“أم الزلغوطة”/ هدى، سارة الخياط
عند التطرق لدور المرأة في ثورات منطقتنا، ومنذ بدايتها في تونس 2010، لا نرى مساحة كافية للمرأة السورية. وهنا لا نقصد إساءة الظن في نوايا المنصات التي تحاول الإضاءة على دور المرأة الفاعل في كل ثورة قامت من تونس مرورا بمصر فليبيا، سوريا، والعراق ولبنان بشوارعهما المشتعلة حتى اللحظة، كما أننا لن نجلد ذواتنا بأن نتحمل كامل المسؤولية عن التقصير الحاصل.علينا جميعا المحاولة والاستمرار بالمحاولة لنحكي قصصنا التي يحاول النظام بوجوهه كلها طمس معالمها ودفنها. نحن معرضات عن كيل التهم لبعضنا البعض وافتراض سوء النوايا أو الاستسلام لحياكة نظريات المؤامرة واتخاذ دور الضحية. فهذا ما لا نحتاجه، وهو إن كان سيحمل منفعة لأحد، فحتما ستكون أنظمتنا الفاسدة أول المستفيدين وآخرهم.
لا تحتاج المرأة السورية الثائرة لمن يدافع عنها، وعما بذلته في سبيل الحرية والعدالة والمساواة. ولسنا هنا بصدد ذلك أبدا. إننا هنا فقط لنحاول، مهما كانت محاولاتنا متواضعة قياسا لما قدمنه، أن نوثق بعضا مما بذلنه دون أدنى تردد منهن لاسترجاع كرامتهن الإنسانية، رغما عن إرهاب نظام الأسد، وأشباهه، تجاه السوريين بشكل عام، والسوريات بشكل خاص.
اليوم نسلط الضوء على زينب “أم الزلغوطة”، كما أحب أن أسميها بعد اطلاعي على قصتها. وهي سيدة سورية، ذات التاسعة والأربعين عاما، أم لأربع بنات وولد. توقفت عن متابعة تعليمها الأساسي، وتزوجت، شأنها شأن كثيرات غيرها من بنات المجتمع السوري.عاشت حياتها كربة منزل، ترعى أطفالها. لم تدفعها الحاجة لكسب المال إلى العمل، فقد كان زوجها ميسور الحال. لكن كل هذا تغير بعد قيام الثورة السورية، التي لم تتوان عن الانضمام إلى صفوفها ثائرة، تهتف في التظاهرات السلمية جنبا إلى جنب مع بنات وأبناء منطقة القابون الدمشقي، وغيرها، أو مشيعة لجثامين من استشهدوا منهم على يد مجندي النظام. وفي هذه الأثناء عرفت بزلغوطتها الرنانة، فقد كانت تطلقها من آخر صفوف المظاهرة ليسمعها من كان في الصفوف الأولى، الأمر الذي أحبه جميع المشاركين.
لم تكتف زينب بالتظاهر فحسب، بل حولت بيتها الواقع في منطقة خاضعة لسيطرة النظام حينها، لمقر لتجهيز لافتات التظاهر، وخياطة أعلام الثورة السورية والتي اعتادت أن تبتاع مستلزماتها بنفسا من سوق الحميدية، كما أعدت مع غيرها من النسوة كرات لونّهن بألوان العلم قبل رميها في نهر بردى، وصنعت بنفسها مسابح الثورة لتوزعها على أكبر عدد من الشبان المتظاهرين ليزينوا بها رقابهم، والذين صاروا يقصدونها لاحقا بشكل خاص من كافة المناطق المجاورة لتصنع لهم المزيد. حملت “أم الزلغوطة” مسؤوليات ليست بقليلة، بدأتها بالتظاهر والتجهيز لهذه التظاهرات وتنظيمها، ولم تنتهي بإحضار الأدوية وإسعاف المصابين إثر مجزرة الكيماوي في الغوطة عام 2013.
عرّضت نفسها لكافة أنواع المخاطر من طرف النظام وشبيحته الذين لم تنج من أذاهم لها ولأفراد عائلتها. فقد تم اعتقالها وابنتها في تشرين الأول 2011، لكتابتهما على أحد الجدران “ارحل يا حمار، مافي حوار” حيث قضتا في أفرع المخابرات قرابة الثلاثة أشهر، تحت التعذيب الجسدي والنفسي. لم تنته المعاناة بعد خروجها من المعتقل مع ابنتها، بل بدأت مرحلة جديدة من الألم إثر تحقير المجتمع للمعتقلات والنظر إليهن بعين المتهم دوما. لكن زينب وابنتها استمرتا بالكفاح لاقتلاع كرامتهن من بين فكي المجرم ومخالبه التي طالت كل شيء. توالت المشقات عليها، من حصار فتهجير تلاه تهجير. ولم تكن الفصائل المسلحة وخاصة “جيش الإسلام” في تلك المناطق أرحم على الناس من إجرام الأسد، فقد كانت وجها آخر لوجوهه الكثيرة بشهادة زينب وآلاف غيرها. وهذا مادفعهم بعد سنين من الذل والتجويع والقتل والاعتقال لترك كل ما تركوه، والرحيل عن أرضهم إلى تركيا محملين بندوب لن تشفى بفعل الزمن.
زينب ليست المرأة السورية الوحيدة التي تعرضت لكل هذا الألم في سبيل الحرية من كل ظلم، فحسب تقرير الشبكة السورية لحقوق الإنسان أكثر من سبعة وعشرين ألف امرأة وطفلة قتلن في سوريا، وأكثر من عشرة آلاف امرأة وطفلة معتقلات أو مغيبات قسريا عند النظام وغيره من الفصائل المسلحة التي ادعت يوما وقوفها مع الشعب السوري في وجه الإجرام الأسدي.
الرسم لسارة خياط عن كتاب لمى قنوت، من اصدار منظّمة اليوم التالي :TDA “كي لا أكون على الهامش.. الذاكرة الشفوية لسوريات ناجيات من الاعتقال”.