الناس

صورة الأسد كانتقام ساخر/ بشار جابر

 

صورة الأسد كانتقام ساخر إن توزيع مئة ألف صورة يضمن هدوءا واستقراراً للتاجر لا مثيل له

نشأت صور عائلة الأسد منذ بداية حُكم حافظ الأب، الذي انتقلت إيديولوجيته سريعاً ومبكراً، من شكلها النظري وتبعات الصياغة والمكتوب الفلسفي والاجتماعي البعث وأدبياته، إلى صنع ما يُشبه الإيديولوجية الاعتقادية – الدينية – والتي تصنع رموزاً وقواعد اجتماعية تقليدية، وتعتني بالصورة والشكل، مبتعدة عن أي نص أو مكتوب مصاغ نظرياً أو معرفياً. ونقول نشأت الصور، لأنها باتت تتضمن حيز النظام وسلطته ودلالته، أكثر من أي كلمة أو جملة يُجترح فيها معنى أو صِلة. حيث بات السوريون يتنازعون الصورة في داخلهم لأنها باتت شكل السلطة ومضامينها.

لم تكن تقنيات السبعينيات والثمانينات كافية لرسم الصور وتلوينها وسهولة إيداعها في عيون الجماهير، فاكتفي بصورٍ قليلة لحافظ، امتلأت بها شوارع المدن لحدٍ غصت فيه، وفي سوريا من السهولة أن تجد ملصقاً – صورة – لحافظ الأسد منذ عام 1980 لا يجرؤ أحد على نزعها لحد اليوم، وهناك رجل في اللاذقية يحتفظ بصورة لحافظ الأسد موسومة بحبرٍ على رغيف خبز، وآخر توفي منذ فترة، زرع أيقونة ذهبية لحافظ الأسد فوق حلمة صدره اليُسرى في الثمانينيات، وكافأه الأسد الأب بأن يحصل على مضاد التهاب اسبوعي على حساب المشافي الوطنية لإغرازه وجه حافظ الأسد المذهب على صدره.

وتسهيلاً لخلق الأسطورة الرمزية الإيمانية، لجأ بعضهم إلى التماثيل الحجرية التي باتت رموزاً باهتة رغم معناها الدلالي، وكثيراً ما خُطف الناس في سوريا نتيجة دعابة مفادها خبري بحت: “وقفت حمامة على رأس الأسد”، فقد كان هذا كُفراً مبيناً، ورغم أنه اعتراف واقعي خبري، فعليه أن يُزاح لا إرادياً من الواقع وتحويله لشأنٍ تأملي صوفي. وكثيراً ما تغنى شعراء أسديون دللوا على شيء من قبيل هذا في شعرٍ كُتب كثيراً، حيث باتت الحمامة التي تنال رأس حافظ الأسد، حمامة متعبة تُهيل عليها اللغة وصفاً وترهات وتراكيب لنفي صفة الحيونة عنها وجعلها روحاً تلجأ لتمثالٍ دلالته روح حافظ. إنتاج هذه البهيمية في المعنى تتكرر جداً، فالمعنى الإنساني يُستحال على الحجر وعدم وضع مثال هو فقط لعدم الاعتراف بأي حصرية في الحالة السورية الأسدية.

وكثيراً ما قام مسؤولون رفيعو الشأن بإعلاء قيمة الدعاية الرخيصة لزمن الثمانينيات وفقره في الصورة، ولجأوا لفنانين تشكيلين لرسم الأسد ملوناً، أكثر وضوحاً وإشراقاً، وبأغلى أنواع القماش والإطار.

ورغم الحرص على تحسين الإيديولوجيا الاعتقادية كثيراً، إلا أن إفلاسها الاتصالي بالجمهور قد حصل مبكراً، وافتقدت لمعنى انتاج تواصلها، فالغاية التواصلية حسب نظرية (الاتصال الحديثة) تصبح غير مجدية أثناء زيادة حجم المعلومات والرموز، بل يجعلها بلا أي جدوى. وكثيراً ما تُشاهد انفعالاً مُرتكباً، في أن توضع صورة حافظ الأسد بقرب مبولة، أو على باب الكنيسة، أو الجامع، أو حتى على الأرض، دون دافع سلبي القوام، بقدر ما هي تحفز شخصي لمُحب أو رجل أمن، في جعل حافظ الأسد رمزاً مُحيطاً ولو على حائط مبولة في منطقة عامة، أو حتى في حماية الإيمان العام على حائط مركز ديني. والحقيقة إنه ليس سوى إفلاس مُمل للدلالة التي يشعر النظام بأنها فقدت قدرتها الاقتصادية على صنع معنى تبادلي منفعي لأي أحد، فيمضي الأمنيون والموالون وغيرهم لوضع صور أبناء العائلة بهوسٍ فقير، إلى درجة وصل فيها النظام مشهدياً لمفترق الطرق أمام ما قد تعنيه رموزه وصوره وتقنياته التقليدية.

ويقوم بهذا أفراد الإيديولوجيا الأكثر تخلفاً وقُرباً لثقة النظام، وهم بالأحرى الأكثر اكتفاء بمعالم الإيديولوجيا الرديئة، والأغنى شعوراً بها، فمنشأ الاستمرارية هو التضمين القوي للصورة في خلقها لجيلٍ فارغ المعنى، متضخم الاعتقاد دون وابل من الجهد والمعرفة، فهذه مذهبية غير مصاغة باردة ويومية وكل بنى علاقاتها عضوية أناس بسطاء وطائفيون ببساطة شديدة.

وقبل أن يقص السوريون صور الفنانين من المجلات لتزيين غرفهم، زُينت الغرف بصور حافظ الأسد، خصوصاً في مناطق العلويين الأكثر قرباً والتصاقاً بالنظام، بزة حافظ الأسد العسكرية زينت البيوت مُبكراً، وقبل أن تُوضع صور فنانات العالم ومصر الشقيقة في الساحل، وضعت صورة حافظ الأسد، التي تضمنت تاريخاً اجتماعياً وسياسياً هائلاً.

مع قدوم الأسد الابن، نما منطق آخر لدى النظام أقل تكلفاً نحو الصورة، حيث دفع النظام تجار البلاد مرغمين للبذخ على دعاية إعلامية لصور العائلة، ولم تتكلف السلطة كثيراً في تأسيس بقاء الصورة، فباتت المؤسسات التجارية الخاصة تتعامل مع ثقافة الصورة كمناخ صوري للانتماء للنظام. إن توزيع مئة ألف صورة يضمن هدوءا واستقراراً للتاجر لا مثيل له، والثورة نجحت في هز الكيان الشكلي البائس للنظام، وكثيراً ما شوهدت مشاهد غريبة لتصوير مشاهد طويلة لتصوير خزق الصور، كضرب لكيان أهابه السكان طويلاً، في تبجيل الصورة، فهناك مبولة عامة احتفظت برائحتها طويلاً دون دخول أي مواطن لها بسبب وضع صور لحافظ الأسد عليها، فكان خزق الصورة عدماً لما نعيشه ويعشيه السكان. وأثبت المحليون من السكان أثناء خزق الصور حِساً بنيوي السلوك في أن يكون: تاريخ صور النظام هو تاريخ النظام ذاته. من هنا كان الخزق معياراً جوهرياً في عملية قضم النظام وهلكه بالأيدي والنار.

إعادة انتاج

2017 و2018 كانا مفصليين في إعادة النظام لإنتاج معناه السياسي، عادت قوى الأمن لدفع المحليين لوضع الصور، وازداد انتاج الشق “الفني” و”الإبداعي” لدى الأفراد في جعل الأسد الابن متاحاً للزيادة الفنية، الألوان التي تُضاف، والجمل الشعرية القروسطية البائسة عن المخلصين والأبطال التي تزين صور بشار على السيارات، واحتُلت البلاد من جديد بصور بشار، وهي المحاولة الوحيدة التي يجدد فيها النظام معناه السياسي والوظيفي. وتعود صورة بشار الأسد كرمزية انتمائية، يُشارك فيها الجميع حتى المعارضون له، كحافز لمواجهة عناصر الدولة، فيعتني السكان بمشاركتهم بهوس الصورة بطرقٍ رديئة، فيها حيز ضمني للانتقام، حيث يجاهر السكان بما يرضي المصاغ الصوري الذي يحفزه النظام، فبعد حملة أمنية ثقافية سياسية بنشر الصور، بدأ السكان بوضع الصور من تلقاء نفسهم، وليس بوعي قطيعي بقدر من الشعور الداخلي بأن الصمت يحمل طابعاً تأملياً أكثر مصداقية، فإن كان وضع الصورة شرطا للدخول في تاريخية النظام الراهنة، فتوضع الصور لكن بطريقة تحمل تهكماً واسعاً وقد يكون غير محسوس ومقصوداً، فتوضع صورة بشار الأسد على بسطة بندورة، بسطة رديئة خشبها تالف لدرجة بائسة، وتحاول الصورة إنقاذ التلف والمعنى، وأصحاب سيارات السوزوكي يضعون الصورة بطريقة لا تخلو من فوضوية مشهدية كوميدية، فأثناء نقل الحيوانات مثلاً تُرى صورة لبشار الأسد على الزجاج الخلفي، وهي تتعرض للمسات حادة من رأس ماشية. ويُشار إلا أن هذه المشاهد لم تعد تساوي انتاجياً معنى ساخر، حيث الانتقامات الكُبرى تحصل في الداخل، في تحيزٍ ضمني داخلي يجعل الخارج مجرد بؤرة مسلمٌ بعدم صلاحيتها، ما لم نتحدث عن عالم الإنترنت الذي حوى كل شيء وأشبع الجمهور إعلامياً من انتقاماتهم من تاريخ الصورة الذي بات تاريخهم. إلا أن عناصر فقيرة وبسيطة تُخرج بعبثها مشاهد مضافة مشاهد تملك ما يجعل النظام فقيراً دوماً. في الأحياء الفقيرة تُسرق صور كبيرة لبشار لتوضع زينة لأحجار البناء سيئة المنظر، أو تُزيّن بها بسطات سوق الخضار البشع والمتسخ جداً، وكثيراً ما يُقال إن القماش السميك للصور الكبرى يقي من البرد، ولا يسرق المحليون صوراً للبرلمانيين أو غيرهم ممن قد يضعون صورهم في الطريق، بل تحديداً صور العائلة لتزين صروحاً بشعة ومتسخة.

تصحيحاً لما يُشاع، الفوضوي هو من يقصد الفوضى ويحتذي من ورائها تدمير أمرٍ ما كفرق عن العبثي، وهذا ما يفعله السوريون هذه الأيام، فيؤتى بالعائلة الحاكمة إلى أوسخ ما يُمكن أن تظهر فيها العائلة في المعنى، وحتى بعض العلويين الأكثر التصاقاً بالنظام لا يمركزون صورة الأسد على بيوتهم بقرب شهدائهم الخاصين، بل لا يضعون صورة الأسد أبداً هذه الأيام، لقد تم خزق النظام بخزق تاريخ صوره، وكل ما يتبقى مجرد تأمل صامت باقٍ في القلوب أكثر مما يتمناه النظام، حيث الداخل فهم بؤرة الخارج تماماً، وأن عودة فلسفية خاصة لدى السوريين كلهم ترنو بهم إلى داخلهم فقط ليعرفوا العالم ولو صمتوا عنه. هنا عودة قاسية لهوسرل “ما هو متعين في الإدراك المحض هو الجوهر الحقيقي للأشياء وليس ما يظهر منها”. لا تبدو صور العائلة إلا تفاهة تقودها الفوضى إلى تدميرها تماماً. الأسد الابن فقير جداً، فبالرغم من وصول صور الأب للمباول العامة، إلا أن هذا شغفُ محبين قرويين يضحون بحياتهم من أجل صورة، أما في زمن الابن فأصبح استخدام الصورة انتقاماً ساخراً لا يملك أي عاطفة فائضة.  لا بل حاول الأسد الابن حماية صوره أمام المؤسسات العامة بكاميرات مراقبة، وداخل الحرم الجامعي أيضاً، مئات ملايين الدولارات انفقت لحماية صور مرمية في كل مكان، حيث أن النظام ليس سوى صورة. إيديولوجيا هذا العقد تقليدية وبائسة جداً.

المدن

 

 

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى