الناس

ثمانية آلاف وردة مع مي/ ميسون شقير

 

 

ربما لم يعرف الوسط الفني العربي، وخصوصا التمثيل المسرحي والتلفزيوني والسينمائي، اسما استطاع أن يكون مزيجا من جودة فنية عالية لا أحد ينكرها، ولشخصية ثورية حقيقية تبنّت موقف المثقف الثوري، وآمنت بالثورة فكرا وثقافة وفنا، ودافعت عن إيمانها بشراسة المثقف الثوري، وبشراسة امرأة قتل الظلم أبناءها، مثلما فعلت الفنانة والإنسانة المثقفة الثائرة مي سكاف. وربما لم تعرف الثورة السورية المغدورة قامة، ووجها، وصوتا، وبحّة، وعيونا، ودموعا، تسند إليهم وجعها، مثلما عرفت شخصية مي سكاف.

لم تكن مي تتكلم عن ثورتنا الذبيحة بكلماتٍ أو خطابات مجعجعة، كانت تعيد في كل لقاء أو حوار معها صوت الضحايا في صوتها، وبحّة المعتقلين الذين بحّت قلوبهم من النداء. كانت تقول رأيها بدموع لم تجفّ، دموع كل أم دفنت قلبها تحت التراب.

مزيج من الألفة والحنان، ومن القوة والشراسة، هي مي سكاف، قامة طاعنة بالعزّة والقهر، طاعنة بالأمل والوجع، بالتحدّي والخذلان، بالحياة والموت.

مي التي ولدت في أحد أحياء دمشق من أصل أرمني، ومن أم تعود لعائلة مسيحية عريقة ومثقفة، وأب ينتمي لعائلة مسلمة متمرّدة على نظام القهر والديكتاتورية، ومي التي كبرت في حضور ابن خالتها، المسرحي الكبير سعدالله ونوس، في حياتها، وحضور ثقافة مسرحه الثوري التي حكمت عليها وعلينا بالأمل، ومي التي درست الأدب الفرنسي، وأتقنته، لتفتح لروحها نافذه أخرى تطل منها على العالم، هي مي التي شكلت نموذجا حقيقيا للعمق المعرفي والحضاري الذي يملكه الإنسان السوري، ولعمق ثقافة التعدّدية التي عاشها هذا الإنسان بوعي فطري وعفوي، والتي حولته إلى نموذج غير متكرّر في العالم الحديث.. كل هذا جعل صوت مي سكاف، حين تتكلم تخرس كل الأصوات التي تقزم الثورة السورية، وتحصرها في خانة البعد الديني الإسلامي المتطرّف، فحين تتكلم مي سكاف على أدونيس أن يسكت.

ومي هي الفنانة التي صعقت موهبة التمثيل لديها كل من رآها، مع أنها لم تدرس التمثيل ولم

تكن يوما أكاديمية، لكنها كنت تمتلك ملامح جامعة بين الجمال الأنيق والقوة المؤثرة القادرة على تقديم نفسها بشكل حقيقي، كفرس تصهل.

ماتت مي غريبةً عن شامها وحاراتها، ماتت مقهورةً ومخذولةً بانفجار شرايين حاد، ولم تحفل ساحات الفضاء الأزرق بصورة امرأة وفنانة عربية كما حفلت بصورتها، ولم يكن ذلك غريبا أو غير متوقع، فلا أحد، حتى من موالين للنظام السوري الفاشي، قادر على عدم احترام مي سكاف، وعلى عدم احترام جرأتها، وصدقها، وصلابتها. ولا أحد من كل أطياف المعارضة يقدر على إهمال شخصية مي، أو على الهروب من وضوحها وعمق ثقتها بعدالة موقفها الأخلاقي. ولكن ما لم يكن متوقعا أن تدفن مع جثة مي في مدينتها الفرنسية القريبة من باريس ثمانية آلاف وردة، تعبيرا عن أرواح ثمانية آلاف شهيد تحت التعذيب في زنازين أسوأ نظام عرفته البشرية، ثمانية آلاف وردة لثمانية آلاف اسم أرسلهم النظام السوري، في أسبوع، إلى مديريات السجل المدني في المحافظات السورية، من دون أن تهتز هذه الأرض العاقر، ثمانية آلاف نيزك تسقط فيها من دون تشييع، من دون جثة، ومن دون أن تنكسر السماء.

مي فقط هي التي دافعت في حياتها عن كل الشهداء، وخصوصا الشهداء تحت التعذيب، تحميهم اليوم جثتها من النسيان، فقد دعا ابنها الوحيد جواد، على صفحته في “فيسبوك”، كل الأحرار في العالم، وكل أصدقاء روح مي سكاف، أن يشاركوا في تشييعها من ساحة المدينة الفرنسية، ثم يمضوا معها في رحلة يجوب فيها عشها شوارع المدينة، ثم يصلوا معها إلى المقبرة، ويقيمون عزاءها الذي يبدأ بكلمة محافظة المدينة الفرنسية، وبعدها يلقي كل شخص وردة في قبر مي، لروح كل شهيد تحت التعذيب، قضى في سجون الأسد، كل وردة تحمل اسما، ثم تشيع إلى قبرها كأنها جثة هذا الاسم التي لم يشيّعها أحد، والتي لا يعرف أحد أين هي، والتي يسكت العالم، كل العالم، بكل منظماته وشعاراته الإنسانية التي يتشدّق بها، عن أكبر هولوكست يعيشه هذا القرن.

مي التي أحيت، بدموعها وبحتها وحرقتها، أسماء الذين رحلوا بلا أسماء، ها هي اليوم تحيي بجتثها جثثهم وتدفنهم معها ليصبح قبر مي سكاف الفرنسي قبرا لثمانية آلاف روح رحلت هناك في بلدها سورية، في ظلام سجون الطاغية، من دون صوت، لثمانية آلاف عصفور طاروا معا، وأغلقوا علينا وجه السماء، ولجثة ماتت صاحبتها من تعاطي جرعةٍ عاليةٍ من القهر، أدت إلى ارتفاع حاد في مستوى اليأس، ما أدى إلى توقف مفاجئ للكون.

كعادتك مي، لن تكوني وحدك، في قبرك الواسع ثمانية آلاف وردة. وكعادتك، عيونك مفتوحة.

العربي الجديد

 

مئات السوريين والفرنسيين شيعوا الفنانة الراحلة مي سكاف

شيع المئات من السوريين الممثلة القديرة مي سكاف إلى مثواها المؤقت في بلدة دوردان الفرنسية الواقعة جنوب غرب باريس، ورغم ألم السوريين  الكبير على فراق مي إلا أن الإجماع الوطني السوري الذي ظهر في تفاعل السوريين مع حدث الوفاة يوضح المكانة الرمزية لشخصها ومواقفها.

انحازت مي منذ البداية  للثورة السورية، حيث وقّعت على “بيان الحليب” بخصوص أطفال درعا وشاركت بمظاهرة المثقفين التي كانت رداً على اتهام النظام و”مثقفيه” للثورة بأنها ثورة “سلفية إرهابية”، فساهمت بتشكيل رأسمال رمزي وطني سيبقى مبدأ لنهوض سوري قادم.

بدأت مراسم التأبين بكلمة ألقتها رئيسة بلدية دوردان قالت فيها “كثيراً ما تحدث لقاءات بالحياة ولكن القليل منها ما يترك أثراً في نفس الإنسان، وهذا ما حدث مع أهالي بلدة دوردان عندما جاءت السيدة مي سكاف للإقامة في البلدة، قد لا نكون عرفناها كفنانة  كما تعرفونها أنتم، ولكن من البداية عرفنا أن مي شخص شجاع وصاحبة إرادة، وسوريا هاجسها الأكبر والعودة إلى وطنها هي أمنيتها الدائمة”.

بعدها تم عرض فلم توثيقي  قصير عن حياة مي ثم نقل نعشها من بيتها إلى مقبرة مدينة دوردان حيث قام المشيعون بوضع ألف وردة بيضاء على ضريحها، وقال الفنان فارس الحلو إن الورود البيضاء هي للمعتقلين والمغيبين قسرياً في معتقلات النظام السوري، ثم  أُلقيت عدة كلمات في وداع الفنانة الراحلة بدأت بكلمة الأهل ألقتها الروائية السورية  ديمة ونوس ابنة خالة الفقيدة مي سكاف ،كذلك ابنها جود الذي شكر الجميع على حضورهم ومشاركتهم في جنازة والدته مي.

بعدها ألقيت كلمة أصدقاء ومحبي مي سكاف باللغتين العربية والفرنسية، كتبها وألقاها بالفرنسي الأستاذ فاروق مردم بيك جاء فيها “منذ أن غابت مي سكاف تضافرت مئات الشهادات من أصدقائها ومن الذين لا يعرفوها إلا لماماً، راسمة صورة مضيئة لامرأة سورية حرة، ونحن الطيف الواسع من الديمقراطيين السورين إذ نودعها اليوم هنا في دوردان بعيداً عن سوريتها الحبيبة التي اضطرت لمغادرتها مثل ملايين السورين، إنما تجمعنا صورتها على خلاف نزاعتنا الفكرية والسياسية، وتجمعنا الرسالة التي تركتها لنا قاطعة كالسيف لا تيأسوا لا تسأوموا ولا تنسوا مالم تحاكم الطغمة التي جعلت من سورية مقبرة جماعية”.

وبعد نهاية الكلمات قام الفنان فارس الحلو بإعلان رغبة مي سكاف إلى الجمهور “كانت رغبة مي أن تموت وتعيش في سوريا، لذلك سيكون مثواها في مقبرة دورادن سيكون مؤقتاً، ريثما تتحقق العدالة بسوريا وترتاح روحها وروح ملاين السورين، وينقل جثمانها إلى سوريا الحرة، سوريا العظيمة”.

الممثل السوري مكسيم خليل الذي حضر جنازة مي سكاف قال لموقع تلفزيون سوريا، “مي قبل أن تكون نجمة وممثلة قديرة هي إنسانة وقفت على الدوام بجانب الناس وبجانب المظلومين والمقموعين، مي شخص نبيل دفع ثمن مواقفه ومناصرته لمطالب شعبه بدون أي مقابل، بل كانت سعيدة بما تقدمه من أجل بلدها وشعبها، مع الأسف السوريون خسروا الكثير بفقدانهم شخص نبيل وشجاع مثل مي سكاف”.

مدير المركز السوري للإعلام وحرية التعبير مازن درويش الذي جاء من ألمانيا  لحضور جنازة مي سكاف قال لموقع تلفزيون سوريا “وفاة مي مفاجأة، ولكن الذي مات هو جسدها  فقط، أما مكانة مي وروحها فستبقى حاضرة، مي أصرّت قبل أن تغادر الحياة أن تقول كلمتها الأخيرة “إنها سورية العظيمة وليست سورية بشار الأسد”، مي جزء من ضمير الشعب السوري وجزء من الحركة المطلبية السورية التي تخوض صراعها الحضاري والقيمي من أجل الكرامة والمواطنة في مواجهة العنف والاستبداد، من الصعب وصف مي بعدة كلمات، ولكن ما يبقى لنا كسوريين هو الوفاء لمي ولرسالتها التي ناضلت كل حياتها من أجلها ومن أجل كرامة السورين وحريتهم”.

في النهاية كتب الكثير في وداع مي سكاف ولكن لنا أن نستحضر ما كتبه حازم الأمين على موقع درج لحظة وفاة مي سكاف “ماتت مي في الوقت المناسب، وهي أجابت بموتها عن أسئلة شطبت وجوهنا جميعاً، وتركتنا أمام سؤال عن جدوى البقاء على قيد الحياة في هذه اللحظة التي نعيشها وتعيشها سوريا، ماتت عنا جميعاً”.

وكانت الممثلة والمعارضة السورية مي سكاف قد توفيت في 23 تموز الماضي، عن عمرٍ يناهز 49 عاماً، في العاصمة الفرنسية باريس، التي لجأت إليها هرباً من “نظام الأسد” في سوريا وملاحقته الأمنية.

فرنسا – همام حداد – تلفزيون سوريا

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى