النوستالجيا العثمانية كما يتعقّبها حقّان يافوز/ وسام سعادة
يعجّ عالمنا اليوم بأنماط وأشكال مختلفة من النوستالجيا السياسية والثقافية للأزمنة الإمبراطوريّة. في كتابه الصادر حديثاً بالإنكليزية، تحت عنوان «النوستالجيا للإمبراطورية. سياسات العثمانوية الجديدة» يتعقّب الباحث محمد حقان يافوز مسار تلك النزعة في تركيا، من الخمسينيات إلى اليوم.
يفرّق حقان على نحو منهجي بين النزعة «الحنينية» إلى الماضي العثماني في تركيا، وبين الدعوى السالفة إلى «الأمة العثمانية» في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، في أوساط النخب الإصلاحية ضمن السلطنة، يوم ترافقت المناداة بالدستور العثماني مع التوق إلى بناء مواطنية عثمانية متساوية وجامعة.
وإذا كان مشروع الأمة العثمانية تعرّض للتحويل والتحوير بعد تجميد السلطان عبد الحميد الثاني العمل بالدستور الوليد عام 1878، فإن ربط الجامعة العثمانية بالجامعة الإسلامية في العصر الحميدي ترافق مع التتريك المتنامي لهاتين الجامعتين، إلا أنّ الموت النهائي لمشروع «الأمة العثمانية» كان بنتيجة هزائم السلطنة في الحروب البلقانية 1912-1913، التي قلّصت ما بقي لها في البلقان من مساحة، هي التي نظرت إلى نفسها مطوّلاً على أنها إمبراطوريّة بلقانية بالدرجة الأولى، ونظرت إلى القسم البلقاني منها، أو الروميللي، على أنّه بمثابة القلب، وتعاملت مع بقية الأمصار على أنّها الأطراف، بدءاً من الأناضول، وامتداداً إلى سائر الولايات العربية.
بعد الحروب البلقانية، وارتفاع عدد «المهجّرين» أو بالتدليل الديني «المهاجرين» من مسلمي البلقان إلى الأناضول، بدأ العمل على إنتاج أمّة أخرى، وهو ما تأمن تاريخياً بهزيمة وانتصار، هزيمة الإمبراطورية العثمانية في الحرب الكبرى، وانتصار تركيا الحديثة في حرب الإستقلال. آثرت السردية الرسمية للجمهورية تكريس هذه الثنائية: الإمبراطورية انهزمت، لأنها كانت تعجّ بالعناصر الإنهزامية والمتأخرة، والجمهورية انتصرت، لأنّها أفلحت في القطيعة مع هذه العناصر.
تتأرجح أصناف النوستالجيا العثمانوية التي يتتبعها حقان يافوز في أجيال الجمهورية التركية، بين من يسترجع الماضي محاكاة له أو تحسّراً عليه، ويعي مع ذلك عدم القدرة على إرجاعه، وبين من يتعامل مع الماضي بذهنية «إرجاعية» تظلّمية له، وبالتالي استئنافية.
في الحالتين، فرض «التحسّر» على الماضي العثماني نفسه بالنتيجة، وما يظهر في ثنايا كتاب يافوز أنّ النخبة العلمانية الجمهورية ساهمت في ذلك، بحكم ضراوة القطيعة التي أصرّت عليها مع هذا الماضي العثماني. تمكنت هذه النخبة مع مصطفى كمال من تحطيم معاهدة سيفر التي كانت تعني تقطيع أوصال الأناضول نفسه، وفي مقابل الإمبراطورية البلقانية المفقودة، عملت هذه النخبة المتحدرة في معظمها من أصول بلقانية مهجّرة، على بناء كيانية أناضولية بامتياز. إلا أن النخبة نفسها التي حطّمت معاهدة سيفر، وتوصلت إلى الإقرار بالوحدة الترابية المركزية على كامل الأناضول في لوزان، عاشت مع ذلك عقدة اتفاقية سيفر، احساس مرهق بانعدام الأمان واحتمالات التفكك، والرغبة المحمومة في إبعاد أشباح الماضي ما قبل الجمهوريّ.
عاشت هذه النخبة تروما إخراجها من أوروبا، من البلقان، وعملت في نفس الوقت على بناء دولة أوروبية الطابع في آسيا الصغرى، في الأناضول. اعتبرت أن التركة العثمانية ـ الإسلامية هي التي تسببت بالقابلية للإستعمار، وبأنّ التعددية الإمبراطورية هي التي دفعت إلى التفكك التدريجي.
أدرك مصطفى كمال وسواه من البلقانيين أكثر من سواهم حجم الإضطهاد والتهجير الذي لقيه المسلمون في تلك المناطق، وجعلهم يلتجئون إلى الأناضول، لكنهم في نفس الوقت طلبوا من الجماعات المهجرة هذه أن تنسى، وبطلبهم هذا، على ما ينبهنا إليه حقان يافوز، كانت تحكم عليهم بدوام العيش في الذاكرة. عملت هذه النخبة العلمانية بدأب على فقدان الذاكرة الموجّه: النسيان في مواجهة ما ارتكبه العثمانيون والإتحاد والترقي، كما نسيان ما ارتكب بحق المسلمين في المقابل في القوقاز والأناضول. رأت النخبة العلمانية أنه ما لم تطمس هذه الذاكرة المرهقة المزدوجة فلن تستتب الحال للأمة القومية. أدت هذه النظرة بالنتيجة إلى تجذير الانقسام داخل الأمة: فقامت طائفة الدولة، الجماعة العلمانية، «الأتراك البيض» في مقابل «الأتراك السود» أي الجماعات التي ناقضت عملية التحديث الجمهوري القاسي وتعرّضت جراء ذلك للتهميش.
ما يظهره حقان يافوز أن هذه النوستالجيا للماضي العثماني، التي شكّلت مناسبة الذكرى المئوية الخامسة لفتح القسطنطينية عام 1953 محطة بارزة لها، عرفت إسهامات من مواقع أيديولوجية متباينة. التيار الأساسي لهذه النوستالجيا هو الذي اقتنع منذ الخمسينيات بأن المشروع الأتاتوركي لبناء الأمة ناقص، وأنّ استكماله يكون بالمصالحة مع الماضي العثماني، وأنّه اذا كانت الإمبراطورية اتخذت طابعاً قومياً متنامياً في ظل عبد الحميد وأكثر فأكثر مع تركيا الفتاة، فقد حان الوقت لتتحلى الجمهورية التركية بسمة عثمانية. بدأ ذلك بعمل المؤرخين في الخمسينيات والستينيات على إعادة تتريك التاريخ العثماني نفسه. بخلاف النظرة الأتاتوركية التي نظرت إلى الزمن العثماني كإغتراب قومي بالنسبة إلى الأتراك، شدّد قوميو الخمسينيات والستينيات مثل دوندار تاشير وايرول غونغور وعثمان سردنغشتي على الطابع التركي المديد للدولة العثمانية، وأنها من الصفحات المشرقة للعنصر التركي كما للحضارة الإسلامية على مرّ التاريخ.
وظهرت كذلك نزعة عثمانوية في اليسار، مثّلها الأديب والمفكر كامل طاهر، الذي نظر الى الماضي العثماني كتاريخ اجتماعي وليس كتاريخ بلاطي فحسب، واستنجد بمقولة ماركس حول «نمط الانتاج الآسيوي» ليظهر الدولة العثمانية كـ»دولة كرم» مهتمة بإطعام وحماية شعبها، وتعامل طاهر مع الدولة العثمانية على أنها المثال الحضاري للأناضوليين بالأساس، ورفض أن يراها استمرارية للامبراطورية البيزنطية «البلقانية أولا» أو استمرارية لأتراك آسيا الوسطى، سواء بسواء.
في مقابل النيوعثمانيتين القومية واليسارية، تنامت «النيوعثمانية الإسلامية» في كنف الصوفية النقشبندية، وبخاصة مع «سلطان الشعراء» نجيب فاضل قيصاكورك، الذي شدّد على أنّ الإسلام العثماني هو العصر الذهبي للحضارة الإسلامية. مثلما تصدّى قيصاكورك لنزعات التغريب والتأورب فإنّه سدّد سهام نقده لـ«اسلام المركزية العربية». لعب قيصاكورك دوراً محورياً في ردّ الإعتبار إلى عهد عبد الحميد الثاني، بحيث تحوّلت نزعته العثمانية إلى «نزعة نيوحميدية». النتيجة العملية لذلك هي الخروج من النوستالجيا الإسترجاعية للماضي، والدخول في نوستالجيا ارجاعية له: فالمطلوب استئناف عصر عبد الحميد الثاني. وهذا ما سيلاحظ بشكل أساسي عند «حزب العدالة والتنمية» ورجب طيب أردوغان.
يعمل حقان يافوز مناقضة متواصلة على امتداد الكتاب بين نيوعثمانيتين رسميتين: واحدة مثلها الرئيس التركي الأسبق تورغوت أوزال، وتلك التي تجد تعبيرها الأمضى في ظاهرة رجب طيب أردوغان.
فـ»الأوزالية» نشأت كنزعة معتدلة، في نطاق إدراك معالم مرحلة ما بعد الحرب الباردة، ونظرت إلى التركة العثمانية على أنها قابلة للتكامل مع اللبرلة، وقابلة للاستثمار لتوسعة الدور التركي، الاقتصادي والسياسي، في دوائر جيوثقافية مختلفة: آسيا الوسطى، البلقان، الشرق الأوسط. تتضمن هذه النظرة نقداً ضمنياً لخسارة تركيا موقعها المحوري في زمن الحرب الباردة، وحاجتها إلى استعادة تلك المحورية. جمع تورغوت أوزال بين الدفاع عن حرية الإسلام في الفضاء العام، وبين عدم بناء السياسات أو سن القوانين على أساس معايير الهوية الدينية. في نفس الوقت تعامل أوزال مع الحضارة الحديثة على أنها حضارة كونية واحدة، هذا في وقت سنجد داود أوغلو يشدد على اختلاف الأنظمة المعرفية والقيمية بين الغرب والشرق.
يرى حقان يفوز أن موجة الاضطهاد التي تعرّض لها مسلمو البلقان مع نهاية الحرب الباردة، بدءاً من تهجير أربعمئة ألف من مسلمي بلغاريا عام 1989، ووصولاً الى التطهير العرقي في البوسنة وكوسوفو، هي التي دفعت إلى نزعة نيوعثمانية أكثر تصلّباً، وأن استبعاد الإتحاد الأوروبي لحق تركيا في الإنضمام اليه زاد من هذا التصلّب، مثلما يذهب إلى أن الطريقة التي جرت فيها الإطاحة بمحمد مرسي في مصر عام 2013، عزّزت لدى رجب طيب أردوغان من قوة استحضار نموذج عبد الحميد الثاني ومؤامرة الإنقلاب عليه، وإكثار التظلّم لعبد الحميد، هذا التظلّم الذي بات سمة بارزة للنيوعثمانية الأردوغانية وجعلها تشدّد على «الرابطة السنيّة» كذلك الأمر، دون أن تخرج الأردوغانية من محدّدات الجمهورية الكمالية بالكامل، وفي طليعتها دوام «عقدة سيفر» القلق المستدام من تفكك النسيج القومي للمجتمع والدولة في تركيا، والتشدّد على هذا الصعيد، لا سيما حيال المسألة الكردية. النيوعثمانية الرائجة حالياً نزعة قومية دينية. بالتوازي، يظهر حقان يافوز النيوعثمانية المعاصرة على أنها حيوية عند مسلمي البلقان اليوم، مثلما أن الفوبيا من العثمانيين حاضرة بقوة عند النخب القومية للأمم المسيحية في البلقان، التي تكثر من خطابية مواجهة «الإمبريالية التركية» وتحاصر المؤرخين الذين يحاولون أن لا يختزلوا تاريخ هذه الأمم في ظل العثمانيين الى متلازمة الاضطهاد المتواصل ليس إلا.
كاتب لبناني
القدس العربي