مراجعات كتب

“سر بعثة الكاردينال” لرفيق شامي.. الثورات لا تُهزم

مروان علي

كل رواية جديدة للكاتب السوري العالمي، رفيق شامي، هي بمثابة حدث ثقافي في ألمانيا وأوروبا، بسبب خصوصية تجربته وتفردها وحضورها البارز في المشهد الروائي العالمي.

في أحدث رواياته، يعالج رفيق شامي، كما في رواياته السابقة، موضوعات هامة في مجتمع يقف على أعتاب ثورة. في “سر بعثة الكاردينال” تدور أحداث الرواية في دمشق نهاية عام 2010 وبداية 2011. مفوض الشرطة الجنائية بارودي، رجل في أواسط الستينيات، مرهق بعد أربعين سنة من العمل الدؤوب في مكافحة الجريمة، في بلد لا يسمح له فيه أن يسأل كل من يلزم التحقيق معه. وُكِّلَ بارودي بالتحقيق في جريمة بشعة بعد تلقي السفارة الإيطالية برميلًا كبيرًا قيل إنه مليء بزيت الزيتون، وعندما فتحه الطباخ وجد فيه جثة كاردينال كان قد وصل إلى دمشق قبل أسابيع. لماذا أرسل البرميل الى سفارة إيطاليا، وليس كما وجب إلى سفارة الفاتيكان؟ ما معنى الحجر الأسود الذي وضعه القتلة مكان قلبه الذي انتزعوه، وقاموا بخياطة الجرح بعناية فائقة، كما فعلوا بعينيه، بعد أن أغلقوا جفونه على قطعة نقد ذهبية… ولماذا نُزِع خاتم الكاردينال من إصبع يده اليمنى، هذا الخاتم الذي يمنحه البابا عندما يبارك تسمية الكاردينال الجديد. كل هذا دل بارودي على أن هناك رسائل وراء هذه الإشارات في جثة القتيل. وكي لا يشكك الإيطاليون بجدية التحقيق، اقترح بارودي على رئيسه دعوة ضابط خبير في التحقيق الجنائي ليرافقه في الكشف عن المجرمين، وهكذا تم. سُرَّ بارودي جدًا لكون المفوض الإيطالي، ماركو مانشيني، ذا خبرة كبيرة وحنكة في مكافحة المافيا.

الشعوذة

قد يبدو عبر هذه الأسطر أننا في صدد رواية جنائية، لكن الخيط الأحمر لهذه الرواية سيرافقنا عبر أحداثها التي صممها رفيق شامي بدقة وكأنها متاهة تبحث في شيء آخر؛ الشعوذة في مجتمعين. مجتمع مضطهد تعاني جماهيره من الخوف والمرض والفقر، حيث يتكاثر الاعتقاد بخرافات حديثة خبيثة، مثل أن يدعي رجل أنه يتحدث مع مريم العذراء، أو السيد المسيح، ولكي يثبت ذلك يكشف عن كفيه المثقوبين، كثقوب يد المسيح على الصليب، أو أن تدعي امرأة بمرافقة كهنة مرائين أن صور العذراء عندها تقطر زيت زيتون، وأن العذراء توصيها أن يتبع المسيحيون حكامهم. ورغم الأدلة الواضحة أن كل الذين صلبوا، سواء في العهد الإغريقي، الروماني، العربي، الفارسي، أو الهندي، إنما صلبوا بمسامير لم تدق في راحة أكفهم، لأن اليد سرعان ما تتمزق تحت ضغط وزن المصلوب، وإنما كان المصلوبون يثبتون إما بالحبال، أو بمسامير تدق في رسغ أيديهم، لكن الرسامين الكنسيين وجدوا لأسباب جمالية فقط أنه من الأفضل أن تكون يدا المسيح مفتوحتين للسماء والبشرية. وهكذا، فإن هولاء المشعوذين يضحكون على الناس، وفي الوقت نفسه يهينون السيد المسيح. فلماذا يصاب من يحبه، ويتصل معه، بثقوب في يديه ورجليه؟ هل يعي هؤلاء الكهنة الذين يرافقون المشعوذين أنهم يهينون بذلك السيد المسيح؟ هل يفقهون أنهم بمساندتهم لهؤلاء المشعوذين يخترعون مسيحًا ساديًا؟ ألم يكن من الأسهل والأجمل على السيد المسيح أن يحيط رأس من يتصل معه بهالة من نور؟

كذلك ينعم المشعوذون في المجتمع الأوروبي المشبع، والمتخم أحيانًا، برخاء ووفرة كل متطلباته بشكل لم يسبق له مثيل، حيث يشعر كثيرون بأنهم يملكون كل شيء، لأنهم يخلطون بين إشباع رغبات الجسد الحيوانية، وإشباع النفس والفكر، فتراهم يهاجرون زرافاتٍ ووحدانًا إلى الهند ليركعوا هناك أمام مشعوذ، أو تراهم يتساقطون لاهثين وراء كل موضة وخرافة دينية بشكل هستيري، وتراهم يغلقون على أنفسهم بجدار إلكتروني يجيب على كل أسئلتهم، ولا يدركون مدى عزلتهم التي تتسبب بضعف نفسي شديد. في إيطاليا، مثلًا، ينعم القسيس بيو (Padre Pio)، الذي رفع من البابا يوحنا بولس الثاني لمرتبة قديس، وهو اليوم ذو شعبية كبيرة تفوق شعبية مريم العذراء، وحتى شعبية المسيح، رغم أن علماء برهنوا أنه كان يجرح كفي يديه عمدًا، ويعالجهما بمواد كيميائية ليظل الجرح مفتوحًا.

وهذا، كما يكتب شامي، أفضل عقاب للكنيسة الكاثوليكية التي ملأت السماء بالأوروبيين، حتى أنه في قصة قديمة له يترك جارًا مؤمنًا يجبر نفسه على الزنى فقط لكي لا يصعد إلى السماء، ويعاني من جيرة الأوروبيين الذين ناضل ضدهم في سورية أثناء الاحتلال الفرنسي. يسرد أحد أبطال الرواية الجديدة أنه حلل سيرة 250 قديسًا في كتاب خاص عن حياتهم، فوجد 20% منهم أناسًا طيبين بسطاء ومؤمنين يستحقون الاحترام، وليس القداسة، و30% منهم من المرضى النفسيين، يتكلمون مع الجدران والحيوان، ويلزمهم مستشفى للأمراض النفسية، و30% منهم محتالون أرادوا فقط الشهرة، و20% منهم مجرمون قتلوا كملوك في الحروب الصليبية، أو الأوروبية (إلى جانب دولة الفاتيكان)، مئات الألوف من الأبرياء، ومنهم الكاهن برنار دو كليرفو (Bernard de Clairvaux)، الذي لا يختلف عن غوبلز المحرض النازي.

رواية حب

لكن الرواية لا تعالج فقط بشكل شيق دور الخرافة والشعوذة في المجتمع الحديث، فهي من جهة أخرى رواية حب، كما في أغلب روايات رفيق شامي. بارودي، الذي عشق زوجته بكل جوارحه، وأصيب بنكسة هائلة لموتها المفاجئ وهي لما تتجاوز الخامسة والثلاثين سنة، اختار العزلة، وظل لمدة 15 سنة يصلي لهذه القديسة التي بنى لها معبدًا في قلبه، جدرانه أصلب من الإسمنت، وأحجاره من لحظات السعادة التي أمضاها معها. غادر بعد موتها الطابق الجميل في باب توما، وانتقل إلى مبنى مهترئ قرب ساحة باب المصلى لا يبعد سوى مئات الخطوات من مكتبه… حيث استأجر هناك طابقًا صغيرًا جدرانه لا تحبس سوى الرائحة، وتتكرم بكل صوت وضجيج. ظل على هذه الحال حتى أحبته جارة ذكية له أيقنت أن المعبد لا يمكن اقتحامه بشكل مباشر، بل عليها فتح ثغرة فيه، والنفوذ عبر هذه الثغرة إلى قلبه. وهكذا كان في نهاية الرواية، التي انتهت بهزيمة شنيعة لبارودي، حيث أطلق سراح القتلة، وانتحر الشهود. هكذا هو الواقع في بلاد بني يعرب.

وهناك مقال لرفيق شامي عنوانه ملاحظات على ضعف الرواية البوليسية العربية، نشره في صفحته التي خصصها لسلسلة السنونو، التي يصدرها دعمًا لكل الكتاب الذين يكتبون بالعربية: http://swalloweditions.net/?p=113&lang=ar وفيه جملة رهيبة تلخص كل مأساة الكتابة: السؤال هو ابن الحرية.

الشيء الجديد في هذه الرواية هو بنيتها الفنية، فأحداث الرواية تدور خلال ثلاثة أشهر من تشرين الثاني/ نوفمبر 2010، إلى بداية شباط/ فبراير 2011، لكن من يقرأ الرواية يدخل إلى عمق المجتمع السوري، وخاصة الدمشقي، عبر يوميات المفتش بارودي التي يكتبها لأنه لا يتجرأ على الحديث بصراحة مع أي زميل، أو جار. في هذه اليوميات خلفية توضح لماذا ستقوم ثورات الكرامة في كل البلدان العربية، حتى ولو هزمت مئة مرة.

رفيق شامي: ولد في عام 1946 في دمشق. أسس عام 1965 المجلة الحائطية “المنطلق” في حيه، واستمرت في الصدور حتى عام 1970. هاجر إلى ألمانيا عام 1971، وعمل في ورشات ومصانع إلى جانب دراسته من 1971 – 1979، حيث نال درجة الدكتوراة في الكيمياء العضوية المعدنية. عمل في شركة أدوية كبيرة من عام 1980 وحتى 1982، حيث قدم استقالته ليتفرغ للأدب.

نشر أعمالًا متفرقة من 1971 حتى 1977. أسس عام 1980، مع كتاب أجانب آخرين، المجموعة الأدبية “الريح الجنوبية”، واتحاد الفنانين الأجانب “بوليكونست”. أصدر مع زملائه في مجموعة “الريح الجنوبية” 13 مجلدًا تحتوي منتخبات من أدب الكاتبات والكتاب الأجانب في ألمانيا من عام 1980 حتى عام 1985. يعمل منذ عام 1982 ككاتب متفرغ. وهو منذ 2002، عضو في أكاديمية الفنون الجميلة البافارية.

ترجمت كتب رفيق شامي من الألمانية إلى اللغات التالية: العربية، الباسكية (إسبانيا)، الصينية، الدانماركية، الفنلنديــة، الإنكليزية، الفرنسية، اليونانيــة، العبرية، الإيطالية، اليابانية، الكاتلانية (إسبانيا)، الكورية، الهولندية، النرويجية، البولونية، السويدية، الإسبانية، التركية، الأوردو (باكستان)، الصربية، السلوفينية، والكرواتية.

عنوان الكتاب: سر بعثة الكاردينال المؤلف: رفيق شامي

ضفة ثالثة

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى