ذاكرة الثقافة السورية كما تكتبها الأسديّة نجاح العطار/ علي سفر
يطيب لرهط من المثقفين السوريين الموالين أن يطلقوا على د.نجاح العطار، نائب رئيس الجمهورية للشؤون الثقافية، لقب “سنديانة الثقافة السورية”!
وفي تحليل المعنى الذي يكتنه العبارة، تحيل صورة شجرة السنديان إلى ضرب الجذور عميقاً في الأرض، وإلى التسامق والعلو، وإلى البقاء دهراً! لا يسعى مطلقي اللقب إلى الدفع بالعطار إلى مرتبة الخلود، فالخالد في سوريا هو حافظ الأسد، لكن وزيرة الثقافة التي بقيت ربع قرن في منصبها بجواره هي خالدة بشكل تلقائي، إلا قليلاً، وما الذي يمكن له أن يعبّر عن الخلود إلا قليلاً مثل شجرة السنديان؟!
في واقع الأمر، كثير من المثقفين السوريين في الزمن الحالي، لا سيما أولئك الذين تجاوزوا سنوات الشباب، لا يستطيعون أن يستعيدوا ذاكرتهم الثقافية من دون أن تخالط مشاهدها صورة نجاح العطار، فقد بقيت وزيرة للثقافة منذ منتصف العام 1976، وحتى ربيع 2000!
وفي البلد الذي تم فيه تأميم كل شيء فيه منذ استيلاء البعثيين على السلطة، بات من غير الممكن حصول أي نشاط ثقافي من دون رعاية من رئاسة الجمهورية أو من الوزيرة! وكان على جميع مرتادي هذه الأنشطة أن يقرأوا كلمة للوزيرة في “بروشوراتها”!
وفي الوقت نفسه، أمسى من الطبيعي أن تتصدر صفحات المجلات التي تصدرها الوزارة كلماتٌ تدبجها الوزيرة، لتقدم بها المناسبات الثقافية وغير الثقافية! فمن “الحياة المسرحية” إلى “الحياة السينمائية” و”الحياة التشكيلية” إلى “المعرفة”، في مجلات الوزارة كان “يراعُ” العطار (ونحن هنا نستخدم تعبيرها الأثير) يخوض في تظهير الأحداث بوصفها محطات في مسار هناءة عيش السوريين بقيادة الأسد، الذي ما انفكت تعيد وتكرر مقولته “الثقافة هي الحاجة العليا للبشرية”!
علاقة العطار بالأسد وعائلته أكبر من مجرد الارتهان للعبارة الأسدية، فمنذ توليها منصبها، صار حضور السيدة الوزيرة في صفحات المجلات مقترناً بتمجيد القائد المُلهَم، إلى درجة كانت تلفت نظر حتى عتاة المؤيدين! هل كانت العطار في مبالغاتها المدائحية للأسد تحاول أن تكون ملكية أكثر من الملك، بالنظر إلى خلفياتها العائلية؟
كُتب الكثير عن علاقة السيدة بالأسد، من زاوية ترى أنه لم يخترها لهذا المنصب إلا ليظهر للسوريين (لا طائفيته)! فهي شقيقة عصام العطار الداعية الإسلامي السوري المعروف والمراقب العام السابق لجماعة الإخوان المسلمين، التي خاض تنظيم مسلح ينتمي إليها (الطليعة المقاتلة) حرباً حقيقية ضد النظام، انتهت بمذبحة كبرى ارتكبتها قواته بأهالي مدينة حماة في شباط 1982.
لكن سياق كتاباتها الخاص، يُظهر فعلياً أنها اعتبرت نفسها جزءاً من عائلة الأسد، وأن مسألة تمجيد رأس النظام باتت شأناً روحانياً يغمر حياتها بالطمأنينة، فقد تجاوزت إحالة الثقافة وتفاصيلها إلى كلماته المكرسة، حتى وصلت إلى ربط وجودها ببقائه، وبفرحه وحزنه! وهكذا سيمر المتابع وبعد مئات المقالات الدبقة في مديح الأسد والتبشير بانتصاراته، بالعدد 365 من مجلة “المعرفة” تاريخ شباط 1994، والذي جاء غلافه أسود، توسطته بالأبيض عبارتان تقولان “سوادٌ في الغوطتين ودمعٌ في المقلتين”، حيث فردت الوزيرة لنفسها ثلاث مدبجات رثائية، كتبتها بصيغة اليوميات، تتحدث فيها عن الحدث الجلل؛ مقتل باسل الأسد!
لم تغب العطار عن مواقع السلطة طويلاً في عهد بشار الأسد، فقد تذكرها بعد ست سنوات وأنابها عنه في الشؤون الثقافية العام 2006، فصار مكتبها محجاً لكثير من المثقفين الذين تضررت مصالحهم إثر التهتك الذي تعرضت له مؤسسات الوزارة في ذلك الزمن، ومع الوقت صارت لها كلمة في بعض القضايا الصغيرة هنا وهناك، في حروب هؤلاء مع الوزراء الذين تتالوا على المنصب!
بعد قيام الثورة السورية دأبت العطار على حضور المناسبات الداعمة للنظام، وكذلك تلبية دعوات السفارات الباقية في دمشق. فمرة تراها مع السفير الإيراني، ومرة أخرى مع الفنزويلي، ومرة في حفلة للسفارة الصينية!
ثم أعاد الأسد التأكيد على وضعها القانوني بعد “انتخابه” الصوري في العام 2014، فأصدر مرسوماً بذلك قيل في مواده: “تسمى السيدة الدكتورة نجاح العطار نائباً لرئيس الجمهورية. وتفوض بمتابعة تنفيذ السياسة الثقافية في إطار توجيهات رئيس الجمهورية”!
العطار لم تهدر وقتها كله بحضور المناسبات، بل مضت لتكرس جزءاً كبيراً منه في الكتابة في السياسة الثقافية التي يريدها الأسد! أو لنقُل، إعادة نشر بعض تفاصيل الذاكرة السابقة في عهد أبيه، وما كتبته في صفحات المجلات التي كانت تتبع لها وتعمل وفق توجيهاتها. وهكذا صدر لها كتاب بعنوان “حافظ الأسد، القائد الذي صنع التاريخ”، وأيضاً كتاب “من حديث الشعر” 2015، وأيضاً “الثقافة قمر لا يغيب.. ان استوى التاريخ على قمة الشهب” في العام 2016، ثم “الفن إبداع في سره الأعلى يكتب الوجود” في 2017، وأيضاً في العام التالي “صفحات من الفن المجنح برؤى المبدعين” وأخيراً “ملامح من حياة منذورة للكفاح” الذي جاء في 544 صفحة، وصدر في 2019 عن الهيئة العامة السورية للكتاب، مثله مثل كل المؤلفات السابقة!
يحتوي الكتاب بين طياته خمسين لقاءً صحافياً، سقط من ذاكرة الوزيرة السابقة أسماء كثير من الصحافيين ممن قاموا بإجرائها، لكن ما لم يسقط بالضرورة في التقديم الذي وضعته للكتاب وجاء في 30 صفحة، هو الذكريات المنتقاة، بما يبيض صفحة حكم الأسد الأب من الدمار الذي ألحقته سياسته التسلطية بالثقافة السورية وبالمثقفين!
إنها تبرع في استرداد المقولات التي تنقلها عن حافظ الأسد، وكأنها قامت ببصمها عن ظهر قلب. فبالنسبة إليها لا يمكن الحديث عن ثقافة سورية من دون أن نتقصى رؤيته لهذا المفهوم، وبالتدقيق في التفاصيل سيقرأ المهتم تصورات مبنية على الشعاراتية، مقترنة بالأبعاد القومية، والتأكيدات على أن الوجود مرتبط بالثقافة! وإذا توغلنا أكثر في بحثنا عن حامليها من مثقفين وفاعلين، ستأخذنا الدكتورة العطار فوراً إلى مفهوم الحرية، ووفق المثل الذي يقول: يكاد المريب يقول خذوني، ستضع قارئ كتابها أمام تاريخ ثقافي سوري معقم من كل المثالب! فالأسد يحمل قناعة متقدمة عن الحرية، هي مقولة شهير لهوميروس “إن يوماً من الاستعباد يجردنا من نصف رجولتنا”!!
ويبدو أن ذاكرة السيدة العطار تورطت أكثر مما ينبغي ههنا، أو أن للعمر حقه، إذ تنسى أن عشرات المثقفين (بعضهم موظفون في وزارتها) رقدوا سنيناً من أعمارهم في زنازين الفروع الأمنية والسجون، التي باتت جزءاً راسخاً من الثقافة السورية بعدما كُتب عنها عددٌ غير قليل من المؤلفات الأدبية!
ومن الطريف في هذا المسار أنها تذكّر بحادثة تخص الشاعر الراحل بدوي الجبل، الذي تعرض لأذى كبير على أيدي البعثيين في نهاية الستينيات وبداية السبعينيات، فتتحدث عن أن الأسد وافق على طباعة ديوانه كاملاً، بينما كان الشاعر يريد أن يحذف منه قصائد كي لا يسبب حرجاً له! وهنا تظن العطار أنها تمدح الأسد، بينما يظهر الواقع الذي يجعل الشاعر يقرر حذف قصائده أي درجة بلغها التسلط في زمانه!
وفي حديثها عن السينما تعترف أن هناك فيلماً لم تسمّه بالاسم، تجاوز الحدود، لكنهم (هي أَم الأسد؟ لا نعرف) سمحوا بعرضه مرة في سوريا، وسمحوا بمشاركته في المهرجانات. وهي طبعاً تشير إلى فيلم “نجوم النهار” للمخرج أسامة محمد.
كما أن لعمر أميرالاي وسعدالله ونوس حصة في حديث الوزيرة السابقة، حيث تنوه إلى أنها رأت في فيلمهما (الحياة اليومية في قرية سورية) “ظلماً لسورية لا تستحقه”، لكنها لم تتدخل في فيلم أنتجه أميرالاي لصالح قناة ART (تقصد قناة Arte) ذلك أنه كان نتيجة تفاهم مع السيد فاروق الشرع، وزير الخارجية آنذاك. وتقول بالحرف: “شاهدت على الفضائية الفيلم الإسرائيلي، وكان مختلفاً بمستواه”، ولا ندري هنا عن أي فيلم تتحدث! ثم تستطرد فتذكر أن فيلم أميرالاي احتوى “أخطاء سياسية غير مقبولة، ولم يكن على المستوى المرجو، ولم يكن أساساً معداً للعرض في سورية. وكان قد تعهد لوزير الخارجية أن يعدل في الفيلم ما يراه الوزير، لكنه لم يفعل، لا أدري لماذا، وقد رفضت أن أتدخل لأنني شهدت الاتفاق الذي تم بينه وبين السيد الوزير”!
وتتحدث في مكان آخر عن حضور الشاعر مظفر النواب في دمشق، فتذكر أنها لم تثر موضوعه مع الرئيس ولم تكن تتابعه، لا لأنه ينتقد ويجرح ويهاجم، كما تقول “فذلك أمر لم يكن يستدعي منا موقفاً منه، أو من أمثاله”، بل إن السبب هو أنها لم تكن تحب في شعره “استخدامه لألفاظ نابية، حتى لو صفق لها جمهوره”!
مشكلة نجاح العطار في تذكرها لهذه الأحداث وغيرها، هي رؤيتها لما تتحدث عنه من تدخلات في الحياة الثقافية على أنه أمر طبيعي وحق لأصحاب القرار، فهي بنت النظام، وربما اعتبرت نفسها ابنة للرئيس الأسد ذاته ولنهجه، فهي تتحدث عنه كملاك مثل البنت المعجبة بأبيها! وتاريخه نقي صافٍ، بينما كانت حياة المثقفين وغيرهم في سوريا حافلة بالآثام والذنوب!
المدن