثياب ولوازم السرير، والإخطارات، وأدوات التقييد، وعمليات التفتيش الداخلية والخارجية، وأربع قواعد لكل من تفتيش السجناء والزنازين، وتزويد السجناء بالمعلومات وتقديمهم للشكاوى، من قواعدها الخمس والثمانين عامة التطبيق.

وشملت القواعد عامة التطبيق أيضاً، كلاً من الطعام، والتمارين الرياضية، ونقل السجناء، والكتب، وحفظ متاع السجناء بقاعدة واحدة، وست قواعد للاتصال بالعالم الخارجي، وآخرتين للدين.

انتقاد التنظيم خيانة وعمالة!

الخوذة البيضاء لم تحمي “حمزة” من عناصر جبهة النصرة المتمركزين على حاجز خان شيخون جنوبي إدلب، فبعد منشور عبر حسابه في “فيسبوك”، انتقد فيه انسحاب أرتال هيئة تحرير الشام من قرى ريف إدلب الجنوبي المحيطة بمنطقة الهبيط دون أدنى مقاومة أو قتال، لم يتردد عناصر جبهة النصرة لحظة واحدة باعتقاله، رغم معرفتهم بتوجهه إلى حيث ترتكب طائرات الحكومة السورية وحليفها الروسي مجازرها، لإنقاذ المصابين.

يقول حمزة: “أثناء عملي مع بقية أعضاء فرقتنا بانتشال العالقين تحت الأنقاض في إحدى قرى ريف إدلب الجنوبي، والذي استمر يوم وليلة، شهدت المؤازرات الخجولة التي أرسلتها تحرير الشام إلى تلك الجبهات، رغم امتلاكها الآلاف من المقاتلين، والمئات من الآليات العسكرية وغيرها من المعدات، إلا أنني لم أتوقع أبداً أن يكون الانسحاب نيتها، لكن الأمر لم يكن كذلك بعد النداء الذي وجهته لعناصرها هناك”.

عناصر هيئة تحرير الشام انسحبوا دفعة واحدة قرابة الساعة الثانية بعد منتصف الليل، دون إبلاغ الكوادر الطبية والمسعفين وفرق الدفاع الوطني بشكل مباشر، هم الذين أُجبروا على مغادرة المنطقة فور سماع النداء عبر أحد أجهزة اللاسلكي الموجودة مع الحاضرين، ولا يعرف أحدهم إن كان هناك أشخاص عالقين تحت الركام أم لا، بحسب حمزة.

لم يجد حمزة وسيلة للتعبير عن شعور الانكسار والخيبة من الانسحاب والتراجع عن قراهم، سوى كتابة ما شاهده عبر حسابه في فيسبوك، ما اعتبرته جبهة النصرة خيانة وعمالة، وكشف للأسرار العسكرية.

دون تهمة موجهة، أو الخضوع لأي تحقيق، قضى حمزة الشهر الأول من سجنه في العقاب، وتعرّض خلاله لجلسات تعذيب بأساليب مختلفة، بمعدل قارب الساعتين يومياً وعلى مدار الشهر، تخلّل معظمها توجيه الصعقات الكهربائية بعد إغراق ثيابه بالمياه، فضلاً عن الضرب بالعصي الخشبية على أطراف أصابع يديه.

بعد انتهاء الشهر الأول من سجنه، وعند خضوعه لأول جلسة تحقيق في العقاب، واجه حمزة تهمة “التحريض ضد جبهة النصرة”، ليتفاجأ في الجلسة التالية بتهمة التخابر مع الحكومة السورية، وكشف الأسرار العسكرية، واستمر بتلقي التعذيب للاعتراف بارتكاب هذا الجرم قرابة الشهرين.

“لا شيء ينجي من الضرب هناك، والإنكار لا يولد سوى المزيد من التعذيب في العقاب، فكرت كثيراً بالاعتراف بالتهمة التي وجهت إليّ، لكني كنت مدركاً تماماً أن الاعتراف سينهي حياتي، بعد تصوير اعترافي ونشره عبر معرفاتهم، على غرار ما فعلوه مع الكثير من السجناء، ولن أجد من يدعو لي بعدها، وهو الشيء الوحيد الذي كان يمنحني القوة لمواجهة التهم بالإنكار”، يقول حمزة لحكاية ما انحكت.

ربط التهم بالشريعة الإسلامية والتضامن مع المضطهدين جريمة؟

لا يقتصر سجن العقاب على أسرى قوات الحكومة السورية أو الخلايا التابعة لتنظيم داعش، كما يشاع في أوساط قريبة من الهيئة أو في عموم الشمال السوري، ولا حتى على فصائل المعارضة المسلحة والمتناحرة، بل شمل الإعلاميين والناشطين المناهضين للفكر القاعدي، إضافة لمن حاول انتقاد “هيئة تحرير الشام” وقراراتها من المدنيين.

وكون جبهة النصرة أعلنت نفسها عام 2014 إمارة إسلامية، وادعت تطبيق أحكام الشريعة في مناطق سيطرتها عبر دور القضاء، فاتبعت أسلوب توجيه تهم مرتبطة بالدين الإسلامي للسجناء، فضلاً عن تهم وصفها القيادي السابق بـ “الفظيعة”.

وقف المحامي ياسر السليم، مكبَّل اليدين خلف ظهره، أمام قاضي ما يسمى “الجلسة الشرعية” وسبعة من مرافقيه في سجن العُقاب، لكنه وللمرة الأولى، مفتوح العينين كما كان القاضي، لتتلى عليه تهمة “حمل الفكر العلماني المخالف للشريعة”، وهي إحدى تهم الردة التي توجهها هيئة تحرير الشام لعدد كبير من معتقليها، قبل تطبيق حكم “الإعدام” على مرتكبها.

السليم أحد أبرز ناشطي الحراك السلمي في مدينة “كفرنبل” بريف إدلب الجنوبي، أخذ على عاتقه قضايا السوريين المضطهدين والمستضعفين من مختلف الفئات والطوائف، ووقف بوجه جميع الانتهاكات التي تمارسها قوات الحكومة السورية والتنظيمات المتشددة وفصائل المعارضة، وتلقى لقاء مواقفه العديد من التهديدات من جهات مجهولة.

رفع الناشط في وقفة احتجاجية كانت منظمة في مدينته “كفرنبل” في الحادي والعشرين من سبتمبر/ أيلول 2018، لافتة كُتب عليها عبارات تطالب بنساء من محافظة السويداء من بنات الطائفة الدرزية المختطفات لدى تنظيم داعش في ريف السويداء الشرقي، سبقها بأيام لافتة مكتوبة باللغة الكردية، حملت عبارة: “أهلنا الكرد، ما يكون لنا يكون لهم أيضاً، وما علينا من واجبات تكون عليهم أيضاً، ونحن ندعمهم حتى ينالوا حقوقهم المفقودة”، بالتزامن مع منشور عبر حسابه الشخصي في موقع التواصل الاجتماعي “فيسبوك” طالب فيه أهالي قريتي كفريا والفوعة في ريف إدلب، من أصحاب الطائفة الشيعية الذين أخرجوا من منازلهم في التاسع عشر من يوليو/ تموز 2018، بموجب اتفاق بين هيئة تحرير الشام والحكومة السورية، وبوساطة روسية- تركية، بالعودة إلى منازلهم، وكتب فيه: “أهلنا في كفريا والفوعة، ننتظر عودتكم بفارغ الصبر، لنعيش بسلام بعد أن نتخلص من الإرهاب الأسدي والداعشي”.

وما إن انتهت الوقفة الاحتجاجية التي طالب فيها بإطلاق سراح المختطفات لدى تنظيم داعش في السويداء، وحل الليل على قريته الجبلية، حتى قامت قوة أمنية تابعة لهيئة تحرير الشام بمداهمة منزله واعتقاله، واقتياده إلى أحد أخطر سجونها على الإطلاق.

اعتقال معارضي هيئة تحرير الشام، ليست الطريقة الوحيدة للتخلص منهم، فهناك أشخاص لا يمكنها اعتقالهم نظراً لمكانتهم الشعبية، وآخرين بسبب اتخاذهم التدابير الأمنية، فأصابع الاتهام أشيرت إليها مراراً، عقب عمليات اغتيال عديدة نُفذت في مناطق سيطرتها شمالي سوريا، لعل أبرزها اغتيال الناشط “رائد الفارس” الملقب بـ “مهندس اللافتات”، والمصور “حمود جنيد”، اللذان قتلا في مدينة كفرنبل جنوبي إدلب، في الثالث والعشرين من العام 2018، أثناء خروجهما من صلاة الجمعة في أحد مساجد المدينة، حيث أقدم مجهولون على إطلاق الرصاص المباشر عليهما، ما أدى إلى مقتلهما على الفور.

وسبق للنصرة أن اعتقلت الفارس عام 2016، بتهمة “الخلل الشرعي”، بعد منشور كتبه عبر حساب راديو فرش الذي أسسه في إدلب عام 2011، وصادرت معدات الراديو حينها، لتطلق سراحه بعدها بضمانات من شخصيات سورية معارضة، على أن يخضع لـ “محكمة شرعية” لاحقاً.

التحقيق ووسائل التعذيب

“محملون على عربة توزيع الطعام، يعود المعتقلون من جلسات التحقيقات الصباحية والمسائية، والتي لا تخلو من أصوات التعذيب والصراخ، منهم من تعرّض لتفسّخ بالجسد من شدّة التعذيب، وآخرون أصيبوا بكسور في عظام الأصابع ومشط القدم” يقول السليم.

يشترك سجن العُقاب مع معتقلات الحكومة السورية بثماني وثلاثين وسيلة تعذيب، من أصل اثنتين وسبعين وسيلة يستخدمها في سجونه، وثقتها الشبكة السورية لحقوق الإنسان، في تقرير صدر عنها في الحادي والعشرين من أكتوبر/ تشرين الأول من العام الفائت، صنفت فيه أنماط التعذيب ضمن سبعة محاور أساسية، ويتفرع عن كل نوع عدة أساليب ثانوية، بينها 39 أسلوباً للتعذيب الجسدي، وثمانية أساليب للتعذيب الجنسي، وثمانية للتعذيب النفسي، وستة للإهمال الصحي، إضافة لتسعة أساليب للتعذيب في المشافي العسكرية.

من الحي ذاته، وبالطريقة ذاتها، وبفارق خمسة أعوام، اعتُقل عبد المجيد (43 عاماً، مستعار) وهو أحد أبناء ريف إدلب، من قبل قوات الحكومة السورية، وعناصر جبهة النصرة بعدها، بسبب معارضة ممارسات كل منهما.

أثناء زيارة أجراها عبد المجيد لأحد أصدقائه في بلدة حاس جنوبي إدلب منتصف عام 2011، حاصرت قوة أمنية كانت تتبع لحاجز المستوصف العسكري آنذاك، الحي الشرقي من البلدة، واقتحمت المنزل لاعتقاله ومن معه بعد دقائق على وصوله، على خلفية مشاركتهم في المظاهرات المناهضة للحكومة السورية في مدينة معرة النعمان المجاورة.

ثلاثة أشهر قضاها عبد المجيد في سجن السياسية في مدينة إدلب، الذي كان ما يزال بعهدة الحكومة السورية فترة اعتقاله، تعرض خلالها للعديد من وسائل التعذيب، ولا سيما الدولاب والشبح والزج بالمنفردات، إضافة للحرق بأعقاب السجائر، وعلى الرغم من قساوتها جسدياً، إلا أنها لم تحمل الأثر النفسي الذي خلَّفه تصفية أحد المعتقلين في الزنزانة ذاتها.

فور خروجه من معتقلات الحكومة السورية، توجه عبد المجيد للعمل الثوري الذي تطور فيه شيئاً فشيئا، حتى انضم لأحد الفصائل المسلحة التابعة للمجلس العسكري المعارض، وبقي في صفوفه إلى أن اعتقلته دورية تابعة لجبهة النصرة من أحد مغاسل السيارات في الحي الشرقي ببلدة حاس جنوبي إدلب، بالقرب من المنزل الذي اعتقلته فيه السلطات الحكومية من قبل، واقتادته إلى مغارة العقاب الرئيسية في كنصفرة.

“لم تختلف أساليب التعذيب، والألفاظ النابية في سجن العقاب، عن مثيلتها في معتقلات الحكومة السورية، فلم يغيب الجلد والدولاب والشبح عن جسدي طيلة أربعة عشر شهراً قضيتها في العُقاب، كما هو حال التهم الملفقة لدى كليهما، فمن التحريض والتمويل لدى النظام، إلى التخطيط لاغتيال قياديي جبهة النصرة لدى الأخيرة”، يقول عبد المجيد.

رغم تشابه إدارة السجون وطريقة معاملة السجناء، ومطابقة وسائل التعذيب في السجون الحكومية وسجون النصرة، قضى عبد المجيد فترة سجنه في العقاب وهو معتقد أن حادثة تصفيه زميله في المعتقل التي لا تفارق ذاكرته لن تتكرر في سجنه الثاني، إلى أن أقدم أحد عناصر النصرة على تصفية شاب يدعى “أسامة الخضر”، الذي كان قد انشق عن جيش الحكومة السورية، وانضم إلى صفوف الفرقة مئة وواحد المعارضة، أمام عينيه، ولأسباب لم يعرفها.

غالباً ما يبدأ التحقيق الساعة 12 ليلاً ويستمر حتى الساعة الرابعة فجراً من كل يوم، باستثناء يوم الجمعة المخصص لعطلة المحققين، يحضر خلالها الضرب والشبح والدولاب وبساط الريح، التي تعتبر أشياء أساسية في العُقاب، ولا تغيب آثار مواسير التمديدات الصحية، والعصي الخشبية، وخراطيم المياه عن أجساد المعتقلين دون تمييز، رغم قرارات إدارة السجن الصادرة مطلع عام 2018، والقاضية بحصر الضرب من الركبة للأسفل، بحسب ما تناقله السجناء.

الناشط الإغاثي، حسام محمود، المُهجر قسراً من بلدة مضايا بريف دمشق الغربي، مطلع عام 2017، قضى قرابة ستة أشهر في سجون جبهة النصرة في ريف إدلب، بعد أشهر قليلة على تهجيره، بتهمة التعامل مع منظمات إغاثية “خارجية”.

يقول محمود: “أواخر كانون الثاني، كنت أعمل على إعداد تقرير يخص الدمار الذي حلَّ بالبنى التحتية في مدينة إدلب، من مدارس وحدائق وغيرها، لصالح منظمة إغاثية “محلية”، بهدف إطلاق مشروع إغاثي لإعادة ترميمها. ما إن مضت دقائق على بدء التصوير، حتى اقتحم عناصر جبهة النصرة مكان تواجدي مع أصدقائي، وقاموا باعتقالنا ونقلنا إلى سجونهم، لنواجه التهم الملفقة مسبقاً”.

ويضيف محمود لحكاية ما انحكت: “تعرضت للعديد من وسائل التعذيب، وبشكل شبه يومي طيلة الأشهر التي قضيتها في السجن، وكان أشدها جلسة تحقيق استغرقت قرابة الأربع ساعات، تعرضت خلالها للضرب بمواسير التمديدات الصحية، والجلد بالأكبال الكهربائية، لكنها لم تكن كغيرها من جلسات التحقيق، فكان الضرب حينها متركز على رأسي وأكتافي، وكل ذلك مقابل شهادة أدليها ضد أحد أصدقائي في السجن بأنه “زنى” مع إحدى الفتيات”.

“لم أعتاد الضعف يومياً، وكنت ساعياً دوماً لمساعدة من يناجيني بكل ما أستطيع، لكني عجزت عن ذلك حين تعرضت لـ “الشبح” بالقرب من صديقي، لأستمع إلى صوت صراخه أثناء تعذيبه لمدة قاربت ثلاث ساعات، وللحظات عدة، فكرت بالاعتراف بكل ما هو منسوب إلي، علّها تكون وسيلة الخلاص”، يذكر محمود أحد المواقف التي اعتبرها الأقسى خلال سجنه.

الناشط الإغاثي لا يزال يعاني من آثار التعذيب الذي تعرض له آنذاك، رغم مرور قرابة العامين على خروجه من السجن، ويخضع لجلسات علاج فيزيائي ليعالج مما سببه عناصر النصرة من آلام في رقبته حتى اليوم.

قضى عادل (31 عاماً، مستعار) عامين كاملين في زنزانة منفردة بتهمة العمالة والتخابر، وتعرض خلالها للعديد من وسائل التعذيب المألوفة للمساجين لدى جبهة النصرة، وفي معتقلات الحكومة السورية، لكن السجانين رفضوا إلا أن يضعوا بصمتهم الإجرامية فيها، وبات ابتكار وسائل التعذيب الجديد هواية لديهم، ولا سيما مع المساجين الذين قضوا فترة طويلة في زنازينهم.

“في الأشهر الأولى كان الضرب بالأكبال الكهربائية والعصي الخشبية مؤلم جداً، وكنت أعتقده أشد أساليب التعذيب التي يمكن أن أتعرض لها في تلك المغارة، لكن الأمر لم يكن كذلك، فتبين بعدها أنها الأساليب الأبسط في سجون جبهة النصرة”، يقول عادل لحكاية ما انحكت.

ويتابع: “بعد خمسة أشهر على اعتقالي، باتت وسائل التعذيب الجديدة تظهر شيئاً فشيئا، كان أولها التعليق على “البلنك” الذي يُستخدم في ورشات الحدادة والسيارات والأبنية قيد الإنشاء، والمخصص لرفع الأوزان الثقيلة، حيث كنت أُعلق عليه رأساً على عقب طيلة ساعات الليل، غالباً ما تكون في الليلة السابقة لجلسة التحقيق”.

ويضيف عادل: “في السنة الأخيرة كانت وسيلة التعذيب الأسهل بالنسبة لهم، والأكثر شدة وضرراً بالنسبة لي ومن معي، مقتصرةً على وضع كميات من الملح في أفواهنا، ويبقوا عليها قرابة العشر دقائق، ثم يمنعوا عنا الماء والطعام لمدة يوم كامل، ما يصيبنا بالجفاف الكامل، حتى تكاد حناجرنا تتحطم من شدة الملوحة والعطش”.

وبحسب عادل، فإن كميات الملح الكبيرة التي كانت توضع في فمه لأوقات طويلة، خلقت لديه مشكلات صحية كثيرة في الفم والبلعوم، كالتهتك الجزئي للحنجرة، وضعف في عضلة اللسان، وهي التي بدأ جلسات طبية لعلاجها خلال الأشهر الأربعة الماضية، وما زالت مستمرة حتى اليوم.

وسيلة التعذيب الأخطر والأشد

يبقى النعش الحديدي “التابوت” وسيلة التعذيب الأخطر والأشد في العُقاب، وهو عبارة عن صفائح معدنية مجموعة بشكل يشبه النعش، مزود بمقود أشبه بمقود السفينة لتقريب الصفائح من بعضها البعض، يوضع بداخلها السجين وتُشد الصفائح على صدره بالتدريج، ويُستخدم كوسيلة لتعذيب المعتقلين أثناء التحقيق بهدف إجبارهم على الاعتراف، إضافة لوضع المخالفين من السجناء بداخله، ولا سيما أولئك الذين يتحدثون فيما بينهم داخل الزنازين المنفردة.

كان لسعيد (29 عاماً، مستعار)، وهو أحد عناصر فصيل “جبهة ثوار سوريا” المعارض سابقاً في ريف إدلب الجنوبي، النصيب الأكبر من التعذيب داخل “تابوت” جبهة النصرة في العُقاب، ولا جرم ارتكبه سوى انضمامه لفصيل عسكري معارض، يخالف في مبادئه مشروع النصرة في سوريا.

يقول سعيد: “قضيت سبعة عشر يوماً متواصلاً داخل ذاك النعش الحديدي، وكانت المرة الثالثة التي يضعوني به خلال عام ونصف قضيتها في سجن العقاب، بدأت ربيع عام 2015، لكنها لم تكن سابقة لتحقيق ما كسابقتيها، بل جاءت بعد ادعاء أحد السجانين من عناصر جبهة النصرة، بأني أخطط للهروب من المغارة، وأحرض المساجين في الزنزانة الجماعية التي وُضعت فيها على إثارة الشغب والهرب معي”.

ويتابع سعيد: “لا شعور كان ينتابني في الأيام التي قضيتها داخل التابوت من شدة الضغط على صدري بالصفائح المعدنية، ولا أصوات أسمعها سوى ضحك السجانين أثناء قيادة مقود التابوت وضغط صفائحه صباح كل يوم، وكانت الأقاويل التي سمعتها عن عتمة القبر وضغطته هي الوحيدة التي تُسيطر على عقلي، وكأني كنت أعيشها كما كانت تروى، ولا فارق بينهما إلا أنني ما زلت حياً”.

ليست وحدها وسائل التعذيب والليالي الباردة التي قضاها السليم في سجن العُقاب مستحيلة النسيان، فكذلك القاضي الشرعي “أبو عبد الله طعوم”مرجع شرعي ينحدر من قرية طعوم التابعة لناحية بنش شرقي إدلب، تم تعيينه قاضياً شرعياً لقطاع حماة عام 2014، وكان له الدور الأبرز في رفض الامتثال للمحاكم خلال الاقتتالات التي دارت بين جبهة النصرة والفصائل المعارضة المسلحة) والمدعي العام “عبد الله الحمود”مرجع شرعي في جبهة النصرة، ينحدر من قرى جبل الزاوية بريف إدلب الجنوبيلسجانين المسؤولين عن التعذيب: “يعقوب وخطاب وأكرم وسيفو وأبو علي.. أسماء ووجوه لا تنسى” يقول ياسر السليم لحكاية ما انحكت.

جلسات التنفس مشروطة

جدران عالية مبنية على شكل غرفة لا تتجاوز مساحتها الثلاثين متراً، مسقوفة بقضبان حديدية متباعدة بعض الشيء، مقامة في إحدى أركان مغارة السجن، تتخذ منها إدارته فسحة للتهوية، أو “تشميسة” كما تطلق عليها.

التشميسة هي المكان المخصص لتنفس السجناء في العقاب، لكن دخولها مقترن ببرنامج ثابت داخل السجن، يتعلق بقضية السجين ومكان زنزانته، وفي جميع الأحوال لا أحد هناك ينال نصيبه منها كما هو مقرر.

تُخصص إدارة السجن يوماً واحداً أسبوعياً لإخراج المعتقلين من الزنازين الجماعية إلى فسحة التهوية، ونصف يوم للمعتقلين في الزنازين الرباعية. أما أصحاب الزنزانة المنفردة فيخصص لهم نصف يوم مرة كل شهر بحسب البرنامج. لكن في الواقع لا يحصل المعتقلون على أكثر من نصف ساعة كل خمسين يوماً أو أكثر.

يقول أبو حسان (47 عاماً، مستعار): “يُطلق عليها “التشميسة” بالاسم فقط، فعلى الرغم من الفتحة أعلاها، إلا أن دورها لا يتجاوز التهوية، إلا في الحالات النادرة، ربما لدقائق أسبوعياً قد تسلط عليها الشمس أشعتها، ولا تختلف عن الزنازين في إدارتها كثيراً، فهناك أيضاً يُمنع الحديث مع أحد من المساجين، ويخيم الخوف على الجميع من المصير المحتوم الذي سيتعرض له حال مخالفته القرارات، ولو كان برد السلام فقط على زميله”.

ويضيف أبو حسان لحكاية ما انحكت: “كنا نعلم تماماً الغاية من الدروس الشرعية التي نتلقاها في تلك الفسحة من شرعيي السجن، ونلاحظ تحريف العقول وبث التفرقة والفكر المتطرف الذي يتبناه ذلك التنظيم، لكنها كانت الفرصة الوحيدة لتنفس الهواء النقي، بعيداً عن رائحة الرطوبة في المغارة، وصوت المحركات التي تضخ الهواء إلينا، فكان الهواء الذي نتنفسه أثناء الدرس الشرعي الذي يستمر قرابة الساعتين، وبشكل غير منتظم، الوقت الوحيد الذي يذكرنا أننا ما زلنا على قيد الحياة”.

تحتوي فسحة التهوية على غسالتين لغسيل وتنشيف الملابس، وحبال في وسطها لتجفيف الألبسة وتهويتها، كما أنها المكان المخصص لحلاقة الشعر لمن أراد من المعتقلين.

مسألة التنفس تتعلق بشكل رئيسي بمزاج أمير السجن، باستثناء أوقات زيارة “شرعي” الجماعة، الذي يقوم بدوره بزيارة السجن لتنظيم درس ديني للمعتقلين بين الحين والآخر، يستمر قرابة الساعتين في معظم الأوقات، لكنه بحسب السجناء، هو الفرصة الأفضل لتعريض أجسادهم للشمس والهواء.

“زنزانة النصيرية” كما أطلقوا عليها!

مائة وست وعشرون ليلة قضاها السليم في زنزانة منفردة، وسبعة عشر أخرى في الزنزانة الرباعية، قبل نقله إلى الزنزانة “80” أو ما يطلق عليها “زنزانة النصيرية”.

“تضم الزنزانة قرابة الأربعين سجيناً، معظمهم ضباط في جيش الحكومة السورية من أبناء الطائفة العلوية، برفقة جنرال إيراني برتبة عقيد” يقول الناشط ياسر السليم.

اجتمع الناشط في تلك الزنزانة بالعديد من أسرى قوات الحكومة السورية لدى هيئة تحرير الشام، بينهم العقيد الطيار “علي محمد عبود”ينحدر من مدينة الدريكيش التابعة لمحافظة طرطوس، أُسقطت طائرته في جبل الزاوية بريف إدلب في 22 مارس/ آذار 2015)، والذي ألقي القبض عليه بعد إسقاط طائرته الحوامة في جبل الزاوية مع طيار آخر يدعى “أبو سليم”، وعقيد مهندس أسر في مطار أبو الضهور العسكري بريف إدلب يلقب “أبو عاصم” ونقيب أسر في كلية التسليح بحلب يدعى “سعيد”.

أما عن بقية السجناء في “زنزانة النصيرية”، فهم من العناصر المجندين في جيش النظام وميليشيا الدفاع الوطني الرديفة لها، ولم يتجاوز عدد المدنيين فيها السبعة.

شارك مئات السوريين في حملات تضامنية ووقفات احتجاجية تنديداً باعتقال السليم، وتمكنوا بمساهمة الضغط الداخلي على هيئة تحرير الشام من إطلاق سراحه في الأول من مارس/ آذار 2019، لكنه لم ينل حريته رغم خروجه من تلك المغارة، فلا مكان آمن له في تلك المنطقة، ولم يجد أمامه سوى الهجرة مع عائلته إلى فرنسا، تاركاً أرضاً لطالما حلم أن يعيش فيها بحريته.

أطفال وضباط ودواعش في زنزانة واحدة

نُقل عنصر الدفاع المدني “حمزة” إلى زنزانة جماعية بعد عشرة أيام قضاها بمفرده في إحدى الزنازين المنفردة، ليجد نفسه بين أشخاص، لولا أن بينهم أسرى من ضباط جيش النظام السوري، لكان أكبرهم.

يقول حمزة: “عندما قرر المحقق نقلي إلى زنزانة جماعية، شعرت بأنني اقتربت من الخروج من تلك المغارة، ولو لم يكن كذلك، فكان جلوسي مع معتقلين آخرين أفضل إلي من قضاء ليالي السجن بمفردي، لكن رؤية الأطفال المستندين إلى جدران الزنزانة غيرت تلك الفكرة على الفور”.

ويتابع حمزة: “وجدت أربعة أطفال لم يبلغ أكبرهم الرابعة عشرة من عمره بعد، جالسين إلى جوار ثلاثة شبان كانت ملامح الخوف واضحة على وجوههم أكثر من الآخرين، وكأنهم ينتظرون مصيرهم، وفي الجهة المقابلة ثلاثة رجال تجاوزوا الأربعين عاماً”.

ويضيف حمزة: “رغم توجيهات السجان بعدم الحديث مع أي من المعتقلين، والتهديد بـ “التابوت”، إلا أنني لم أتمكن من الجلوس صامتاً دون معرفة الأشخاص النائمين إلى جواري، وهو ما امتنعوا عن الإفصاح به، إلى أن التقيت أحد عناصر الحكومة السورية الأسرى برتبة مساعد أول، وشرح لي خلفيات أولئك المعتقلين، فتبين أن الشبان الثلاثة كانوا من عناصر فصيل “جند الأقصى” المبايع لتنظيم داعش، وأبو سعيد ورفيقيه الأكبر سناً ضباط في صفوف الحكومة السورية”.

“اقتادوهم هكذا” هو جواب المساعد “أبو سعيد” على سؤالي عن هوية الأطفال وأسباب اعتقالهم، في إشارة منه إلى أنهم معتقلين دون تهمة موجهة، لكن صباح اليوم التالي استطعت التحدث إلى “عبد الرحمن” ابن الثانية عشر عاماً، والمنحدر من قرى ريف إدلب الجنوبي، والذي أوضح أنه اعتقل بتهمة “فعل فاحش” مشيراً إلى أن المحقق وجه له تهمة التحرش بسيدة من زبائن محل الخضار الذي يعمل به برفقة والده، أما البقية فتوجهت لهم تهم السرقة والتلفظ بالكفر” يقول حمزة.

هل استفزاز “المجاهدين” تهمة؟

رصاصتان خرقتا صدره وقدمه، خلال المعارك التي دارت في محافظة إدلب عام 2016، لم تردع عناصر جبهة النصرة عن اعتقال ابن ريف إدلب، صاحب الثلاثين عاماً، المقاتل في صفوف فصائل المعارضة المسلحة، واقتياده إلى سجن العقاب بتهمة “الاستهزاء بالدين واستفزاز المجاهدين في أرض الشام”.

سامر (مستعار) المقاتل في صفوف فصائل المعارضة السورية، والمنشق عن جيش الحكومة السورية بعد أقل من عام على خروج المظاهرة الأولى في سوريا برتبة مساعد، لم تشفع له إصابته خلال المعارك الدائرة شمالي سوريا في العام السادس للثورة السورية، ولم تحمه شعبيته بين الأهالي من بطش النصرة وقبضة سجانيها.

مطلع شهر مايو/ أيار 2016، وعلى طريقة أجهزة الاستخبارات التابعة للحكومة السورية، حاصرت مجموعة تابعة لهيئة تحرير الشام، تستقل سيارتين مزودتين برشاشات ثقيلة، منزل “سامر” في قريته الواقعة بريف إدلب الجنوبي، وقامت باعتقاله ونقله إلى أحد أقسام سجن العُقاب.

اعتقال “سامر” جاء على خلفية مشادة كلامية دارت بينه وبين عناصر النصرة، حول اتفاق المدن الأربع الذي طبقت تحرير الشام مرحلته الأولى قبل اعتقاله بيومين.

التعذيب مهمة موكلة للأطفال

ثلاثون درجة تحت الأرض، اجتازها سامر ليجد نفسه في ساحة التعذيب بالقسم المخصص لمعتقلي فصائل المعارضة السورية، بين أيدي مجموعة من اليافعين والأطفال لا يتجاوز أكبرهم السبعة عشر عاماً، أوكلت إليهم مهمة تعذيبه طيلة ساعات الليل ولمدة أسبوع كامل، بقيادة عقيد سابق في الأمن السياسي الذي انشق عنه أواخر عام 2014.

“كنت مقيداً على أحد الأعمدة الحديدية وسط ساحة التعذيب، بعد جولة في الدولاب استمرت طوال نصف الليل وأكثر، جلس بالجهة المقابلة طفل كان أصغر رفاقه، يحكي الكثير من الألفاظ النابية والشتائم وهو يشرب كوبه الأخير من المتة، وما أن فرغ منه حتى رمى بقاياه وما تبقى من الماء الساخن على جسدي، كانت من أصعب اللحظات في تلك المغارة، رغم ليالي التعذيب الطويلة التي شهدتها” يقول سامر.

ويضيف سامر: “بعد أسبوع من التعذيب، تلقيت نصيحة من أحد أبناء بلدة مجاورة لبلدتي كان قد انضم لصفوف هيئة تحرير الشام، بالاعتراف والبصم على تهمة “الانتماء لتنظيم داعش” الموجهة لي حينها، وإنكارها أثناء جلسة القاضي الشرعي وإظهار آثار التعذيب على جسدي أمامه، هذا السبيل الوحيد للخلاص من الـ “كرباج” المعدني”.

تبرأ سامر من تهمة الانتماء لتنظيم داعش بعد أسبوع على اعتقاله، وحكم عليه بالسجن مدة شهرين بتهمة الاستهزاء بالدين، إلا أن أحد قياديي هيئة تحرير الشام في ريف حلب الجنوبي، تدخل لإطلاق سراحه في اليوم السادس عشر، ولا سيما أن قوات الحكومة السورية كانت تشن عملاً عسكرياً على المنطقة، والمنطقة بأمس الحاجة للمقاتلين.

الطعام بحسب القضية

يبدو أن أنواع الطعام المقدمة لسجناء العقاب وكمياته، تختلف بين قسم وآخر، ففي القسم المخصص لعناصر فصائل المعارضة السورية، حيث أقام سامر، لا تزيد الوجبة الصباحية عن رغيف خبز وبضعة حبات من الزيتون المر وقليل من اللبن الفاسد في معظم الأحيان، أما في الوجبة المسائية، فيعتبر الأرز أحد الأطباق اليومية طيلة فترة السجن، باستثناء أوقات حضور البرغل أو الشوربة.

لم يكن الأمر كذلك في القسم المخصص لأصحاب القضايا الأمنية والشخصيات البارزة الذي أقام فيه الناشط ياسر السليم، حيث روى لحكاية ما انحكت أن نوعية الطعام كانت جيدة لحد كبير، حيث كانت تعتمد إدارة السجن في إطعام المعتقلين في ذلك القسم على أحد المطاعم المجاورة المتعاقدة معهم، لكنها تخلّت عن ذلك مطلع عام 2019، وبات طباخ السجن هو المسؤول عن إعداد وجباتهم.

ويضيف السليم أن حصة السجين من الطعام كانت تتراوح بين ثلاثة وخمسة أرغفة من الخبز يومياً، إلى جانب كميات وافرة من الأطعمة المخصصة لوجبات الفطور.

حمام واحد أسبوعياً، وجولتان لـ “أبو حمزة الطبي” أحد ممرضي المكتب الطبي لهيئة تحرير الشام أسبوعياً على السجناء لمتابعة الحالات المرضية بينهم، هو ما يحظى به السجناء في العقاب، في حين تبقى مواد التنظيف الشخصية رهن الطلب.

الرشاوى حاضرة في العُقاب

لطالما ارتبط اسم “أبو صهيب حلفايا” بالفساد والرشوةعامر الأسود، وهو من بلدة حلفايا بريف حماة، يتولى منصب بمثابة أمير “دور القضاء”، وتربطه صلة قرابة بأمير قاطع حماة في جبهة النصرة، وهو مدير مخفر خان شيخون والمسؤول المباشر عن مخافر القوى الأمنية في هيئة تحرير الشام)، ولا سيما لدى السجناء وذويهم، فلكل قضية لدى أبو صهيب مخرج، ولكل مخرج ثمن، وبالدولار الأمريكي.

يقول القيادي السابق وأحد مؤسسي جبهة النصرة “صالح الحموي” المعروف باسم “أس الصراع في الشام” أن أمنيي تحرير الشام وعلى رأسهم مسؤول المخافر الأمنية “أبو صهيب” مبالغ مالية يتقاضونها كرشاوى من ذوي المعتقلين لتسهيل أمورهم أو إخراجهم من قضاياهم، فتسعيرة الاتصال الهاتفي مع المعتقل تتراوح بين خمسين ومئة دولار أمريكي، وتسعيرة إدخال الثياب إلى السجن بلغت المئة دولار أمريكي، فيما يضطر ذوو المعتقلين لدفع مبالغ تتراوح بين ألفي إلى عشرة آلاف دولار أمريكي لقاء تغيير ضبط التحقيق المنظم.

ويؤكد “أس الصراع” أن أمنيي هيئة تحرير الشام أطلقوا سراح أحد عناصر تنظيم داعش العام الفائت، بعد أشهر على اعتقاله، كان متورطاً بقتل ثلاثة من عناصر جبهة النصرة ذبحاً عام 2014 في ريف حماة، مقابل مبلغ مالي قدر بثلاثين ألف دولار أمريكي.

ابتزاز وتحرش جنسي بعائلات المعتقلين!

أكَّد القيادي السابق “صالح الحموي” أنه وقف وبشكل شخصي، على العديد من حالات الابتزاز والتحرش بالنساء القريبات للسجناء في سجن العقاب خلال الفترة السابقة، ولا سيما في قضيتي تحرش تتعلقان بسيدة منحدرة من قرية كفرنبودة، وأخرى من أهالي قلعة المضيق في ريف حماة.

وأشار الحموي إلى أن عناصر هيئة تحرير الشام يعمدون إلى مصادرة الأجهزة الخليوية ومقتنيات السجناء فور وصولهم العُقاب، ويبحثون في جهات اتصاله على أرقام هواتف زوجاتهم وقريباتهم، ليقوموا بعدها بالتحدث إليهن من أرقام تعود لمعتقلين آخرين.

وبحسب الحموي، فإن أولئك العناصر يتواصلون مع نساء المعتقلين، ويفاوضونهن على صورهن الشخصية بوضعيات مخلة وألبسة داخلية، مقابل تأمين اتصال أو زيارة لأزواجهن.

أرجع القيادي السابق أسباب التحرش والرشاوى والسرقة بين صفوف هيئة تحرير الشام، إلى أن الأخيرة أخذت تهتم بكثرة عدد العناصر دون النظر في خلفياتهم وأخلاقهم، وبدأت بضم عدد كبير من العناصر “المرتزقة” بحسب وصفه.

سجون رديفة، وشتم “الجولاني” تهمة!

بعملية أشبه بالمطاردات الهوليودية، توقفت سيارة تابعة لهيئة تحرير الشام فجأة أمام دراجة “أبو علي” عند مدخل ساحة هنانو وسط مدينة إدلب، أثناء توجهه إلى عمله فترة الظهيرة، وما أن اصطدم بها ووقع أرضاً، إلا وكان أربعة عناصر يغطون عينيه بقطعة قماشية، ويضعونه في صندوق سيارتهم، وسط اعتداء علني بالضرب والشتائم.

نُقل أبو علي (27 عاماً، اسم مستعار) إلى مقر الأمن الجنائي وسط المدينة، ليتلقى لكمات وشتائم لا يعرف مصدرها على طول الممر المؤدي لزنزانته التي بات فيها ليلة واحدة قبل عرضه على القاضي، دون معرفة أدنى فكرة عن تهمته.

يقول أبو علي: “وجهت المحكمة أولى اتهاماتها لي، باعتراض طريق دورية أثناء ملاحقة مطلوبين، وعند إدلاء ما حصل على مسامع القاضي، وعرض آثار الضرب وثيابي الممزقة أمامه، كان رده الحرفي: “اخرس، هذا ليس دليلاً على أنهم قاموا بضربك”، ونقلت بموجب هذه التهمة إلى سجن إدلب المركزي، ومنه إلى سجن آخر قرب مدينة دارة عزة بريف حلب الغربي، قبل إطلاق سراحي في اليوم الرابع عشر”.

سجن إدلب المركزي، هو سجن واقع على الأطراف الشمالية للمدينة، كان يتبع للحكومة السورية قبل سيطرة فصائل المعارضة السورية عليه أواخر يناير/ كانون الثاني 2013، وتولى فصيل “جيش الفتح” إدارته بعد تحويله لسجن خاص بالقضايا الجنائية والمدنية، ومن ثم اقتحمته “جبهة النصرة” نهاية عام 2017، وتمكنت من السيطرة عليه، وتحويله لمركز احتجاز تابع لها، تولت إدارته حينها حكومة الإنقاذ، التي أعلنت بدورها في الرابع من ديسمبر/ كانون الأول 2019، خروجه عن الخدمة وإخلائه بشكل نهائي، ليتحول مطلع فبراير/ شباط من العام الجاري، إلى مركز إيواء يضم مائة عائلة نازحة، في ظل الهجمة العسكرية التي تشهدها المحافظة.

تفاجأ أبو علي بتهمة “شتم أمير التنظيم” التي نسبتها هيئة تحرير الشام إليه، بموجب مصدقة خروجه من سجونها، التي حصل عليها بعد يوم واحد على إطلاق سراحه.

أرقام وإحصائيات

أصدرت الشبكة السورية لحقوق الإنسان، في الثالث والعشرين من أغسطس/ آب 2019، تقريراً وثقت فيه اعتقال تنظيم جبهة النصرة ألفين وستة أشخاص منذ مطلع عام 2012، حتى تاريخ التقرير، بينهم ثلاثة وعشرين طفلاً، وتسع وخمسين سيدة ما يزالون قيد الاعتقال، مؤكدةً أن ألف وتسعمائة وستة وأربعين شخصاً منهم تحولوا إلى مختفين قسرياً.

ووثق التقرير ذاته، مقتل ما لا يقل عن أربعة وعشرين شخصاً جراء التعذيب، بينهم طفل واحد، إلى جانب ثماني ثلاثين شخصاً تم إعدامهم ميدانياً في سجون هيئة تحرير الشام، ولم تسلم جثامينهم لذويهم.

وأكَّدت الشبكة أن تقريرها يلتزم بمعايير دقيقة لتحديد حادثة الاعتقال التعسفي والاختفاء القسري، ويستند في ذلك إلى أحكام القوانين الدولية ومجموعة المبادئ المتعلقة بالاعتقال التعسفي والاختفاء القسري، مشيرةً إلى أن توثيق حالات الاعتقال يتم بالاعتماد على مصادر متعددة وبتتبع حالات الاعتقال وتحديثها بشكل مستمر لمعرفة مصير المعتقل ومكان احتجازه وظروف اعتقاله.

إدارة سجن العقاب أحالت حمزة إلى دار القضاء في قرية مرعيان في جبل الزاوية، بعد ثلاثة أشهر على اعتقاله، والتي قضى فيها خمسة أيام، تولى أحد العاملين في قسم “المتابعة” مهمة إنهاء ملف حمزة وإطلاق سراحه، في دور أشبه بعمل محامي النيابة العامة في محاكم الحكومة السورية، وذلك بعد الوصول إليه عبر وساطات من عائلته ووجهاء بلدته، توصلوا خلالها إلى أحد قياديي جبهة النصرة، الذي كلَّف بدوره “المتابعة” بإنهاء ملفه.

“ربما تختفي آثار التعذيب عن جسدي بعد أعوام، لكنها لن تختفي من ذاكرتي، ما زال كابوس السجن يلازمني حتى اليوم، وأصوات الصراخ لا تفارق مسامعي، كما صوت ذاك القاضي الذي وجه الشتائم لوالدتي الغارقة بدموعها متوسلة إليه لإطلاق سراحي”. يختم حمزة كلامه لنا.

(هذا التحقيق من تحرير حسن عارفة وإشراف محمد ديبو)

كاتب وصحفي سوري مقيم في اسطنبول

(ينشر هذا التحقيق ضمن مشروع “سوريا في العمق” بالتعاون والشراكة مع المنظمة الدولية لدعم الأعلام (IMS) ومؤسسة الغارديان فاونديشن وموقع حكاية ما انحكت)

حكاية ما انحكت

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى