من نقد التراث إلى تفكيك الواقع البغيض: لماذا فشل العالم الإسلامي وتقدم الآخرون؟/ محمد تركي الربيعو
طوت الانتفاضات العربية حقبة صفحة نقاد التراث، إذ غدا الاهتمام بدراسة تاريخ الدول الحديثة وتشكيلاتها يتقدم على فهم وقراءة تاريخ الإسلام، بيد أن ذلك لم يمنع البعض من أن يستخدم هذه الكتابات والمقاربات الجديدة، كمدخل لتكوين مقاربة ثقافوية مضادة شبيهة بمقاربة التراثيين، الذين أخذوا يلقون اللوم في فشل العالم المسلم على أفكار الحداثة السياسية.
في فترة السبعينيات والثمانينيات، وفي الوقت الذي كانت فيه الدولة العربية تتضخم بشكل غير مسبوق، أو بالأحرى تتوحش، وفق تعبير الفرنسي ميشيل سورا، كان عدد من المفكرين والباحثين العرب قد عكفوا على دراسة ومراجعة التراث، كمدخل للسؤال حول أسباب فشل العالم المسلم.
في تلك الأثناء، بدا للبعض أن هزيمتنا الثقافية والفكرية، إنما تعود لسقيفة بني ساعدة؛ ففي أحد الأيام تجمع عدد من الصحابة بعد وفاة النبي وانقطاع الوحي، وسرعان ما دخلوا في خلافات حول من يتولى إدارة شؤون المسلمين، قبل أن ينجح لاحقاً، وفق ما كتبه محمد عابد الجابري في “العقل السياسي العربي”، العقل البدوي ليدفن الباردايم أو النموذج الإسلامي. ومع فترة التسعينيات، يمكن القول إن هذه المقولات في الفكر العربي، التي ترد أي إشكالية من قضايانا إلى التراث وفترة الإسلام المبكر، بقيت تغري عدداً لا بأس به من الباحثين والمهتمين بالشأن الثقافي.
ومع فترة الألفية الجديدة، و”غزوات نيويورك”، عاد عدد من الكتاب الغربيين والمسلمين للتأكيد على أن أسامة بن لادن وجنوده ليسوا سوى أحفاد ابن تيمية، وأن هناك الملايين من أمثالهم في المدن الإسلامية، ممن يحلمون بغزو الغرب. وستدفع هذه المقولات عدداً كبيراً من الباحثين للغوص من جديد في التراث لتبرئة هذا الإسلام، وكانت النتيجة عشرات الكتب التي تعنى بتاريخ فكرة الجهاد، بدون أن نحصل على أي تراكم مثلاً حول أسباب تحول شخص مثل بن لادن من مليونير صغير، إلى بدوي جهادي في قندهار.
ولعل اللافت أيضاً في سياق البحث في هذه الفترة أيضاً، بروز كتابات جديدة في هذه الأثناء أخذت تبشر، أو تشتهي بالأحرى، بنهوض العالم الإسلامي، عبر القول مثلاً إن هناك طبقة وسطى جديدة في هذا العالم، وإن هذه الطبقة باتت تبحث عن أفق آخر غير أفق الحروب والأيديولوجيا، الذي عرفته المنطقة، وأن أبناءها يبدون ميلاً أكثر لرائحة الحداثة والإسبرسو والشاي لاتيه، وربما هذا ما بدا مع كتاب ولي نصر الشهير “صعود قوى الثروة.. نهضة الطبقة الوسطى في العالم الإسلامي”، وأيضاً مع كتاب الفرنسي باتريك هايني حول “إسلام السوق”، أو بالأحرى “اشتهاء إسلام السوق” الذي سيأتي لينفض الغبار عن قرون من التخلف الديني.
ولنجد أنفسنا هنا أمام استراتيجية خطابية جديدة، فبدلاً من أن يدور السؤال حول التراث بوصفه حاملاً لجينات التخلف، غدا البحث عن نماذج هنا وهناك، وصور حداثوية، مثالاً جيداً للقول إن هناك جيلاً لم يعد يكترث لدين الآباء، مع أنه يسجل لهذه الكتابات، أنها بدت أحياناً أكثر فائدة من مقاربات التراث، كونها رصدت تفاصيل صغيرة من الحياة اليومية للناس في هذا العالم الواسع، رغم اختلافنا مع تأويلاتها، وهذا ما كان يعزز ويراكم من معرفتنا، ومن أسلوب قراءتنا لواقعنا.
“الأزمة إنما تعود في أساسها لواقع الدولة المسلمة، وتشكيلاتها الاجتماعية والثقافية، والفقر، وتراجع التعليم وغياب حقوق المرأة وهيمنة العسكر على الحياة المدنية”
لكن على مقربة من هذه المقاربة الثقافية والمتفاوتة، بدا أن بعض الباحثين لم يعودا مقتنعين بهذه الإجابة، فالأزمة بالنسبة لهم لم تعد تتعلق بقدوم معاوية واستلامه الحكم، بل تعود لقضايا وإشكاليات معاصرة، من هنا بدت الإجابة عن أسباب تخلف العالم المسلم من خلال العودة للتراث أمرا غير مغر، كما في السابق، ولذلك نلاحظ مثلاً أن أطروحات الجابري وأدونيس وحسين مروة وعبد الإله بلقزيز، لم تعد تحتل مكانةً كبيرةً في مكتباتنا اليوم، مقارنةً بكتب روجر أوين، ونزيه الأيوبي وغيرها من الأسماء، التي ترى أن الأزمة إنما تعود في أساسها لواقع الدولة المسلمة، وتشكيلاتها الاجتماعية والثقافية، والفقر، وتراجع التعليم وغياب حقوق المرأة وهيمنة العسكر على الحياة المدنية.
ومع اقتراب الانتفاضات العربية، وانتكاساتها السريعة، كان الاهتمام بهذه المداخل يزداد في عالمنا العربي، ليطوي بشكل كبير حقبة صفحة نقاد التراث، إذ غدا الاهتمام بدراسة تاريخ الدول الحديثة وتشكيلاتها يتقدم على فهم وقراءة تاريخ الأمويين أو العباسيين، بيد أن ذلك لم يمنع البعض من أن يستخدم هذه الكتابات والمقاربات الجديدة، كمدخل لتكوين مقاربة ثقافوية مضادة شبيهة بمقاربة التراثيين، كما في مثال كتابات وائل حلاق وتلامذته ورواده، الذين أخذوا يلقون اللوم في فشل العالم المسلم على أفكار الحداثة السياسية.
ومؤخراً، في سياق هذا التفاعل الآخر حول أسباب فشل بلدان العالم المسلم، قامت دار ألكا بترجمة كتاب للباحثة الإيرانية في جامعة جورجتاون شيرين هنتر، بعنوان “التحديث في العالم المسلم” ترجمة فالح حسن، الذي، كما تذكر المؤلفة، جاء بمثابة تذكير للباحثين بأهمية وأولوية فهم يومنا الراهن كمدخل لفهم ما يحدث في العالم المسلم، ولأجل هذا يجهد هذا العمل لإنقاذ التاريخ من أيدي الخبراء الجدد ومؤرخي الإسلام.
وهنا لا تنفي الباحثة أن لدى مؤرخي الثقافة وبعض المستشرقين إجابات جزئية في الآراء التي طرحوها بشأن أسباب تخلف البلدان المسلمة، لكنهم مدعوون إلى عدم إهمال تنوع عملية التحديث، وعليهم أن يتذكروا أن التقاليد، ومن ضمنها الدينية، ما تزال قائمةً في المجتمعات الغربية.
تعتقد هنتر أن الحرب العالمية الثانية ساهمت في تقوية أجهزة الدولة على حساب المجتمع. علاوةً على ذلك، بدا أن العسكر في العالم المسلم قادر على التكيف مع بيئات العمل والاقتصاديات الجديدة، وقد شاركوا فيها فعلاً، ما ساعد على تغذية انعدام التوازن القائم حالياً في علاقة المجتمع بالدولة.
تعود بنا المؤلفة إلى كتابات عالم الإجتماع الألماني ماكس فيبر، الذي أوضح العلاقة بين الخصائص الثقافية والدينية بشكل خاص والتحديث، من خلال عزوه ظهور النظام الرأسمالي الحديث إلى الأخلاقية البروتستانتية بالصورة التي طورها كالفن. وحسب فيبر فالبروتستانتية هي وحدها التي أقصت السعي إلى السحر والشؤون الخارقة للطبقية، وهو الأمر الذي لا ينطبق على الإسلام كما يرى، لأن الدور الذي لعبته الثروة التي نشأت من غنائم الحرب، يتعارض تماماً مع الدور الذي لعبته الثروة في البروتستانتية. كما يرى فيبر أن الأديان الآسيوية الأخرى لم تكن أفضل بكثير، في ظل سيطرة التدين السحري على عقول الآسيويين.
وبالطبع فإن التحول الاقتصادي في المناطق غير البروتستانية في أوروبا، ولاحقاً في اليابان والأمم الآسيوية الشرقية الأخرى، أثبت أن الحتمية الدينية الثقافية، التي طرحها فيبر لا تجد تسويغاً لها، طالما أن التقاليد الدينية الأخرى قادرة على إتقان التفكير والفعل العقلانيين في مجالات مختلفة، ومن بينها الاقتصاد.
وفي موازاة هذه الرؤية، تلاحظ هنتر أن قسماً كبيراً من المثقفين المسلمين، طوروا مقاربةً شبيهةً بمقاربة فيبر من خلال التشديد على العوامل الثقافية بوصفها السبب الرئيس في انحطاط واقعهم، وتعتقد هذه الفئة أن الحل يكمن في القبول الكلي للنموذج الأوروبي في التحديث، ويتضمن ذلك العلمنة في المجال الاجتماعي والسياسي. وفي الثمانينيات، غدونا، كما ترى هنتر، أمام بزوغ شكل جديد من إطلاق الحريات والثقة بقوة السوق لحل المشكلات الاقتصادية.
كما برزت في هذه الأثناء اليابان بوصفها قوةً اقتصاديةً هائلةً، ونجح عدد من بلدان شرق آسيا والصين في التحديث، على الأقل على صعيد الأوضاع الاقتصادية، وعلى الرغم من أن فيبر وجد في الكونفوشوسية عقبةً في طريق التحديث، ظهر عدد من الأعمال في أوائل الثمانينات بأقلام علماء غربيين، مثل روي هوفهاينز نسب النجاح الاقتصادي لشرق آسيا إلى الكونفوشوسية. بينما لاحظ باحثون آخرون أن الإسلام يعد أقل تأكيداً على التراتبية، وأكثر تشديداً على دور القانون، وهي سمات تعد باعثةً على التحديث، مع ذلك، لم يحقق العالم المسلم النجاح نفسه الذي أحرزته بلدان آسيا الشرقية، وهو ما يعني أن هناك عوامل أخرى، لا بد أنها لعبت دوراً في تقرير الاختلاف بين تجارب شرق آسيا وتجارب المسلمين.
تفسيرات ما بعد ثقافوية
تعتقد هنتر أن الحرب العالمية الثانية ساهمت في تقوية أجهزة الدولة على حساب المجتمع. علاوةً على ذلك، بدا أن العسكر في العالم المسلم قادر على التكيف مع بيئات العمل والاقتصاديات الجديدة، وقد شاركوا فيها فعلاً، ما ساعد على تغذية انعدام التوازن القائم حالياً في علاقة المجتمع بالدولة. من ناحية أخرى لعبت شبكات العسكر، التي تعود بعضها إلى روابط إثنية أو طائفية، على خلق وتعزيز انشقاقات جديدة في مجتمعاتهم، بدلاً من دعم عملية الدمقرطة والانفتاح.
كما ترد المؤلفة أحد أسباب فشل هذا العالم إلى فترة الحرب الباردة، وتشجيع عدد من بلدان هذا العالم على تجريب النموذج الاشتراكي، وهذا ما أدى إلى سيطرة الدولة على الحياة اليومية، بدلاً من تطوير طبقة وسطى، غير تابعة للدولة.
كما تتناول المؤلفة أسباباً أخرى تتعلق بغياب المساواة بين الجنسين، وغياب القوانين، وتدهور العملية التعليمية، وردة فعل النخب المسلمة على المشروع الكولونيالي، الذي جاء في الغالب بقيادات كاريزماتية شعبوية، ومستبدة، والتي بسببها، وليس بسبب معاوية وأهل التراث، نخسر اليوم أرواحاً، وذكريات، وربما مستقبل أجيال عديدة.
محمد تركي الربيعو
كاتب وباحث سوري متخصص بالدراسات الأنثربولوجية.