السقوط السوري الإجباري بين بلاد المنافي ومدن اللجوء/ علاء رشيدي
بعد استقرارها في مونتريال تقرر ياسمينا العودة إلى دمشق، تقرر أن تتصالح مع رعب المدينة وآلامها وعذاباتها، وحين تعود إلى منزل العائلة الذي يضم مقبرة أجدادها، يظهر لها الموتى ويلاحقونها …
تفتح رواية “سقوط حر” للروائية والمخرجة السورية عبير إسبر، نافذة على الارتحال المستمر، والهجرة القسرية في حياة السوريين وعلاقتهم مع المدن التي شكلت طريق هجرتهم ونزوحهم. وإن كان عنوان الرواية “السقوط الحر”، فإن المعنى المراد هو السقوط غير المنظم، السقوط الحتمي أو الإجباري بين بلاد المنافي ومدن اللجوء.
ياسمينا التي تتنازع مع ابن عمها بيت العائلة الدمشقي العريق والقديم والذي يحوي مقبرة العائلة كاملةٍ بكل أجيالها، هي الساردة التي يرافقنا صوتها على طول الرواية، حكايتها تمثل حكاية نموذجية لامرأة تعمل في مجال كتابة السيناريو وإخراج المسلسلات، لنرافق مونولوغاتها الداخلية وأفكارها الذاتية حول عائلتها، حول الأحداث التي تقع في بلدها، وحول تجربة الهجرة والنزوح، وإمكان العيش والاندماج والمشاعر بين المدينة والأخرى.
رواية “سقوط حر” بوح ذاتي لياسمينا في علاقتها مع المكان الأصل دمشق، ومع مدن المنفى وأماكن اللجوء، عن الذاكرة، عن العلاقة مع اللحظة، وعن محاولات تلمس المستقبل. بعد استقرارها في مونتريال تقرر ياسمينا العودة إلى دمشق، تقرر أن تتصالح مع رعب المدينة وآلامها وعذاباتها، وحين تعود إلى منزل العائلة الذي يضم مقبرة أجدادها، يظهر لها الموتى ويلاحقونها في أقبية المنزل، وغرفه، وعلى سلالمه، لتهوي ياسمينا من علو درجات حجرية تسع، وتنتهي الحكاية، وكأن المدينة دمشق منذورة للجثث والموتى.
دمشق التسعينات: الانفتاح السطحي
في تتبع المدن في الرواية، نبدأ مع دمشق تسعينات القرن الماضي، نكتشف المدينة في تلك الفترة عبر حكاية طبيب تجميل هو والد ياسمينا، التي وعبر مهنة والدها، طب التجميل، تحاول وصف المدينة في تلك الفترة. فبعد عهود من التقشف والعزلة السياسية، شهدت دمشق التسعينات نوعاً من الانفتاح على ثقافة العولمة، لقد انتشرت صحون القنوات الفضائية، وبدأت المدينة تشاهد ما يحدث في العالم، وبأناة تسللت مواضيع التلفزة الفضائية إلى أدبيات الحديث في السهرات، وظهرت مفردات جديدة في صبحيات النساء، تشدق الجميع بـ”البلاستيك سيرجوري” و”البوتوكس”، وأجريت عمليات التجميل البلاستيكية بأمان وسرية، هو نوع من الانفتاح الزائف تصفه الروائية: “هو سريان التفاهة والسطحية في طرقات المدينة”.
دمشق الثورة: التعاضد
تنتقل بنا الرواية إلى مرحلة الاحتجاجات الشعبية والثورة، لقد أتت الحرية وانفجرت الحناجر بالصراخ، بالغناء، بالضحك، بالدموع والتعاطف والحب والأمل، تكتب ياسمينا: “الثورة جملتنا، والأحاديث ارتقت عالياً، تجاوزنا الطائفية والمناطقية والطبقية وأصبحنا أخوة، لم أعد أقرف من الفقر ولا من الفقراء”، وتصف كيف تعاضد الثوار، كيف تعاطفوا مع من ضُرب واعتقل، وكيف بحثوا عن المختفين ليقدموا المعلومات لأهلهم، عن أثر الثورة على الأنفس. تكتب ياسمينا: “الشام الثائرة جمَلت قذارتنا، وأضفت على رغباتنا مسحات ملائكية”. وبصدق تعترف ياسمينا بأنها رغبت بداية في تحقيق الشهرة والنجومية عبر تقديم المساعدات للعائلات المنكوبة في خان شيخون، لكنها ما لبثت بعد زيارتها الأولى تلك المنطقة أن التزمت عاطفياً وفكرياً بمحاولات المساعدة، وأصبحت دوافعها هي دوافع التعاضد والتعاطف الإنساني.
دمشق 2012: انتشار الفزع
مع حلول عام 2012، تتغير المدينة دمشق، تشعر ياسمينا بأن المجينة تمارس عليها في تلك الفترة عملية إقصاء قاسية. ليل دمشق تقلص، النهار الخريفي الموحش برد كفجر طويل، رياح المساء تكنس الناس من أرصفة المدينة إلى بيوتهم مصابين بالخوف، بالغم المنذر بالأسوأ، بينما يسود العتم المثقب بأصوات الرصاص. هكذا تحولت المدينة في نظر قاطنيها إلى كابوس مستمر من الخوف، الخوف الذي دفع بطلة الرواية ياسمينا إلى ترك المدينة التي عشقتها والتي تتغنى بوصفها وتفسير جمالياتها على طول الرواية.
رجال الأمن دخلوا فجأة، إلى منزلها الخاص، طرقوا الباب، هرب صديقها أسامة على الفور، دخلوا إلى الشقة وانتشروا يفتشونها، فتحوا الكومبيوتر الخاص بها، وسألوا عن سبب وجود كومبيوتر ثان هو لصديقها أسامة. كانت هذه التجربة التي دفعتها إلى فقدان شعور الأمان، وإلى اتخاذ القرار بترك المدينة.
بيروت: الحكاية التي ملت الرواة
مع الوصول إلى بيروت تتلبس ياسمينا هوية اللاجئة، تضطر إلى التسجيل في مفوضية اللاجئين خوفاً من الغلواء والشحن السياسي اليميني ضد كل ما هو سوري في لبنان. تصف ياسمينا بيروت برهافة، فالمدينة كانت بالنسبة إليها مدينة النور والحرية، وقصائد درويش وتفاحاته، وانفتاح الرمان على الاحتمالات، وزعبرات استرخاء الرحابنة بين المسرح والأغاني، وطفولة روح طلال حيدر في “الريد شو”. لكنها الآن أصيبت في روحها، فقدت براءة لا مبالاتها، تعاليها، أرهقت بعدما هلهلت الحرب مفاهيمها، وتحولت إلى مدينة مغموسة بواقع السوريين حد الموت: “لم تعد بيروت مسرحاً للحكايات، أصبحت هي الحكاية، وملت الرواة. فالمدن المرهقة تلفظك كمرارة الفم، لا تتحملك لأنك وجعها، وصورتك القبيحة في وجدانها، تغتصب جمالها بأسمالك”.
أحبت ياسمينا بيروت المدينة الأليفة، أحبت بحرها، خلجانها، ظلها الذي يبرد في البحر، أحبت شوارع جونيه وحجارتها، أحبت سوق الكسليك المكتظ بالأناقة والأجساد المقمرة من معاشرة البحر، لكنها شعرت بأن بيروت المدينة المجنونة طردتها، فقد تعبت بيروت من الجميع، فاضت بالأمكنة، وشح فيها القبول والتفهم. وها هي ياسيمنا تغادر إلى مكان آخر: “في مطار بيروت أترك الحكاية ورائي، فقد اعتدت أن أدفن قصص المدن في المطارات، بين حقائب الغرباء ودموع المسافرين”.
دبي: ممارسة الإنسانية على عجل
دبي هي المحطة التالية في رحلة التنقل والهجرة، تتعدد رؤى دبي في كتابات الأدباء العرب والسوريين، في رواية “سقوط حر” نراها في عيني لاجئة سورية، بداية هي مدينة فتية تنقصها الذاكرة والحكمة، نجت من اللعنات، ولم تكن أرهقت بحكايات المقيمين، فقد رمتهم من ناطحات سحابها، ونثرتهم عنها لتقتسمهم الريح والصحارى، هي مدينة لا وقت لديها للذاكرة، مدينة عصية على الالتقاط، لا يمكن تسجيل حكايتها، بل فقط عيش حاضرها بحاضرها، مدينة طافية، لا يهمها أن تكون مادة سهلة للهجاء والنقمة. لكن أيضاً لا تعاطف في دبي، هناك المحبوبون والملعونون، الأغنياء ومن ينظر للأغنياء، لا حسرة في دبي، فالكل موقت، والخيبة نخزة لطيفة تجاه القلب.
لكن ياسمينا تعاني في هذه المدينة أيضاً، فلم تعثر على من يهمه مشاعرها: “تبكي سريعاً، تغضب سريعاً، تجوع، تبرد، تحزن، تمارس كل مشاعرك بسرعة، فلا أحد هنا يهمه أن تسيل مشاعرك عليه، ويمسحها لك نقطة نقطة، تلك مهام الأوطان ومن يسكنها، أن تفيض أنت ويغرق بيتك، أحبتك، أصدقاؤك، وقاطنو شارعك، وحارتك، ومدينتك، ويغرق البلد الذي أنت منه. أما هنا، فعليك أن تمارس إنسانيتك على عجل”.
سوريا: ذاكرة العنف ودمويات القرون الوسطى
تقرر البطلة العودة مجدداً إلى سوريا، لتفتح الرواية الباب مجدداً على وصف الحال السوري في الداخل، تحصل الأعاجيب على الطريق بين حمص والشام، حالات الاختطاف التي تضاهي أفلام الدرجة الثالثة قسوة وغباءً، العملة السورية تغرق، والتداول بالدولار عاد ليكون تهمة تلقى بعدها في السجن، جنت البلاد، وفتحت كمعتقل كبير، المعارضة تفسخت جثة قميئة، مجرد ميليشيات بأسلحة وبحسابات أصغر من حسابات نملة، عصابات بلا بوصلة ولا يقين، موتى وعبث أموال مغشوشة النيات، وواجهة لثورة تائهة منكسرة، خذلها معارضون ومعارضات ببدلات وكرافاتات وفنادق فارهة ولقاءات وطعام. “الملهاة السورية أنتجت كل هؤلاء المهرجين، وظهر البعبع بفيديوهات كرتونية، ومشاهدات للملايين يتابعون برعب الذبح والحرق والصلب ودمويات القرون الوسطى. ظهرت داعش، ونظفت سمعة النظام بقذارتها. سنوات من قهر واضطهاد وزرع للطائفية وكراهية وحقد وجنون، اختفت من ذاكرة الشعب الفزع كرمى لذاكرة محدثة متخمة بفزع جديد اسمه داعش”.
مونتريال: دليل عملي لاندماج اللاجئ
مع دفعات اللاجئين السوريين تصل ياسمينا إلى مونتريال-كندا، تشعر بأنها فقدت ذاتها، فقدت كيس الذكريات الذي تحمله على ظهرها. في مونتريال تعيش وحيدة لدرجة الفزع، تعتاد البكاء في الطرق، تعتاد على الصمت لأيام من دون سماع صوتها، تبتسم للنساء في الحدائق، وتشحد الملاطفة من سائقي الحافلات في النقل العام، تتساءل بما يشبه الشكوى: “لكن ما الذي أوصلني إلى هناك عند حافات العالم؟ ما الذي تخلى عني ورماني لأنزلق في فجوة اسمها اللجوء؟”. يرافقها شعور الخسارة بقضايا الوطن. من ضمن محاولات الاندماج في بلد اللجوء، تصل إلى ياسمينا رسالة بعنوان “خمس خطوات لاندماج أفضل”، هي أشبه بدليل نموذجي يؤلفه أحد أشخاص الرواية لياسمينا ليساعدها على الاندماج في المجتمع الكندي، يذكر فيه:
لست خائناً فتوقف عن شعور الخيانة: إن كلاً منا وصل إلى هذه البلاد محملاً بشعور هائل بالأسى والذنب، لكونه ترك شيئاً ما وراءه، أم مسنة، أو أطفالاً، ذكرى بعيدة لطفولته، فعليك للاندماج التخلص من هذا الشعور.
أدر ظهرك للعنصرية، عنصريتك أنت أولاً: كندا بلد فتي. لذلك عندما يهاجمك أحدهم بعنصريتك، لا ترد بخطاب هش عن عراقة ماضيك وتاريخك.
اللغة كائن حي، فهي قابلة للتغيّر: نعلم أن مفردات مثل لاجئ ومهاجر وهارب قد لا تحمل مفاهيم إيجابية بنظرك، لكن تذكر أن اللغة كائن حي يتغير مثلك. فابدأ بإيجاد لغتك البديلة، ابدأ بالتمرن على الابتسامة الودودة، ابدأ بالسلام، ودع لعينيك ودفء ملامحك أن يقوما بسد قصور اللغة لديك.
من أنت؟ لا يهم: كل منا آتٍ من ماضٍ ما إلى بدايات جديدة، فلا تترك الماضي يتحكم بك، ويسد عليك الفرصة للقاء المستقبل.
الجميع يحبون قصص النجاح، فابدأ بكتابة قصتك.
درج