الناس

للحرب تفاصيل أخرى/ رشا عمران

عاشت مدن في سورية الحرب بكل ما تعنيه مفردة حربٍ من معنى، دمار وتهجير وموت وأشلاء ممزّقة وتشرد وحصار وانعدام وسائل الحياة الطبيعية. وبقيت مدن طوال السنوات التسع الماضية بعيدة عن الدمار والبراميل المتفجرة ومظاهر الحرب اليومية، ولم يصبها من مظاهر الحرب إلا اليسير. وكانت الحياة في مدن أخرى تسير بشكل شبه طبيعي، مع أن سماءها كانت مسرحا للصواريخ والطائرات التي تحمل الموت الذي كان يخطر له أن يتجوّل في شوارعها وبين أبنائها، على شكل صاروخ هنا أو هناك، أو مفخّخة هنا أو هناك، فهي في منتصف الحرب تماما، حيث لا مجال للنجاة أو العيش بشكل عادي.

غير أن الحرب ليست فقط دمارا وبراميل متفجرة وصواريخ قاتلة ومفخّخات ملعونة، وليست فقط موتا ماديا يحوّل الأرض مقابر مفتوحة، وليست فقط أخبارا تتسابق وكالات الأنباء والفضائيات والميديا العالمية بكل أنواعها لنشرها وعرضها. ثمّة وجوه أخرى للحرب، لا يراها إلا أصحاب القلوب الحارّة، القلوب التي تتنقل من مكان إلى آخر، ترصد تفاصيل يومية دقيقة، قد يعتبرها بعضهم شيئا عاديا، لكنها ليست سوى النتائج الكارثية للحرب، النتائج التي لا تعني أحدا من المعنيين بالشأن الدولي، الذين يفكّرون بالتحالفات السياسية، وبكلفة إعادة الإعمار والأرباح المتوقعة منها، وبحصة كل طرفٍ من الكعكة السورية الملعونة. ولا تعني وكالات الأنباء التي تبحث عن الإثارة التي يشبعها مشهد القتل على الهواء مباشرة، ولون الدم الذي تكاد رائحته تفوح من الشاشات الباردة. ثمّة وجوه أخرى للحرب، لا يكاد يهتم بها أحد، تفاصيلها تمتد على كل مساحة سورية، حتى في الأماكن التي لم يقربها دمار الحرب وبراميلها المتفجّرة.

سلوى زكزك إحدى السوريات المقيمات في دمشق، شهدت كل ما حدث ويحدث. كانت تنتقل في دمشق من مكان إلى آخر، وسط الحواجز والخوف، وتحاول التقاط أثر الحرب على البشر، ثم تسجل ملاحظاتها على صفحتها على “فيسبوك”. من تابع تلك اليوميات انتبه إلى أن سلوى زكزك تكتب بقلبها قبل عينيها، وقبل أصابعها، فسردُها ليس مجرد نقل لواقع تعيشه وتراه، سردُها مجبولٌ بالمحبة والانحياز الكامل للناس الذين تكتب عنهم، تتقمّصهم حتى ليحار القارئ لها هل تكتب عن آخرين فعلا أم عن نفسها بصيغة الآخر؟! منذ سنوات، وسلوى تكتب هذه اليوميات عن حياة الدمشقيين والنازحين إليها، وحين يُتاح لها السفر إلى مدينة أخرى، تتابع ما تفعله من رصد لحياة الناس، لنكتشف معها أن الحرب موجودةٌ في كل لحظات السوريين، حتى الذين لم يروا صاروخا واحدا، ولم يسمعوا صوتا واحدا للانفجارات.

كثر منا رجوا سلوى أن تجمع تلك اليوميات في كتاب، إذ رصدت غالبية الكتب الأدبية التي صدرت خلال السنوات السابقة، وتحدثت عن الوضع السوري، وقائع الثورة في سنتها الأولى، ثم وقائع الحرب والبشر في مدن الدمار، أو تفاصيل التعذيب والموت في المعتقلات السورية، ومعظمهما منقولٌ عن مروياتٍ رواها الناجون من الموت، والهاربون إلى بلاد الأمان. نادرا ما صدر كتاب أدبي أو توثيقي عما يجري على الأرض، عمّا يشعر به السوريون الذين لا يهتم بهم أحد؛ وهو ما فعلته سلوى في مجموعة قصصية صدرت أخيرا عن دار آتار في دمشق بعنوان “حين لبست وجه خالتي الغريبة”، جمعت فيه سلوى بعض يومياتٍ كتبتها على “فيسبوك”، بعد أن حولتها من مجرد يوميات السوريين إلى قصص قصيرة عن بشر من لحم ودم، فتكت الحرب بأرواحهم وقلوبهم، بشر وشخصيات يمكنها أن تكون موجودةً في كل بلاد الحروب، غير أن الفراغ الذي يشعر به القارئ، الفراغ المريع، وهو يقرأ عن الأمهات الوحيدات اللواتي ودّعن فلذات أكبادهن إلى المقابر أو إلى بلاد الأمان، هربا من الموت، هو أكثر ما يدلّ على سورية الشخوص والحدث، إذ ثمّة جيل أو أكثر من الشباب بات مفقودا في سورية، إما صار ترابا، أو غادر إلى بلادٍ لن يصبح فيها قاتلا أو مقتولا، ليترك في سورية أمهاتٍ يتابعن حياة أبنائهن في بلاد غريبة، وهن موقنات أنهن قد لا تتاح لهن رؤيتهن ثانية.

لا تورد سلوى في قصصها مفردات الحرب والموت إلا لماما، ولكن في كل سطر من سطور قصصها ثمّة حرب. تكتب في قصة حالة طوارئ: “تتشتت الحرب على حدود العيش، تغمر كل تفاصيله بخرابها، لا إعلان واحد للنفير، فلكل تفصيل نفيره الخاص، للحرب مقاص متعدّدة منتشرة كما الفطر، وكما الرصاص، وكما الغياب الذي يلف الجميع من البشر حتى نقطة الماء”.

العربي الجديد

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى