“إلى مي سكاف”
في جانب من المقتلة السورية لا يندر تصوير اللاجئين الذين حالفهم الحظ بالوصول إلى بلد أوروبي، وبدرجة أقل إلى تركيا، على أنهم الفئة الناجية. هم ليسوا من نازحي الداخل المهددين في أية لحظة بأخطار جديدة أو نزوح آخر، وليسوا من نازحي المخيمات في لبنان أو الأردن، وهذه فئة فوق الفقر الإجباري وعدم امتلاك حرية التنقل لا تملك قراراً مصيرياً مثل حق العودة الطوعية بلا إكراه، إذ نعلم أن مصيرها اليوم موضوع على لائحة الصفقات الدولية والإقليمية.
لن يندر بالطبع العثور على تصورات أمّية أو شبه أمّية في هذا السياق، فالغرب كان دائماً المثال الذي نتمناه، أو نرفضه ونتمنى دماره، لكن صورته في الحالتين لا تُقارن ببلداننا. الذين يريدون أن نصبح غرباً والذين يتمنون أن يصبح الغرب شرقاً وجدوا طوال عقود ملاذهم الفردي أو الجماعي في الغرب، وشبح المقارنة كان دائماً لصالح الأخير بحيث يحجب مكابدات اللاجئين إليه، ويحجب حقهم في أن يجدوا ملاذهم الحقوقي “الغربي على نحو ما” في بلدانهم.
إلا أن أول ما يواجه اللاجئ السوري في الغرب اليوم ذلك اللوم المعلن أو المضمر بسبب نجاته، فهو لم يشارك الأكثر معاناة من أقرانه مصيرَهم. هو لم يُقتل تحت التعذيب، ولم يمت تحت القصف بالبراميل أو الصواريخ، حتى إذا كان قد تعرض للاعتقال المؤقت أو كان مطلوباً لعشرات أفرع المخابرات، وحتى إذا دُمّر سكنه بالقصف. لقد نجا أطفاله من المصير البائس لمئات آلاف الأطفال السوريين المهمَلين، حتى إذا كان قد فقد واحداً منهم، أو كان على وشك فقدانه. هنا قسمة حادة لا تترك مجالاً لظروف فردية، فالذين قاسوا الأوضاع الأصعب يُصوَّرون كأنهم قاسوها بقرارهم وإراداتهم من بين مجمل خيارات كانت متاحة لهم، والذين نجوا منها نجوا بفعل تخاذلهم أو انتهازيتهم. هنا أيضاً لن يعزّ العثور على إحساس فادح بالذنب لدى أولئك الذين نجوا، ما يمنح اللوم قوة وفاعلية على الجانبين.
بالطبع يتسع عالم اللاجئين، مثل كل موجات اللجوء المماثلة، للذين لم يكونوا مهددين على نحو شخصي، ولأولئك الطامحين بالفردوس الغربي، بمن فيهم موالو الأسد الذين ادّعوا أمام دوائر اللجوء أنهم مهددون بخطر داعش. هذا لا ينبغي أن يكون على حساب النسبة الأعظم التي خبرت السلطة الأسدية ووحشيتها، ومن حقها مثلما من حق جميع السوريين عدم العيش ثانية تحت وطأتها، بمعنى أن الحل يكون بإزالة السبب الأساسي للّجوء.
غالباً، عند حد النجاة من الوحشية الأسدية ينتهي الفردوس المزعوم، فلأولئك اللاجئين أهل وأصدقاء لم تتح لهم فرصة الخروج من الجحيم، ولهم معتقلون لا يُعرف مصيرهم، ولا يُستثنى موت طبيعي لأحد منهم “في الداخل أو في المنفى” من دون أن تتاح لذوي الميت فرصة الوداع الأخير. ولأسباب تتعلق بحد النجاة أيضاً تُنسى بديهية أن السوريين “مثل كافة البشر” هم كائنات اجتماعية، من حقها العيش ضمن مجتمعها، أو من حقها اختيار هامشها الاجتماعي من دون ضغط أو إكراه. أن يصير مجرد البقاء على قيد الحياة امتيازاً من وجهة نظر البعض، أو من وجهة نظر دول وحكومات فاعلة، فهذا سلوك لا يشبهه سوى سلوك تنظيم الأسد الذي طالما كانت مقايضته تنص على تجريد السوري من أحقيته ككائن اجتماعي سياسي مقابل السماح له بالشروط الأدنى للعيش.
والحق أن اعتبار البقاء على قيد الحياة امتياز لا يتوقف عند الأسدية وضامني بقائها حتى الآن، هناك سوريون “بمن فيهم مَن يحسبون أنفسهم على المعارضة” لا يتوقفون عن النيل من اللاجئين، ولا يوفّرون فرصة لتقسيم السوريين بين سوريي داخل وسوريي خارج. بهذا المعيار يصبح لدينا سوريون أعلى وسوريون أدنى، وأحياناً سوريون يتمتعون بهذه الصفة، طبعاً ضمن ما تتيحه لهم الأسدية، وسوريون يجب نزع هذه الصفة عنهم لأنهم صاروا خارج النطاق الجغرافي.
لن يصعب علينا رؤية الأسدية خلف الإلحاح على هذه القسمة، فالإعلام الأسدي كان أول من بادر إلى تقسيم المعارضة بين “معارضة خارج” و”معارضة داخل”، وكان بذلك يرمي إلى إسقاط أحقية من هم في الخارج بإبداء الرأي السياسي وصولاً إلى تجريدهم من سوريتهم. السوري الجيد، وفق الأسدية وأبنائها النجباء، هو من يُبقي رأسه ورؤوس أبنائه تحت المقصلة، والمساواة بين السوريين تقتضي وقوع رؤوسهم جميعاً تحت المقصلة، وامتلاك القليل من الكرامة الإنسانية خارجها يقتضي تجريد صاحبها من انتمائه كسوري.
أما الحديث عن الكرامة الإنسانية فلا ينتهي قبل توضيح حدودها بالنسبة الى شريحة كبيرة من اللاجئين، فأبواب اللجوء التي فُتحت كانت غالباً من بلدان بعيدة جداً عن المعرفة السابقة لهم. قلة نادرة مثلاً من السوريين لديها فكرة عن اللغة الألمانية أو السويدية، حتى الفرنسية كانت موجودة بشكل هامشي جداً، واللغة الوحيدة التي تعرفوا عليها نسبياً ضمن نظام الأسد التعليمي على مساوئه هي الإنكليزية. لم يؤهّل اللاجئون أنفسهم مسبقاً لهذا الاصطدام المفاجئ بالمجهول، ولم تتح لغالبيتهم الساحقة فرصة المفاضلة بين مجهول وآخر. المجهول اللغوي يتضمن صعوبة التصرف من الأصعب إلى الأبسط؛ من عدم القدرة على طلب سيارة إسعاف عند الضرورة إلى صعوبة شرح توصيل الأوجاع بشكل كاف للطبيب وعدم استيعاب النظام الطبي الجديد، يتضمن عسر المضي في إجراءات إدارية ملحة وعدم فهم الرسائل الرسمية لسوريين نسوا أصلاً وجود خدمة البريد.
ومثلما تم تحطيم الروابط الاجتماعية السابقة من المحتمل جداً أن يبدأ تحطم الرابطة الاجتماعية الأضيق وهي الأسرة، الأولاد والأصغر سناً يملكون استعداداً أقوى للتعلم والاندماج، بينما سيتأخر عنهم الأكبر سناً، وتدريجياً ستتسع الفجوة بين الطرفين، ولن يندر أن يتحدث الأولاد بلغة والأهالي بلغة أخرى، بما تعنيه اللغة من ثقافة وطرائق تفكير. لن يندر أيضاً أن تكون العائلة الأكبر قد توزعت بين منافٍ عديدة، وفي حال اجتماعها في زيارات متباعدة لن يجد الجيل التالي منها لغة مشتركة للتواصل.
وحيث يكثر الحديث في دول اللجوء عن ضرورة الاندماج ستصطدم الفكرة برافضيها، على نحو خاص من الجيل الأول، فثمة من يرفضها عن تفكير واعٍ يجد ذريعته في أن صاحبه لم يسعَ أصلاً للوصول إلى بلد اللجوء، وأنه تالياً غير مضطر للانخراط في ما لم يكن له حرية اختياره، سواء أكان استخدامه الذريعة صادقاً أو بغرض التهرب من التكاليف الثقافية والاجتماعية للاندماج. ثمة شريحة أخرى ترفض في لاوعيها أن يكون بلد اللجوء هو المستقر، وتراهن على عودة قريبة إلى سوريا لا يحكمها الأسد، وعدم وضوح الآفاق التي ستذهب إليها القضية السورية يشجع هذه الشريحة على العيش افتراضياً في الوضع السوري أكثر من العيش الواقعي في المكان الجديد.
وإذا كان العمل مدخلاً جيداً للتأقلم مع المجتمع الجديد وشبهة الانتساب إليه فسرعان ما يصطدم اللاجئ بـ”أفضال” الأسدية عليه، إذ يكتشف أن مهاراته وشهاداته التعليمية غير مُعترف بها بحيث تؤهله للعمل بموجبها. بالتأكيد ستأتي موجة العنصرية لتفاقم كل المتاعب، بخاصة ضمن أنظمة لامركزية يمكن لسيطرة اليمين العنصري في إحدى الولايات أو المقاطعات أن تصنع فرقاً ملحوظاً، إما لحجم أو نوعية الفرص التي يمكن للاجئ الحصول عليها، أو بسبب سياسة العزل المتعمدة في السكن والتعليم.
الإلمام بواقع أولئك المحظوظين في منافيهم السعيدة ربما يحتاج بحوثاً مطوّلة، مع التنويه بأننا ما زلنا في طور ينعم فيه هؤلاء بالإحساس بالنجاة “المشوب بالإحساس بالذنب” مقارنة مع الأخبار التي تردهم يومياً من سوريا عن الوحشية الأسدية بكافة أصنافها. والمتاعب المذكورة للمنفى السعيد لا يرد فيها جرح الاقتلاع القسري، الجرح الذي لن يندمل طالما بقيت الأسدية. من شأن بحوث مفصلة لا أن تبدد سراب الفردوس المزعوم فحسب، وإنما أن تصفع الأسديين على اختلاف درجاتهم بأن كل مكان خارج سيطرة الأسدية وحلفائها وأشباهها يبقى مقبولاً بوصفه خارج الجحيم.
المدن
