المثقف الأيقوني: عبدالرحمن الكواكبي
================================
هذا الملف تحت عنوان “المثقف الأيقوني” ويحتفي بالمفكر الإصلاحي عبدالرحمن الكواكبي بمناسبة مرور 120 عاما على تأليف كتابه الأشهر “طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد”.
—————————
الاستبداد المستحدث: ثقافة التضييع ومهاوي التمييع، مباصرة في النظرية الكواكبية
مشروع فلسفي كبير كرّس عبدالرحمن الكواكبي حياته كلها له، فأنجزه أطروحةً فكريةً تقبض على المسببات وتضع المحصلات في موضوع “الاستبداد” الذي وصفه بالداء وحدد طبائعه المرضية ومصارعه التطبعية الاستعبادية، ورسم لأبعاده الخفية والجلية تصورات على وفق مفاهيم هي بمثابة علاجات ناجعة وشمولية على مختلف صعد الحياة الدينية والسياسية والتربوية والاجتماعية.
فلم يرتهن الكواكبي في تنظيره لأطروحة الاستبداد بمقتضيات تحصر نطاق هذا الداء بالعصر الذي عاشه وتقصره على النظام السياسي والاجتماعي الذي كان سائدا آنذاك؛ بل تعامل معه مفهوما عاما وداء مستعصيا لا خلاص لأيّ جيل أو مرحلة من آفات علله. وهو ما يصيِّر أطروحته عالمية، ويجعل شخصيته فلسفية تجتمع فيها صفات المفكر السياسي والمصلح الديني والناقد الاجتماعي والشيخ الداعي والقائد التربوي والمثقف الشمولي.
فكيف نظَّر الكواكبي لأطروحة الاستبداد؟ وأيّ استبداد قصد؟ ومتى عرف الإنسان الاستبداد؟ وهل كان تنظير الكواكبي للاستبداد آنيا مرهونا بمتغيرات مرحلة زمانية سياسية واقتصادية وجغرافية؟ وهل يوّرث الاستبداد ولماذا نظر له الكواكبي نظرة نسليّة بوصفه يبيض ويفرّخ؟ وإذا كان كذلك فيا ترى ما الذي تفرّخ عن الاستبداد في زماننا؟ وإذا كان للاستبداد لبوسه في كل زمان ومكان؛ فما شكل الاستبداد في عصرنا اليوم؟ وما الذي استبد ببعض قراء الكواكبي المثقفين فصاروا إسقاطيين يتصيدون وهم متطبعون بالطغيان والإجحاف؟ ولو كان الكواكبي بيننا فماذا سيقول وهو يجد فكره يقرأ قراءات ناقصة ومتشجنة تهتم بالقشر وتنبذ اللب، تتعلق بأطراف الأذيال وتترك القمم والهامات متغاضية عن الكل والأصل متمسكة بالجزء والفرع؟
إن الإلمام بأطروحة الكواكبي الفلسفية والإحاطة بحقيقة مشروعه في دراسة الاستبداد كطبائع ومصارع يقتضيان تحديد الإطار النظري الذي كان قد بدأ بكتاب “أم القرى” وفيه وضع الكواكبي قواعد انتشال الأمة من التأخر.
وليس الكتاب مجرد تأليف ارتأى الكواكبي تدوينه؛ بل هو تسجيل توثيقي لوقائع مؤتمر سرّي جرى عقده في نهايات القرن التاسع عشر في أحد البيوتات بمكة المكرمة قبيل موسم الحج وبعيدا عن أنظار السلطات العثمانية. وحضره مندوبون من مختلف بلدان العالم الإسلامي في المشرق والمغرب. وكان هدفهم إنشاء “جمعية النهضة الإسلامية” وسميت بـ”أمّ القرى”. وقد أدى الكواكبي دور المنسق المقرر والمحاور البارع الحاض على تجاوز الاختلافات المذهبية ونبذ التخالف والعمل على التقارب.
ولأهمية هذا المؤتمر وسريته قام الكواكبي فيما بعد بتوثيق يومياته، مقدما للكتاب بخطبة وجهها إلى أهل التبصر من أبناء الأمة، مستنهضا فيهم الهمم، مبتغيا منهم أن ينفضوا عنهم سباتهم الذي جعل الشلل يستولي على كل أطراف جسم الأمة الإسلامية (ينظر: أم القرى، السيد الفراتي عبدالرحمن الكواكبي، المطبعة المصرية بالأزهر، القاهرة، 1931، ص 9) وأكد الكواكبي أهمية الأخلاق والعلم مقدما الأولى على الثاني فإذا كانت مدة حضانة العلم عشرين عاما فإن مدة حضانة الأخلاق أربعون سنة (ينظر: المصدر السابق، ص 14).
ثم ألف الكواكبي كتابه “طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد” وفيه أكمل تشييد البنية الاستراتيجية لنظرية الاستبداد بالاستناد على القاعدة التي أسسها كتابه “أم القرى”، ولم يكن هذا التشييد بالأمر الهيّن، بل هو خلاصة لعناء عمل طويل تعدى الثلاثين عاما من البحث والنظر والتشخيص ليقف على الغرض وهو تشخيص أصل الداء الذي وجده يتمثل في الاستبداد السياسي الذي هو “أشد وطأة من الوباء، أكثر هولا من الحريق، أعظم تخريبا من السيل، أذل للنفوس من السؤال.. الاستبداد عهد، أشقى الناس فيه العقلاء والأغنياء” (طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد، عبدالرحمن الكواكبي، تقديم أسعد السحمراني، طبعة كاملة ومنقحة، دار النفائس، بيروت، ط3، 2006، ص 105).
وما يجعل هذا العمل أطروحة فكرية هو لا محدودية نظر الكواكبي للاستبداد كاستراتيجية كليانية، لا تُعنى بحاضر آني ولا ترتهن بماض منته، غير قاصدة حكومة معينة ولا مخصوصة في شخص أو سلطان. وهذه الكليانية هي مطلب مهم من مطالب أيّ مشروع فلسفي رسالي، وهي واضحة في قول الكواكبي “أنا لا أقصد في مباحثي ظالما ولا حكومة أو أمة مخصصة إنما أردت بيان طبائع الاستبداد وما يفعل وتشخيص مصارع الاستعباد.. ولي هناك قصد آخر هو التنبيه لمورد الداء الدفين عسى أن يعرف الذين قضوا نحبهم أنهم هم المتسببون لما حل بهم فلا يعتبون على الأغيار ولا على الأقدار إنما يعتبون على الجهل وفقد الهمم والتواكل وعسى الذين فيهم نبيه ومؤمن بالحياة يستدركون شأنهم قبل الممات” (المصدر السابق، ص 31).
ولوعي الكواكبي بهول الاستبداد وآفاته حدد أولا الحقل العلمي الذي يشتغل فيه وهو السياسة، مبينا أنْ إذا كانت السياسة هي التصرف في الشؤون المشتركة بمقتضى الحكمة؛ فإن الاستبداد هو التصرف في الشؤون المشتركة بمقتضى الهوى وأكد ثانيا أن سعة البحث في الاستبداد تجعل الإحاطة به غير ممكنة (ينظر: المصدر السابق، ص31، 34).
وكان للنظر الطويل والتفكر العميق في أحوال الدين والدنيا دور مهم في ما وقف عليه الكواكبي من صور الاعتساف وأسرار غياب الانتصاف في الحياة، ولماذا القوي يستعبد الضعيف وكيف أن جهالة الأمة والجنود المنظمة هما أهم معائب الإنسانية وأكبر مصائب الأمم التي بها تصبح حكومة الفرد الواحد مستبدة وخطرة لا تنفع معها مقاومة ولا يمكن استرداد حق منها. وبسبب ما تقدم يكون البدو وحدهم الناجين من نير الاستبداد لاستقلاليتهم عن أيّ حكومة.
وقد أفاض الكواكبي في تحديد أنواع الاستبداد فوجد أقبحها هو الجهل على العلم واستبداد النفس على العقل. ولأن الاستبداد يبيض ويفرّخ، تتعاظم آفاته التي بها تتفرق الأمة لاسيما حين تكون للمستبد ألوهية وصفة قدسية تعينه على ظلم الناس باسم الله ومن الأمثلة على ذلك الجبابرة نمرود وفرعون. ثم مثّل الكواكبي على تاريخية الاستبداد؛ فبدأ باليونان الذين أحيوا عقيدة الاشتراك في الألوهية التي أخذوها عن الأشوريين ومزجوها بأساطير المصريين فكانوا أول من سلك مسلك الإصلاح السياسي عن طريق الإصلاح الديني متمكنين من إقامة جمهوريات أثينا وإسبارطة وتبعهم في ذلك الرومان. وإذا كان الطراز السياسي للحكم هو الطراز النبوي المحمدي المتمثل بالشورى؛ فإن بعض أمم الغرب اهتدت إليه مستفيدة من الإسلام أكثر مما استفاده المسلمون.
والنظر الموضوعي الذي تمتع به الكواكبي جعله يقف على أسباب تحكم الاستبداد بحياة المسلمين؛ بيد أن بعض أفكاره تبدو أميل إلى الاصلاح منه إلى الفلسفة مثل حديثه عن أسباب الإهمال وكثرة التفريع والتوسيع في الدين، ولوم النفس والتقصير المطلق وتقليد رجال الكهنوت والبراهمة والبدع التي شوشت الإيمان وشوهت الأديان وأوصلت الناس إلى الاستعباد (ينظر: المصدر السابق، ص47، 60).
ولا يتوانى الكواكبي في تشخيصه لداء الاستبداد من تأكيد أهمية العلم في طرد الجهل والغباوة والخوف، فـ”العلم قبسة من نور الله بها ترتعد فرائص المستبد” (المصدر السابق ، ص 66)، بينما تقوى شكيمة المستبد بأمرين: الأول هم العوام الذين إذا جهلوا خاضوا وإذا خاضوا استسلموا، وهم قوة المستبد، عليهم يصول ويطول. والأمر الثاني المتمجدون الذين يؤلهون المستبد فيكونون سماسرته في تغرير الأمة بدعوى خدمة الدين أو باسم الوطن والأصالة والانتساب (ينظر: المصدر السابق، ص67، 78).
ولأن الكواكبي نظر للاستبداد كأطروحة وليس كبرنامج إصلاح نجد تشخيصاته الفكرية منطبقة على كل الأزمنة بشمولية حيث آفات الاستبداد شاملة للمال والأخلاق والتربية والترقي والوظائف والصنائع والقانون، يقول الكواكبي “إن الحكومة المستبدة تكون طبعا مستبدة في كل فروعها من المستبد الأعظم إلى الشرطي إلى الفراش إلى كناس الشوارع” (المصدر السابق، ص83).
وأن من العوامل التي تحمل العوام على الثورة ضد المستبد هي الأحوال المخصوصة المهيجة والفورية كمشهد دموي مؤلم/حرب مغلوبة/إهانة الدين/تضييق ومقاضاة/مجاعة أو مصيبة/التعرض للأزمات… الخ. ويجد الكواكبي أن المخرج من الاستبداد هو بثلاث قواعد:
ننن
1 – الأمة التي لا تشعر بالاستبداد لا تستحق الحرية.
2 – الاستبداد لا يقاوم بالشدة وإنما يقاوم باللين والتدرج.
3 – لا بد قبل مقاومة الاستبداد من تهيئة ما يستبدل به الاستبداد.
بهذا يكون كتاب “طبائع الاستبداد” درسا فكريا وأطروحة عملية في الثورة على الظالم فردا كان أو حكومة. وهذه هي سمة المثقف الشمولي والعضوي، يقول إدوارد سعيد “المثقف دائما ما يتاح له الاختيار التالي: إما أن ينحاز إلى صفوف الضعفاء والأقل تمثيلا في المجتمع ومن يعانون من النسيان أو التجاهل وإما أن ينحاز إلى صفوف الأقوياء” (المصدر السابق، ص72، 73).
الاستبداد المستحدث ثقافياً
من الطبيعي أن نتساءل بعد أكثر من مئة وعشرين عاما على وضع نظرية “الاستبداد” عن أثر فكر عبدالرحمن الكواكبي التنويري على الأنتلجنسيا العربية؟ والطريقة التي بها تعامل مثقفو القرن العشرين مع نظريته؟ هل استطاعوا البناء عليها؟ ولماذا نجد أفكار الكواكبي قبل أكثر من قرن منطبقة على حالنا اليوم؟ أ لأن الاستبداد كما وصفه داء مستعص لا يسلم منه عصر ولا جيل أم لأن عوامنا هم كمثقفينا طالهم التمجد ونسوا التحرر؟ وما الذي يحول دون أن تكون النظرية الكواكبية مدرسة فكرية لها مريدوها؟ أهو جمودها الفكري وصعوبتها التطبيقية أم أن السبب هو نحن الذين فينا أصل الداء؟
لننطلق في الإجابة عمّا تقدم من آخر تساؤل نقول إن في الذات العربية بما فيها الذات المثقفة استبداد خفي وعليها يبدو استعباد وتذلل ظاهري والمفارقة أنه متى ما صارت لها قوة أو سلطة انعكس الأمر فصار الاستبداد بادياً عليها ظاهريا وغدا الاستعباد والتذلل خفيا كتبعة استعمارية وعقدة نفسية بها تزدوج ذواتنا إسقاطاً وتعالياً.
وفي الغالب لا تظهر استبدادية المثقف إلا وهو مدعوم بمنصب حكومي أو موقع سيادي أو موال لمنظومة ما أو كيان رسمي سياسي أو مادي. أما المثقف الذي هو بلا انتماء ولا ولاء ولا دعم فمستبعد ومستعبد لا يملك الإمكانيات التي بها ينافس مثقف السلطة وحتى لو امتلك الإمكانيات فلن يكون مؤثرا في العوام الذين هم تحت رحمة السلطة وطوع بنانها على وفق الازدواجية التي ذكرناها.
فكيف بعد الدعم وإعلان الولاء يمكن لمثقف السلطة أن يكون واقفا من أطروحة الاستبداد موقفا محايدا، والأطروحة تنطبق أول ما تنطبق على الذين يدعمونه ويمنحونه القوة والإمكانية؟
هذا بالضبط ما حصل مع بعض المثقفين الذين تناولوا فكر الكواكبي، فكانوا أول المستبِدين بمُنظّر الاستبداد عبدالرحمن الكواكبي؛ إما بتجزئة فكره أو بتحجيم أطروحته أو بالانشغال بشخصيته تحرجا من الخوض في فكره، متعاملين معه مصلحا اجتماعيا علمانيا يفصل الديني عن السياسي أو واصفين إياه مجرد ناقد داعية يتقوقع على مسلمات الدين. فهل بعد هذه الطبائع من استبداد شخَّصه الكواكبي ولم يدر أنه سيكون مصروعاً به ذات يوم.
وإذا كان للاستبداد أن يبيض ويفرّخ؛ فإن في الثقافة نوعاً من الاستبداد سنسميه “الاستبداد المستحدث” وفيه يكون المستبِد في الأصل مستعبَدا لوجهة بعينها أو لمنظور معين، فلا يهمه إن هو زيّف التاريخ أو شوّه رموز الأمة وأعلامها. ولن يسعنا في هذه الورقة المقتضبة إلا أن نمثل بنموذجين نقديين لهذا الصنف من الاستبداد الأول هو عباس محمود العقاد والثاني علي حرب. فأما العقاد فتمثل استبداده المستحدث ثقافيا في مسألتين:
الأولى: أنه نسف أطروحة الكواكبي من الأساس حين عد المؤتمر السري الذي تناوله الكواكبي في كتابه “أم القرى” مجرد تخييل أدبي، فرغ من كتابته في بلدته حلب قبل هجرته منها (عبدالرحمن الكواكبي، عباس محمود العقاد، مؤسسة هنداوي للتعليم والنشر، القاهرة، 2013، ص 82).
وفيه ألقى الكواكبي على لسان كل مندوب من مندوبي العالم الإسلامي خطابا معتمدا طريقة الحكاية وليس النقل والرواية (ينظر: المصدر السابق، ص 76).
ولم تكن للعقاد من حجج بها يثبت صحة دعواه سوى روايات نقلها عن حفيد الكواكبي وأخرى ذكرها صديق من أصدقاء الكواكبي. وهذا الادعاء مردود للأسباب الآتية:
1- لو كان المؤتمر متخيلا بالفعل؛ لكان الكواكبي مدلساً وكاذباً لا لأنه لم يقدم نفسه لقرائه أديبا أو قاصا وحسب؛ بل لأنه المعلم صاحب الرسالة والقائد المعروف بالصدق والنزاهة والجرأة والشجاعة فكيف بعد ذلك يكذب على قرائه ولا يكاشفهم بحقيقة الأمر؟
وهو الذي واجه الأهوال والمحن التي اعترضت حياته مصمما على مواصلة السير متحديا كل الصعاب متخذا من الترحال طريقا به يطارد الحقيقة مبتعدا عن الانحطاط باحثا عن الحرية حتى سمّى نفسه “الرحالة ك” مهاجرا من دياره سارحا في بلاد الشرق حتى انتهى به المطاف بمصر مركزا يغتنم ما فيه من عهد الحرية.
2- اعتماد الكواكبي على الرموز في تسجيل المحاضر في الكتاب واستعمال أسلوب النثر التوثيقي فطبيعي أولا لسرية المؤتمر وثانيا لمقصدية الأرشفة لوجه التاريخ.
3- ما ذكره عن ذكاء الكواكبي وموهبته اللذين مكناه في كتابة مباحث يعبر فيها عن تجربة شخصية يستوحيها من مكانه وزمانه؛ كان مجرد ظن وتخمين لا أكثر وكان بإمكان العقاد أن يخمن مثلا قدوم الكواكبي للحجاز في موسم الحج وإفادته منه في عقد اجتماع يجمع فيه علماء الأمة على أمر فيه صالحها.
ثانيا: أن العقاد تغافل عن مسألة السرية والتكتم التي أكدها الكواكبي في كتابه وانشغل عنها بالتركيز لا على الأسلوب الأدبي بل أيضا بالتغاضي عن الأطروحة التي هي محور المؤتمر والمتمثلة بالداء الذي سببه التهاون في الدين واختلاف الآراء والجهل والفتور الذي لازم المسلمين قرونا حتى توهم كثير من الحكماء أن الإسلام والنظام لا يجتمعان (ينظر: المصدر السابق، ص19، 20).
ثالثا: الانشغال غير المبرر بالتشابه بين الكواكبي والايطالي ألفييري صاحب كتاب “ما هو الاستبداد” من ناحية السيرة والمنزع وظروف الحياة متتبعا التشابه في رؤوس الموضوعات بينهما (المصدر السابق، ص92، 93).
وبالرغم من أن العقاد نفسه يعترف أن منهج الكواكبي ينطبق على حياتنا الشرقية والتعمق في أحوالها؛ فإنه يعلق على سؤال أحمد أمين كيف وصلت الرسالة الإيطالية إلى علمه تعليقا متحاملا هو صورة واضحة للاستبداد المستحدث “وهو سؤال لا جواب له غير الحيرة أن لم تكن للكواكبي وسيلة أخرى للعلم بألفييري غير العلم بلغته إلا أن هذه الشهرة لا تُستغرب مع كثرة الإيطاليين في حلب ورغبة الكواكبي في الاستفادة من معلومات أصحابه الأوروبيين المثقفين وهو كثير الاتصال بهم” (المصدر السابق، ص 93).
رابعا: لا يرى العقاد الكواكبي صاحب مذهب فلسفي والسبب برأيه أنه كان مصلحا دينيا ولم يكن في أبحاثه وتنظيراته مطلق التفكير غير محدد بزمان ومكان. وهذا التعليل مردود بما كان يمارسه أرسطو نفسه في تصوراته النظرية لمسائل فيزيقية وميتافيزيقية جامعا بين الموقف النظري والموقف التقني العملي فضلا عن مقصدية العقاد في التغافل عن مناقشة الاستبداد بالحديث عما يضاده. ولذا تكررت عنده عبارات “الحكومة الصالحة/قادة الأمة/علامات الحكومة الصالحة التي يتعذر عليها الاستبداد/النظام الصالح/السلف الصالح/صور الحكم حسنة ونافعة” مما لم يطرقه الكواكبي بتاتا.
ولو كان الكواكبي مجرد مصلح لما اتخذ من الكتابة مشروعا ولما تطبع بالترحال منهاجا ولما تصارع مع دياجير الواقع الجامد والمتحجر بأنوار الفكر الواعي بالعالم الموضوعي مواصلا العمل عاما بعد عام منتقلا من بلدة إلى أخرى حتى أتم أطروحة الاستبداد بعد عناء بحث دام ثلاثين عاما، اختمرت خلالها مباحث الداء وأصل الدواء ممثلا بكتابه “طبائع الاستبداد” وتحصيلها الحاصل “مصارع الاستعباد”.
ومما تقدم يتضح أن الاستبداد المستحدث تمثل في ترجمة العقاد لسيرة الكواكبي كمصلح ديني وليس مفكرا صاحب نظرية، مركزا على أدبية الأسلوب فحسب، صارفا أنظار القراء عن فلسفية المشروع الكواكبي.
وإذا كان العقاد قد حجّم الكواكبي في صورة المصلح الديني، فإن علي حرب ـ المثقف الثاني الذي به نمثل على الاستبداد المستحدث ـ كان قد حجّم فكر الكوكبي في صورة الشيخ الداعية من خلال:
أولا: التعتيم على أطروحة الاستبداد بالبحث في تاريخيته أولا وبتجزئته ثانيا وبالتفريق ثالثا بين الكواكبي المفكر المتنور والكواكبي الشيخ الداعية.
ثانيا: الاستعاضة عن البحث في نظرية الاستبداد بالبحث في حرية الكواكبي متوصلا إلى أن لا حرية فكرية عند الكواكبي الذي يسائل ويجادل وهو واقع أسير مسلمات عقائدية حتى أوصلته عقليته الأصولية الفقهية، كما يرى حرب، إلى “الوقوع في التكرار والخواء أو مسخ مآثر الماضين وأعمالهم أو الخروج عليها وادعاء التطابق معها أو السطو على منجزات الغربيين ونسبتها إلى الإسلام” (هكذا أقرأ ما بعد التفكيك، علي حرب، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، ط1، 2005، ص 78). والمتحصل أن الكواكبي شيخ أوقعه دفاعه وتبريره لمرجعيته الدينية في فخ الاستبداد.
وحجة علي حرب في التحصيل أعلاه هو منهجيته التي تقوم على “مضاعفة نص الكواكبي بالتأويل والخرق والتجاوز” متصورا أنه بهذه المنهجية يمارس دور الناقد الديني التفكيكي وهو الذي لم يمثل بنص ديني واحد للكواكبي يؤكد فيه صدق دعواه.
والمفارقة الأدهى أن هذا التحصيل الذي لا يليق بمفكر تقام لفكره مئوية احتفائية من جهة ومن جهة أخرى يستبد بفكره استبدادا مستحدثا حتى استكثر عليه حرب كما استكثر العقاد قبله وصفه بالفيلسوف أو المفكر.
ويبدو أن للاستظلال تحت غطاء دعوة رسمية أو سلطة مجتمعية دورا في جعل المثقف متعملقا، لا تجري على لسانه سوى أوصاف “التسليم والأصولية والتكرار والخواء والمسخ والسطو”.
والسؤال لماذا تجاهل علي حرب فكرة الاستبداد نفسها ولم يناقشها؟ وكيف يكون الكواكبي خاضعا للأصول والفقه وهو الذي أرهقه وأقضّ مضجعه التفكير في الاستبداد حتى وضع يده على عيوب الحكومات التي تتخذ من تأليه الآحاد ستارا به تستعبد العوام فاستنهض الهمم منورا العقول، وهو القائل “إن المستبِد فرد عاجز لا حول له ولا قوة إلا بالمتمجدين”، وإن “الأمة ليس لها من يحك جلدها غير ظفرها ولا يقودها إلا العقلاء بالتنوير والاهتداء والثبات” (المصدر السابق، ص 88)، وإن “المستبد.. خائن خائف محتاج لعصابة.. فهو ووزراؤه كزمرة لصوص” (المصدر السابق، ص 84).
لا شك في أن تضييع فكرة الاستبداد وتمييعها أمر متحصل للذين يريدون “أن نصنع ما لم يصنع/نعالج الاستبداد بطريقة مختلفة/كل منا يستبد بقدر ما تستبد به رغباته ونزواته”/أن نتناول الاستبداد من حيث جذوره ومصادره/ يفكر وفي عقله الباطن مشروع مستبد، شبح مستبد غيبي أو بشري” ( ينظر: المصدر السابق، ص78، 79).
والنتيجة عدم البناء على نظرية الاستبداد بما هو موجود في واقعنا الراهن من حاكمية مقيتة وشلل قدرات وتخلف وتراجع وإنما الانشغال بتتبع شواهد ذكرها الكواكبي تتعلق باليونان وفكرة التشريك وعصر الراشدين والحكومة المثالية مع تحاشي الخوض في سياقاتها بحسب ورودها في كتاب “طبائع الاستبداد”، وفي هذا تأكيد للاّرغبة في التصادم المباشر مع أطروحة الاستبداد نفسها التي ميّعها علي حرب وضيّعها مجزئا أبعادها. وقصده إثبات تراجع الكواكبي عن استقلاليته وأنه كان متصرفا بعقلية التسليم ليصل إلى المراد وهو النرجسية الثقافية المتمثلة “بانزلاقه” مشتغلا كداعية همه الدفاع عن إعجاز القران (ينظر: المصدر السابق، ص78، 84).
فلماذا عدّ حرب الدفاع عن الإسلام أصولية، والإسلام “قبل كل شيء دين وثقافة وكل من هذين مركّب من عدة عناصر وأبعد ما يكون عن الكيان الصخري الجامد” (المثقف والسلطة، إدوارد سعيد، ترجمة محمد عناني، رؤية للنشر والتوزيع، القاهرة، ط1 ،2006، ص81، 82).
وعلى أيّ أساس استند حرب في القول إن “المنطق الاصطفائي الإقصائي الاستبدادي” حمل الكواكبي “على الاعتقاد بأنه وحده من دون سواه يقبض على الحقيقة أو يملك مفاتيح الإيمان.. على هذا المستوى لا يأتي الاستبداد من الخارج بل ينبع من الداخل” (هكذا أقرأ ما بعد التفكيك، ص 82).
وكان حريّا بالناقد أن يناقش موضوعة الاستبداد نفسها ليتوصل إلى محصلات أكثر دقة ومقبولية، وأن يتحرى الأسئلة التي بها يقف على تجاوب طبائع الاستبداد مع المتغيرات الحياتية وهل تتبدل صورها؟ وما أمداؤها وتفرعاتها؟ وهل يمكننا ـ كما يقول هابرماس ـ “أن نتابع فهم أنفسنا كما لو كنا من يكتب.. وأن نعترف بأنفسنا أشخاصا يعملون بطريقة مستقلة” (مستقبل الطبيعة الإنسانية، يورغين هابرماس، المكتبة الشرقية، ترجمة جورج كتورة، بيروت، ط1، 2006، ص 35).
وإذا كان حرب قد اعتبر الكواكبي واقعا بين فكي كماشة عقائدية؛ فإن في ذلك إسقاطا نفسيا لحقيقة وقوعه هو بين فكي كماشة الاستبداد المستحدث متعاليا ثقافيا على القارئ ومتحاملا نقديا على المقروء.
وشتان ما بين التفكيك والتغافل كمأزق قرائي يوصل المثقف إلى الاستبداد المستحدث الذي به يكمل افتقاده إلى مرجعيات لو توفرت لكان موضوعيا، ثم أن التفكيك ليس هو الحرية السائبة والتهويمات القرائية، بها يستبد القارئ بالمقروء ناقما عليه بلا مرجعيات، بها يستنير متحريا الدقة بعيدا عن الازدواج والنرجسية.
وإذا ألحقنا بالعقاد وحرب نقادا ومثقفين آخرين استبدوا بفكر الكواكبي؛ فان المتحصل أننا أمام فيلسوف ومفكر سياسي جنت أطروحة الاستبداد عليه قبل غيره.
وما استبداد المثقفين السلطويين به سوى دليل مؤكد على صحة الأطروحة الكواكبية وأن الاستبداد يبيض ويفرّخ ليكون استبدادات بأنواع شتى.
وكان القرن العشرون قد شهد أشكالا شتى من الاستبداد، أما قرننا الحالي بعقديه الأولين فإنه يشهد صورا جديدة مستحدثة من الاستبداد. فالاستبداد الذي كان بالأمس البعيد ذا صور مقرونة بالحاكم وزبانيته أو محددة في الاستعمار وقوته أو مرهونة بالأنظمة السياسية دكتاتورية كانت أم ديمقراطية. هذا الاستبداد صار اليوم يتجلى بصورة مستحدثة ثقافية يمثلها المثقف السلطوي النخبوي الأحادي ناهيك عن صور أخرى تتجلى في الشعوب نفسها وكذلك الحكومات المتخاذلة والرجعية وأكبر صور الاستبداد وأوسعها يمثلها الاستبداد العالمي الإمبريالي. ولعل نواعم القوة السبرانية ستجعل البشرية قطعانا مستعبدة لربوتات التكنولوجيا الفائقة.
دلائل الاستبداد المستحدث
لا شك في أن ممارسة المثقف السلطوي العربي لهذه الصورة من الاستبداد تحتمي بسجف المنظومة الثقافية الرسمية التي تبارك هذا التوجه وتدعمه. وهكذا تضيع الأنتلجنسيا العربية وتتميع أهدافها واستراتيجياتها وتتهاوى مع القطعانية أو القطائعية العوامية بوجود آحاد المثقفين النخبويين السلطويين. وهو ما يحصل اليوم للأسف في مشهدنا الثقافي العربي، ومن دلائل ذلك التضييع ما يأتي:
– القبول بالتبعية والتسليم للضعف وعدم استنهاض الإرادة الحرة في امتلاك الحق بالكرامة الإنسانية.
– المثقف الاستبدادي عبد للمركز والسلطة، يستظل بظلهما متبركا بهما لا غيرهما .
– المثقف الاستبدادي عادة ما يكون غاشما نخبويا متسلطا تهويما حالما ناقما على ما هو مستجد وحديث واقعا في مأزق الصنمية الفكرية.
– المثقف الاستبدادي يتحرج دوما من الخوض في موضوعات تمس أول ما تمس المنظومة أو المؤسسة أو الكيان الذي يستظل بظله.
– التعملق بعقلية مؤدلجة وتهويمية لاسيما على عمالقة الفكر العربي أصحاب المشاريع الريادية والنظريات الانقلابية.
– الحداثة والاستنارة علما وفلسفة ليست في أولويات المثقف السلطوي لا لخلو فكره من أي مشروع ثقافي حسب؛ بل لأن أخاه المثقف هو الأولوية التي عليه استبدادها ومناهضتها.
– استئثار المثقف الاستبدادي بالمنابر والهيمنة على المؤتمرات عوائق تحول دون أن يمارس المثقفون غير السلطويين أدوارهم الفكرية التي تتعثر وهي لا تجد طريقها للتعريف والإعلام والترويج.
– عرقلة إنتاج المعرفة عندنا هو أحد مبتغيات المثقف الاستبدادي أولا بنرجسية تكتله ونخبويته وثانيا بهواجس الولاء لجهة راعية تستخذله وتستعبده.
– الاصطفائية سمة الثقافة الاستبدادية التي تقف حجر عثرة أمام الاندماج والتعايش حائلة دون التحاور والتنوع والتفاعل، مشرذمة أي مشروع يراد له أن يتكامل.
– التسقيط الثقافي قربان أي استبداد مستحدث يجد النظام السياسي الذي يستظل بظله محارّبا بالثقافة ومرفوضا من قبل الأنتلجنسيا.
– مناهضة الطبيعة الإنسانية تجعل المثقف الاستبدادي باردا فكريا وهو يرى الواقع الاجتماعي منقسما إلى حكام ومحكومين.
– مكافحة الذاكرة هي أحد العناصر المهيمنة في الاستبداد المستحدث (ينظر: الأصنام الذهبية والذاكرة الأزلية، داريوش شايغان، ترجمة حيدر نجف، دار الهادي للطباعة والنشر، بيروت، ط1، 2007، ص 31).
– الوهم والتخريف والتزييف أحد شروط المثقف الاستبدادي الذي ما أن تستقر تزييفاته وتخاريفه حتى تصبح من الصعب إزالتها. والهدف جعل العموم بعيدين عن التفكير، وماذا يبقى سوى إعفائهم من كل مشقة التفكير متحولين إلى قطيع من الحيوانات المرعوية المكدودة، والحكومة فوقهم الراعي. (ينظر: التشكيك في السلطة مفاهيم الليبرتارية وروادها، مجموعة باحثين، تحرير ديفيد بوز، ترجمة صلاح عبد الحق، رياض الريس للكتب والنشر، بيروت ط1، 2008، ص 53، 54).
ختاما.. يخطئ من يتصور أن الكواكبي أراد بأطروحته تغيير نظام بنظام أو إعطاء وصفة جاهزة من باب شخصاني يمتهن فيه أيديولوجية معينة. ولو كان الكواكبي غربيا لبجّله الغربيون ولعدوه فيلسوفا في مصاف ستيوارت ميل وبيكون وفرانز فانون وآخرين وعندها سنبجّله مترجمين وباحثين وناقلين مستنسخين لفكره.
ولا عجب في ذلك وعقدة الكولونيالية متجذرة في أذهان كتّابنا ومثقفينا الاستبداديين حتى إذا ظهر واحد منا مفكرا فلن يهتم الآخرون سوى باستبداده بشتى وسائل القمع مسفّهين طروحاته.
ولقد دلل الكواكبي في كتابه “طبائع الاستبداد” على بصيرة ثاقبة ومنهج علمي، فتعدى بذلك الوصف بالأديب أو المصلح أو المعلم أو الشيخ أو المثقف ليكون المفكر السياسي والفيلسوف صاحب المشروع الأخلاقي الرسالي، الذي غايته الاستنارة بالعلم تبصرا بالعلاج الذي به تستنهض العزائم فتثور على الاستبداد وطبائعه الأليمة.
نادية هناوي
ناقدة وأكاديمية من العراق
—————————————–
المثقف النموذجي في عصر النهضة
عبدالرحمن الكواكبي نهضوي كبير، عكس عصره بكل ما يعج به من تناقضات، فجاءت آراؤه السياسية معبّرة عن مثقف إسلامي قومي عربي وليبرالي، بكلمة أخرى، جمعت أفكار الكواكبي بصورة مّا كل مفاهيم النهضة العربية السياسية. عاش الكواكبي (1854- 1902) الجزء الأكبر من حياته العملية في فترة الحكم الحميدي (1876 – 1909)، وهي الفترة التي شهدت استبداداً لا مثيل له في تاريخ الإمبراطورية العثمانية. ومن المعروف أن السلطان عبدالحميد قد تسلم السلطة عام 1876 عبر انقلاب ضد أخيه السلطان مراد، قاده الاتجاه الإصلاحي الذي كان على رأسه التنويري مدحت باشا. في بداية حكم عبدالحميد ظهر الدستور كتتويج لجهود دعاة الإصلاح. وجاء الدستور ليجعل من جميع رعايا الدولة العثمانية مواطنين متساوين أمام القانون، بمعزل عن الانتماء القومي أو الأقوامي أو الديني. وغدت الدولة في ظل الدستور دولة برلمانية، حيث تقرر ضرورة وجود هيئة برلمانية، تتكون من مجلس الأعيان ومجلس المبعوثان. لكن السلطان عبدالحميد سرعان ما عطل الدستور مدة ثلاثين عاماً، ولم يعد إليه إلا مرغماً بعد عام 1908.
خلال ثلاثين عاماً كرس عبدالحميد دكتاتورية فظة، واستبداداً مروعاً يدعمه في ذلك عدد كبير من نخبة العائلات – الذين استلموا الجهاز الحكومي – من الأكراد والألبان والعرب. وازدادت هيمنة رجال البلاط السلطاني ورجال الدين، واستشرى البوليس السري في جميع الولايات وتوسع جيش المخبرين المأجورين توسعاً كبيراً. وغدا القمع الوحشي الأسلوب الوحيد للقضاء على أصحاب الآراء التنويرية، وتمت ملاحقة المفكرين والمصلحين الذين – بسبب القمع – هاجروا إلى مصر. وكان من بينهم عبدالرحمن الكواكبي. وقد منع السلطان عبدالحميد استخدام مصطلحات الدستور والثورة والاستبداد ومجلس النواب.. الخ. وتحولت المطبوعات في عهده إلى وسيلة من وسائل تكريس الأفكار الرجعية. ولم يبق في سوريا مثلاً من العدد الكبير من الصحف التي كانت تصدر في مرحلة الدستور، سوى تلك التي تمسكت بالتوجهات الرسمية.
وكأي دكتاتور فرض عبدالحميد على الصحف أن تتحدث يومياً عن الأمن المخيم على البلاد، وعن السعادة التي يتمتع بها الرعايا العثمانيون، من أقصى البلاد إلى أقصاها، وكان عليها أن تبتهل إلى الله كي يطيل أيام السلطان (1).
وفي عهد هذا المستبد، انهزمت الإمبراطورية العثمانية أمام روسيا، وفتح الطريق أمام الغرب لعملية اقتسام تركة الرجل المريض، وتنازل السلطان المعظم عن قبرص لبريطانيا، واحتلت فرنسا تونس عام 1881، واحتلت بريطانيا مصر عام 1882.
في هذا المناخ ظهر الكواكبي كداع للإصلاح، إصلاح الدين والأمة والحكم، بداية في حلب التي عرفت ازدهاراً تجارياً، ثم في مصر التي ضمت نخبة المصلحين من جميع الأنواع.
الكواكبي والإسلام
كانت روح التمرد قوية عند الكواكبي، و لم ينتم إلى الإصلاح الديني لدى الأفغاني و محمد عبده.
الكواكبي، مفكر ورجل سياسية من الطراز الرفيع، فجاء خطابه الإصلاحي دون المستوى النظري لتناول النص، وتوظيفاً مباشراً لأهدافه السياسة القائمة على الوقوف ضد السلطة العثمانية التي اضطهدته مباشرة وسجنته وخلعت عن عائلته لقب نقباء الأشراف.
ولكن كان على الكواكبي أن يواجه – كما واجه غيره – الإحراج الكبير، كيف يمكن للإنسان المسلم أن يعادي السلطة العثمانية المسلمة، أو يعادي الأتراك المسلمين، مع الاحتفاظ برابطة الدين والانتماء إلى الإسلام الذي لا يميز بين عربي وأعجمي إلا بالتقوى.
كان الحل الممكن والمناسب في هذه الحالة، هو تأكيد وجود نوعين من الإسلام: إسلام حقيقي وإسلام مزيف، إسلام أصيل وإسلام علقت به الترهات والشعوذات. وانطلاقاً من تقسيم كهذا – أكده الكواكبي – كان من السهل نفي الإسلام عن جزء من المسلمين، والنظر إليهم كخارجين عن الدين الأصيل. لقد أصبح الدين الإسلامي بالنسبة إلى الكواكبي دينين: دين محافظ قائم على الشعوذة والدفاع عن السلطة والتكسب والعداء للعلم، إنه إسلام الدروشة، من جهة، وإسلام الحق والعلم والعقيدة الإنسانية والحرية والعدل، وهو الإسلام الصحيح من جهة ثانية.
والكواكبي كأيّ مصلح ديني يبحث عن أسباب فساد الأمة فيجدها فيما يجد، في فساد الإسلام. ولا نتوقع أن نجد عنده بحثاً عن الأسباب التاريخية والاجتماعية التي أدت إلى تحول الدين إلى حالته المرفوضة وظاهرة معيقة للتقدم الاجتماعي. كل ما في الأمر، أنه وضع يديه على مظاهر التدين السائد في عصره، فوجدها متناقضة مع الأصول، أو مع مرحلة تاريخية محددة هي فجر الإسلام. ولهذا دعا إلى بعث الإسلام الأول إسلام الرسول والخلفاء والنظر إلى المراحل الطويلة من التاريخ المليئة بالمحن والآلام والفساد والانحطاط بوصفها انزياحاً عن جادة الأصول.
إذّاك لا يرى الكواكبي في التصوف والنزعة الجبرية والتعارض بين العقل وبين النقل إلا مظاهر تخفي جوهر الدين الحقيقي وتتعارض معه. إن هذه النظرة وما تنطوي عليه من سذاجة في التفكير ذات دلالة اجتماعية سياسة إيجابية؛ لأنها تقر بعجز الأيديولوجيا الدينية السائدة على التلاؤم مع الواقع الجديد، وتصبح العودة إلى الأصول شكلاً من أشكال الرفض للواقع، وسلاحاً بيد الفئات الأكثر تقدماً والدائرة في فلك الدين. ومن هنا نفهم لماذا طوى الكواكبي مرحلة طويلة من التاريخ الإسلامي تبدأ من صراع علي ومعاوية وتنتهي بالمرحلة التي عاشها، والنظر إليها كخرق للحقيقة الإسلامية. وحتى المذاهب الأربعة لم تنج من نقده وتوجيه اللائمة إليها، وهو الذي لم ير فيها مذاهب يجب أن تفرض على المسلم التزاماً بها.
ببب
لنعد إلى ما أسميناه إسلاماً مزيفاً من وجهة نظر الكواكبي فقد لخص السيد الفراني الأسباب الدينية التي تقف وراء الفتور الحاصل في أوصال الأمة في سيادة عقيدة الجبر، وتفشي الجدل في العقائد، وتفرق الناس في الدين، وفقدان الدين سماحته وسهولته، واستبدال التشدد بالسماحة، وتحول الدين إلى زهد وتصوف وتأويلات متعفنة حتى بدا أن العلوم العقلية تنافيه، وسيطرة التقليد والتعصب لآراء المتأخرين وهجر النصوص.
لكن تقهقر الإسلام ليس جديداً كما يرى الكواكبي، فهو ابن ألف عام. ولا ندري إن كان يقصد ألف عام هجرية أم ميلادية. فإذا كان المقصود ألف عام هجرية وهو الأرجح كما نعتقد، فإن ازدهار الإسلام لم يدم أكثر من ثلاثة قرون. وبعد ذلك ظهر التأويل في التفسير والاختلاف في المذاهب ودخلت العناصر غير العربية الإسلام، وسيطرت على الدولة العربية في الفترة الأخيرة من حياة الحضارة العباسية، والكواكبي لم يخف امتعاضه من العباسيين وتقويمه السلبي لهم حين كتب يقول «وأما الفتنة الثانية، فلم تزل مستمرة وهي أن الخلفاء العباسيين مالوا إلى تعميق النظر في العقائد، فخدمهم من خدمهم من علماء الأعاجم تقرباً إليهم في علم الكلام، وأكثروا من القيل والقال».
الإسلام في المرحلة العثمانية قد دخل تحت ولاية العملاء الرسميين وولاية الجهلة المتعمّمين، وهؤلاء هم المقربون من الأمراء على أنهم علماء، وقد ارتبط القضاء والإمضاء بهم.
وكان الكواكبي يشير إلى حاشية السلطان عبدالحميد من علماء الدين أمثال الشيخ أبوالهدى الصيادي، الذي كان الكواكبي يناصبه العداء لأسباب شخصية وأيديولوجية: لم ينظر الكواكبي في الأسباب التي تجعل من تحول الإسلام إلى دين رسمي أمراً واقعاً. كيف يمكن أن نفهم تحول الدين على أيدي جماعات أو أفراد إلى أداة من أدوات تسويغ ممارسة السلطة السياسية؟ وهل قيام الإسلام بهذه الوظيفة سبب أساسي لفهم أسباب خريفه؟
ولكن الدين الشعبي ليس أقل تخلفاً من الدين الرسمي كما يرى الرحالة (ك). بل إنه رأى الحال الذي وصل إليه السلام لا يختلف في شيء عمّا كان في الجاهلية «فمن المسلمين من استبدلوا الأصنام بالقبور فبنوا عليها المساجد والمشاهد، وأسرجوا لها، وأرخوا عليها الدستور.. ومنهم من استعاضوا عن ألواح التماثيل عند النصارى والمشركين بألواح فيها أسماء معظميهم.. ومنهم ناس يجتمعون لأجل العبادة بذكر الله، ذكراً مشوباً بإنشاد المدائح والمغالاة لشعراء المتأخرين.. وبإنشاء مقامات شيوخية تغالوا فيها بالاستغاثة بشيوخهم والاستمداد منهم بصيغ لو سمعها مشركو قريش لكفّروهم.. ومنهم جماعة لم يرضوا بالشرع المبين فابتدعوا أحكاماً سموها علم الباطن، أو علم الحقيقة أو علم التصوف، علماً لم يعرف شيئاً منه الصحابة والتابعون وأهل القرون الأولى، المشهود لهم بالفضل في الدين ومنهم فئة اخترعوا عبادات وقربات لم يأت بها الإسلام، ومنهم قوماً يعتبرون البلادة سلاحاً، والخمول خيراً، والخبل خشوعاً، والصراع وصولاً.. ومنهم كهنة العرب يدّعون علم الغيب بالاستخراج من الجفر والرمل وأحكام النجوم».
كم هي واضحة هنا اللهجة الحاسمة في نقد الدين السائد. ولهذا جاء احتجاج الكواكبي ضد دين السلطة ودين الشعب، احتجاجاً يندرج في الشكل الأولي والبسيط للإصلاح الديني . فهو لم ير في التصوف إلا شعوذة ولم يكتشف جوهره الاجتماعي، وما انطوى عليه من نزعة إنسانية وتحررية توحد بين الله والإنسان. وربما تكون الحالة التي وصل إليها التصوف من دروشة مسوغاً للنقد الذي وجهه الكواكبي للتصوف.
إن الدعوة إلى العودة إلى الإسلام في براءته الأولى، خارج عملية البدء بالتأويل العقلي للنص، جعلت الكواكبي غير قادر على رؤية الجانب المزدهر جداً من علوم الكلام الإسلامية التي أنشأها المعتزلة. والمفكر الفلسفي الذي أخضع قضية العلاقة بين الله والعالم إلى تناول فلسفي، والتنظير للحقيقتين العقلية والنقلية، وهو لم ير في علم الكلام سوى ثمرة من ثمرات تآمر الأعاجم. واستناداً إلى ما سبق، فإن الكواكبي قد جعل أحد الصفات التي تميز العالم «أن يكون صاحب عقل سليم فطري، لم يفسد ذهنه بالمنطق والجدل التعلميين والفلسفة اليونانية والإلهيات الفيثاغورية، وبأبحاث الكلام وعقائد الحكماء، ونزعات المعتزلة، وإغرابات الصوفية وتشديدات الخوارج، وتخريجات الفقهاء المتأخرين، وحشويات الموسويين، وتزويقات المرائين وتحريفات المدلسين: «مرحى».
ما الذي أبقاه الكواكبي للعالم من صفات؟ لم يبق سوى ظاهر الشرع والواجبات الخمس. ويبدو أن التاريخ بالنسبة إلى الكواكبي عامل إفساد للإسلام. أفسد القرآن وأفسد الحديث. وأن جميع من ذكرهم سلباً عامل إفساد للعامة. وهو بهذا يسد الطريق أمام العقل والاجتهاد، مبالغاً في ذلك أكثر من تهافت الفلاسفة للغزالي، أو نقد المنطق لابن تيمية. وهذه النزعة الموغلة في السلفية، التي ترفض كل إنجاز عقلي وفلسفي بل ديني اجتهادي، ليست إلا شكلاً متطرفاً من أشكال الأوتوبيا ، التي تريد للتاريخ أن يعود القهقرى بقفزة واحدة تتجاوز أكثر من ألف عام. ولهذا لا ينطوي الإصلاح الديني عند الكواكبي على نزعة تقدمية، لأنه يقف عند جانب واحد فقط، هو جانب ضرورة العودة إلى الأصول. ولكن الإصلاح الديني لا يعود للأصول، إلا من أجل البدء بعملية تأويل جديد لهذه الأصول بما يتوافق وحاجات المرحلة الجديدة. وهذا هو بالأصل جوهر الإصلاح الديني عنده عبده .
وما ترحيب العقاد بوجهة نظر الكواكبي إلا دفاعاً منه عن نزعة علموية خالصة، وهو الذي رأى في رفض الكواكبي الفلسفة والجدل علاقة صحيحة، ورأى في استحسانه العلوم الطبيعية نظرة ثاقبة (2).
“وبعد نيف وخمسين سنة من قيام الدعوة الكواكبية، لايزال أساسه القويم الذي اختاره للإصلاح الديني صالحاً للبناء عليه: عقيدة خالصة من شوائب الجهل والسفسطة تؤمن بدينها ودنياها على بصيرة». بهذه الجمل السريعة والسطحية يحوّل العقاد النزعة العقلانية والفلسفة والمنطق إلى جهل
ببب
ترى ما الذي يجعل العقاد مؤيداً للكواكبي في هذه المسألة ؟ يبدو لي أن ما يفكر به العقاد مختلف عما قصد إليه الكواكبي.
كان الكواكبي مؤمن حقاً بأن اللاهوت الإسلامي والتصوف والمنطق والفلسفة والجدل قد أضرت بالإسلام الحقيقي العربي النشأة. وأن الأعاجم قد أدّوا الدور الأهم في صناعة هذه المباحث، التي خلقت التشيع والفرق الدينية الكثيرة، ورأى في التصوف ابتعاداً عن الفعل، وهروباً من الحياة وهو إذ حصر الدين – دون زيادة أو نقصان – في القرآن والحديث، فإنما أراد أن يضيق أكثر فأكثر من حركة الدين ذاته، وتحويله إلى عبادات وقيم أخلاقية بعيداً عن مسائل الحياة السياسية قبل كل شيء. وأفق تفكيره محكوم أصلاً بما أتاح له أواخر القرن التاسع عشر. أما العقاد فإنه مدافع وبصراحة عن المجتمع التقني في شروط منتصف القرن العشرين. إنه ضد الشيوعية وضد الاستعمار ومع الرأسمالية بآن واحدة. ولهذا فهو ضد الفلسفة وضد الأيديولوجيا ومع العلم. والإسلام مقبول بوصفه غير متناقض مع العلم، أي مع الرأسمالية. ودون أن يفسد عملية التحديث والعقاد برجماتي نخبوي من الطراز الرفيع، لا يريد للفلسفة وللأفكار التحررية أن تنتشر بين العامة وأشباه العامة.
أراد الكواكبي أن يسحب الدين من السلطة الاستبدادية، ويهاجم الدين السائد بوصفه أداة من أدواتها. فالسياسيون الإفرنج مصيبون في نظرتهم إلى القرآن بوصفه مؤيداً للاستبداد السياسي أو مؤيداً منه. ومع ذلك فلهم الحق عندما يبنون حكمهم هذا على مقدمات ما يشاهدون من حال المسلمين من استعانة مستبديهم بالدين.
بل إن فقر الأمة وجهلها ليس إلا مظهراً من مظاهر التخلي عن الشريعة الإسلامية كما هي. لقد كتب يقول «إن شريعتنا مبنية على أن في أموال الأغنياء حقا معلوما للبائس والمحروم، فيؤخذ من الأغنياء ويوزع على الفقراء، وهذه الحكومات الإسلامية، قد قلبت الموضوع، فصارت تجبي الأموال من الفقراء والمساكين وتبذلها للأغنياء وتحابي بها المسرفين والسفهاء».
والحقيقة أن إسلام الكواكبي إسلام بسيط وليس معقداً، فالله شعور فطري لا يحتاج إلى دليل عقلي على وجوده. وما حاجة البشر إلى الرسل إلا من أجل الاهتداء إلى كيفية الإيمان بالله كما يجب من التوحيد والتنـزيه. ومحمد عليه السلام بلّغ رسالته ولم يترك ولم يكتم منها شيئاً، وإنه أتم وظيفته بما جاء به من كتاب الله وبما قاله أو فعله أو أقر على سبيل التشريع كمالاً لدين الله.. ولا بد من اتباع ما جاء به ‘الصريح المحكم من القرآن’ والواضح الثابت كما قاله الرسول أو فعله أو أقره أو ما أجمع عليه الصحابة. إن أدركنا حكمة التشريع أو لم نقدر على إدراكها، وأن نترك ما يتشابه علينا من القرآن منقول فيه، كل من عند ربنا وما يعلم تأويله إلا الله».
إن التشديد على أن الرسول قد بلّغ رسالته دون أن يكتم منها شيئاً، يعني سد باب التأويل والاجتهاد العقليين. ولهذا يؤكد أن الزيادة أو النقصان على ما بلّغنا إياه رسول الله أمر محظور.
والحياة بكل أبعادها لا تنحصر بهذا الحيز الضيق من الدين. وهذا ما وعاه الكواكبي، إذ من أصول الدين – كما يرى – أن نكون مختارين في شؤوننا الحيوية، نتصرف بها كما نشاء، مع رعاية القواعد العمومية التي شرعها الرسول وتقتضيها الحكمة الفاضلة «كعدم الإضرار بالنفس، والاعتدال بالأمور، والإنصاف في المعاملات والعدل في الحكم والوفاء بالعهد.. الخ. إن شؤون الحياة هي بلغة معاصرة مجالات الاقتصاد والأخلاق والسياسة وهي مجالات يتضمنها مفهوم أو مصطلح الإسلامية الذي ينطوي بنفس الوقت على الأصول. فالإسلامية مؤسسة على «الإرادة الديمقراطية أي العمومية، والشورى الأرستقراطية أي شورى الأشراف وقد مضى عهد النبي عليه السلام وعهد الخلفاء الراشدين على هذه الأصول بأتم وأكمل صورها، خصوصاً أنه لا يوجد في الإسلامية نفوذ ديني مطلق في غير مسائل الدين».
إذن الكواكبي يميز بين الدين والسلطة المدنية. فالإسلامية فلسفة الحياة إن صح التعبير، الحياة الاجتماعية. ولكنها بالمعنى السياسي استعادة لمفهوم الشورى أو لحالة السلطة زمن الرسول التي لم تكن دينية خالصة.
والشورى بالمعنى الكواكبي، تعزل العامة عن المشاركة في الحياة السياسية لأنها شورى أرستقراطية، شورى الأشراف. أي أن الأشراف هم الورثة الشرعيون لسلطة النبي والخلفاء. وكان الكواكبي يعتبر نفسه من هذه الفئة. والديمقراطية – بهذا المعنى – ديمقراطية فئة تذكرنا بأحرار اليونانيين. فلم يكن مفهوم الديمقراطية عند الكواكبي ذا مضمون شعبي، أو غربي تنويري، بل مضمون مشتق بالأساس من الماضي العربي، وتحقيق الديمقراطية – أصلاً – ليس رهناً باختيار الشعب، وقدرته على تغيير السلطة، بل هو ثمرة حكمة عقلاء الأمة على عنف الدهماء.
هل يتنافى مفهوم الإسلامية مع نزعة الكواكبي ضد الاستبداد؟ ربما، ويجب ألاّ نتوقع من الكواكبي خطاباً خالياً من التناقض .
القومية الكواكبية:
بب
الخلافة العربية والرابطة الإسلامية
يكاد يجمع أكثر مؤرخي عصر النهضة العربية، على أن الكواكبي يعتبر أحد أهم مؤسسي الاتجاه القومي العربي بل العروبة. غير أن قبول هذا الرأي يصطدم في نهاية تحليل فكر الكواكبي في إطار عصره برفض مشتق من فكر الكواكبي ذاته. ويجب أن نميز في واقع الحالبين نزوع قومي بدائي يعلي من شأن العرب – كجماعة – وبين تأسيس نظري لمفهوم الأمة العربية والدولة السياسية العربية. والكواكبي مفكر يندرج في إطار النـزوع القومي البسيط، ونقصد بالبسيط أنه نزوع ما قبل برجوازي، ولا ينطوي على نزعة قومية تحررية علمانية. الكواكبي قبل كل شيء مسلم يكره الأتراك، كحكام متسلطين يحتقرون العرب كما أحس الكواكبي في حينه. في حالة كهذه إنما تقوم المفاضلة بين الأقوام: أيهما أفضل وأحق بالحكم. وهذه حالة ليست جديدة وقد اتخذت في مرحلة من المراحل صفة الشعوبية. إذ ذاك يغدو الموقف معروفاً سلفاً بالنسبة إلى الكواكبي. العرب أفضل من الترك وبهم يجب أن تناط السلطة ولهم يجب أن يكون حكم الدولة الإسلامية.
لقد أورد الكواكبي في أم القرى، على لسان السيد الفراتي، الأوصاف التي أطلقها الأتراك على العرب، ويشير إلى احتقار الأتراك للعرب كقولهم عن عرب الحجاز العرب الشحاذين، وإطلاقهم لقب الفلاحين الأجلاف على أهل مصر، وقولهم في عرب سوريا أدع الشام وسكرياتها ولا ترى وجوه العرب ووصفهم العربي بأنه قذر.. الخ.
وفي رد فعل على هذه الأوصاف التي يطلقها الترك على العرب، لا يجد العربي حرجاً في القول «ثلاث خلقن للجور والفساد القمل والترك والجراد».
ولا يتوقف الأمر عند كره الترك للعرب، بل إن الفراتي لا يرى في الترك أو بكلمة أدق في سلاطينهم حافظين للدين. فالسلطان محمد الفاتح – وهو أفضل آل عثمان – قد قدم الملك على الدين، حيث تآمر على إزالة بني الأحمر مع فردينان ملك الأرغوان، والسلطان سليم غدر بآل العباس واستأصلهم حتى أنه قتل الأمهات لأجل الأجنة، كما أعان سلاطين آل عثمان الروس على التتار المسلمين وأباحوا الربا. ومعاداة العرب معاداة للدين، فلا يبقى إلا أن تنحصر الخلافة بالعرب، لا تعصباً للعرب – كما يقول – بل لأنه يرى ما لا بد أن يراه كل مدقق يتفحص الأمر: من أن الغيرة على الدين وأهله والاستعداد لتجديد عز الدين منحصران في أهل المعيشة البدوية من العرب، والمشيئة الإلهية حفظتهم من تلك الأمراض الأخلاقية التي لا دواء لها. والعرب من المسلمين أقرب من غيرهم للأنفة وحسن المعاملة والثبات على العهد.
والعرب في نظر الكواكبي أيضاً نوعان، عرب الجزيرة والعرب عامة .وعرب الجزيرة هم الذين يعول عليهم الكواكبي قبل كل شيء في قيادة الشعوب الإسلامية، لأسباب جغرافية أخلاقية.
فإلى جانب أن الجزيرة مشرق النور الإسلامي وفيها المسجد النبوي والكعبة العظيمة فعرب الجزيرة مستحكم فيهم التخلق بالدين لأنه مناسب لطبائعهم الأهلية أكثر من مناسبته لغيرهم، وهم أعلم بقواعد الدين وأكثر الناس حرصاً على حفظه. ومازال الدين عندهم حنيفاً سلفياً. وهم أقوى المسلمين عصبية لما فيهم من خصائص البدوية. وأمراء الجزيرة جامعون بين شرف الآباء وشرف الأمهات والزوجات، وعرب الجزيرة أقدم الأمم مدنية وأقدرهم على تحمل شظف العيش، وأحفظ الأقوام على جنسيتهم وأحرصهم من بين الأمم الإسلامية على الحرية والاستقلال، كما أن الجزيرة أنسب المواقع لأن تكون مركزاً للسياسة الدينية لتوسطها بين أقصى آسيا شرقاً وأقصى أفريقيا غرباً، وأفضل الأراضي لأن تكون ديار أحرار لبعدها عن الطامعين والمزاحمين نظراً لفقرها الطبيعي.
أما العرب عامة فلغتهم أغنى لغات المسلمين في المعارف ومصونة بالقرآن الكريم من أن تموت، وهي لغة عامة المسلمين .
والعرب أقدم الأمم اتّباعاً لأصول تساوي الحقوق وأعرقهم في أصول الشورى وأهداهم لأصول المعيشة ال اشتراكية. وأنسبهم لأن يكونوا مرجعاً في الدين.
من الخطأ – طبعاً – أن نتعامل مع هذه الأفكار وفق مستوى المعرفة الراهنة وفي إطار شروطنا التاريخية المعاصرة. ومع ذلك من الخطأ أن نعتبرها موقفاً ناضجاً من قضية العروبة «كما يرى محمد عمارة مثلاً».
فالعروبة مصطلح يشير إلى المذهب القومي العربي في صورته التي أخذها في فترة ما بين الحربين وما بعدها. وهي صورة وجود أمة عربية واحدة لها مقوّماتها الأساسية التي لا تختلف عن مقومات أيّ أمة، وحدة اللغة والتاريخ والأرض والثقافة والمصالح. أمة تنزع إلى إقامة وحدة سياسية، ودولة تضم جميع أبناء الأمة الواحدة بمعزل عن أية رابطة أخرى ولاسيما رابطة الدين.
ولم يكن الكواكبي قادراً في عصره على الوصول إلى ذلك المستوى من التفكير القومي. إذ ظل مفهوم الأمة لديه مفهوماً غامضاً تارة يشير إلى معنى الجماعة، وتارة إلى معنى الرابطة الإسلامية، ولهذا ليس غريباً أن يكون المصطلح الذي قدمه الكواكبي للتعبير عن اتجاهه في الفكر السياسي هو مفهوم الإسلامية.
والعرب لا يشكلون بالنسبة إليه أمة واحدة ولم يصدر في آرائه عن هدف مباشر أو غير مباشر في إقامة دولة عربية واحدة. بل إن قيمة العرب وأهميتهم وضرورة أن يكونوا مركز الدولة الإسلامية وأرستقراطيتها قائمة في كونهم مسلمين أصلاء قبل كل شيء، ولغتهم لغة القرآن، أو بكلمة أدق العرب عند الكواكبي قيمة أخلاقية، ولاسيما الجزء الذي لم يفسد منهم وظلوا على بداوتهم أي عرب الجزيرة .
وعرب الجزيرة في عصر الكواكبي مجموعة من القبائل المتناحرة، تعيش حياتها المجتمعية في مرحلة ما قبل الرابطة الدينية أو القومية. بل إن رابطة القبيلة هي الرابطة الأقوى التي تحدد انتماء العربي آنذاك. وبالتالي حتى الصفات التي خلعها الكواكبي على عرب الجزيرة لم تكن أكثر من صفات موجودة في ذهن الكواكبي فقط، في الوقت الذي كان فيه عرب الشام أكثر إحساساً برابطة القومية وإن كانت هي الأخرى لم ترق إلى مستوى التعبير عن أمة متعينة.
ومن الخطأ الانطلاق من دعوة الكواكبي إلى إقامة خلافة عربية يخضع لها جميع المسلمين إلى الإقرار بنضج فكرة العروبة عنده.
ما يؤكد قولنا، السابق هو حديث الكواكبي عن الشرق الذي يقف مقابل الغرب، وهو في هذه النقطة أكثر إحساساً بشرقيته من انتمائه العربي، شرقية ولّدها العداء للغرب. أي إن الغرب الذي ينظر إليه الكواكبي نظرة عداء لم ينتج لديه مفهوم العرب أو الأمة العربية بل مفهوم الشرق الذي يضم أقوماً أخرى كثيرة غير العرب.
يجب أن نشير هنا إلى أن كره الكواكبي للغرب لم يصدر عن النظرة إلى الغربيين بما لديهم من صفات عرقية كما ظن هشام شرابي (4) مستنداً إلى نص التقطه من طبائع الاستبداد، أجل لقد كتب الكواكبي يقول «الغربي مادي الحياة، قوي النفس، شديد المعاملة، حريص على الاستئثار، حريص على الانتقام، كأنه لم يعد عنده شيء من المبادئ العالية، والعواطف الشريفة التي نقلتها له مسيحية الشرق، فالجرماني جاف الطبع، يرى أن العضو الضعيف في الحياة من البشر يستحق الموت، ويرى كل الفضيلة في القوة، وكل القوة في المال. فهو يحب العلم ولكن لأجل المال، ويحب المجد ولكن لأجل المال. واللاتيني منه مطبوع على العجب والطيش، يرى العقل في الإطلاق، والحياة في خلع الحياء، والشرف في الزينة واللباس، والعز في التغلب على الناس».
في النص السابق رسم الكواكبي صورة صحيحة جداً للغرب في عصره أي كان حديثه عن المجتمعات الرأسمالية الغربية. إنها صورة الرأسمالي الذي رآها الكثير من الغربيين المفكرين آنذاك. إنه مجتمع خال من القيم النبيلة وقيمة القيم هي المال، التي تحطم العواطف النبيلة، والمال يفسر حبهم للعلم والمجد، وإذ كانت هذه الصورة للغرب صورة صحيحة، فإن الكواكبي لم يكن قادراً على تحليل أسباب بروز هذه الصورة الأخلاقية الكريهة للغرب تحليلاً عميقاً. والمال عنصر أساسي من عناصر تحطيم القيم الأخلاقية العالية بالمعنى الكواكبي. ولكن متى وكيف يصبح المال سبباً لتحطيم القيم؟ هذا ما لم يلتقطه الكواكبي. وإن النقد الأخلاقي للغرب لا يعني على الإطلاق أن الكواكبي وقف موقفاً عدائياً من المجتمع الرأسمالي عامة. بل أدان فقط مظاهر المجتمع الرأسمالي، وتقابل هذه الصورة الأخلاقية الشنيعة للغربي صورة سياسية جميلة له. مما يدل على أن الكواكبي الذي يكره الغرب معجب بنفس الوقت بمستوى الحياة السياسية التي وصل إليها. ولا بأس هنا أن نورد الاختلاف الذي رآه الكواكبي بين الغربي والشرقي فيما يتعلق بوعيهما السياسي.
ببب
“وهكذا بين الشرقيين والغربيين فروق كثيرة قد يفضل في الإفراديات الشرقي على الغربي، وفي الاجتماعيات يفضل الغربي على الشرقي مطلقاً (6). لماذا؟ يقول الكواكبي: الحكماء المتأخرون الغربيون ساعدتهم ظروف الزمان والمكان وخصوصية الأحوال، لاختصار الطريق فسلكوه، واستباحوا ما استباحوا، حتى إنهم استباحوا في التمهيد السياسي تشجيع أعوان المستبد على تشديد وطأة الظلم والاعتساف بقصد تعميم الحقد عليه، بمثل هذه التدابير القاسية نالوا المراد، أو بعضه من تحرير الأفكار وتهذيب الأخلاق وجعل الإنسان إنساناً».
ساعدت في تكوين أخلاق الغربي ظروف الزمان والمكان وخصوصية الأحوال. إذن لا فرق بين الشرقي والغربي من الناحية العرقية. وليس بيننا – ولاسيما عرب الجزيرة – وبين أعظم الأمم الحية المعاصرة فرق سوى في العلم والأخلاق العالية».
والحقيقة أن الغرب يضيء الطريق أمام الكواكبي لرؤية عوامل الإصلاح السياسي في الشرق، والذي لا يقوم إلا بالعلم والديمقراطية، فالشرق أهمل العلم، بل وصار يرمي المتطلع إلى العلم بالزندقة عادة في هذا الشرق «على حين أخذت هذه العلوم تنمو في الغرب وعلى كل القرون ترقت وظهر لها ثمرات عظيمة في كافة الشؤون المادية والأدبية، حتى صارت كالشمس لا حياة لذي حياة إلا بنورها فأصبح المسلمون مع شاسع بعدهم عنها محتاجين إليها لمجاراة جيرانهم ».
وكما يقدم العلم سبل التقدم، فإن نزوع الاستبداد طريق آخر لمجاورة الجيران، فإن دول أوربا وأميركا واليابان قد «أسعفها جدها لتبديد استبدادها، ولذلك نالت الشرف الحسي والمعنوي ما لا يخطر على بال أسراء الاستبداد».
والغرب ذاته – هذا الذي نظر إليه كمواطن العلم والديمقراطية – هو غرب طامع بالشرق وأدرك الكواكبي بصورة لا تخلو من الفطنة وعمق النظر للطبيعة العدوانية الاستعمارية التي ينطوي عليها غرب العلم والديمقراطية. وكشف الأهداف غير المعلنة للتملق الغربي والمستور وراء ضبط سلوكه السياسي في الشرق.
كتب الرحالة (ك) قائلاً «هذا الغربي أصبح مادياً، لا دين له غير الكسب، فما تظاهره مع بعضنا بالإخاء الديني إلا مخادعة وكذبة، هؤلاء الفرنسيون يطاردون أهل الدين، ويعملون على أن يتناسونه، بناء عليه لا تكون دعواهم الدين في الشرق إلا كما يغرد الصياد وراء الشباك».
إن اكتشاف الأهداف الاقتصادية الكامنة وراء تدخل الغرب وأوروبا، في شؤون الشرق في تلك المرحلة المبكرة، وعي متقدم جداً، يميط اللثام عن وجه الغرب الحقيقي الذي بدا للبعض مخلصاً في سعيه لتقدم الشرق، «فالغربي مهما مكث في الشرق لا يخرج عن أنه تاجر مستمتع، فيأخذ مشاتل الشرق ليغرسها في بلده».
والكواكبي واحد من القلائل الذين استخدموا مصطلح الاستعمار للدلالة على الغرب، الاستعمار الذي لا يعينه أبداً أن ينقل حضارته إلى الشرق، فالغربي يعرف كيف يسوس، وكيف يتمتع، وكيف يأسر، وكيف يستأثر، فمتى رأى فيكم استعداداً واندفاعاً لمجاراته أو سيقه، ضغط على عقولكم لتبقوا وراءه شوطاً كبيراً كما يفعل الروس مع البولنديين وكما هو شأن دول الاستعمار».
والطبيعة الاستعمارية للغرب التي شدد عليها الكواكبي، وكان فذاً في ذلك، لم تمنعه من رؤية جانب آخر إنساني يمكن أن يقدمه أحرار الغرب استناداً إلى هذا الجانب، مساعدة للشرق في الخروج من شروره.
كتب مؤلف أم القرى قائلاً «رعاك الله يا غرب.. وحياك وبيّاك قد عرفت لأخيك سابق فضله عليك، فوفيت وكفيت.. وقد اشتد ساعد بعض أولاد أخيك فهلا تنتدب بعض شيوخ أحرارك لإعانة أخيك على هدم ذاك السور، سور الشؤم والشرور ليخرجوا بإخوانهم إلى أرض الحياة فيشكرون فضلك والدهر مكافأة». ما الذي يجعل الكواكبي الذي اكتشف بعمق الطبيعة الاستعمارية للغرب، معتقداً بأن الشرق والغرب أخوان؟
يبدو لي أن في حديث الكواكبي عن الأخوّة التي تجمع الشرق والغرب، تمايزاً مضمراً ينطلق منه الكواكبي بين السلطة الاستعمارية الغربية، وبين المجتمع الغربي الذي لا يخلو من جوانب إنسانية ثقافية. لهذا، لم يخاطب الكواكبي الدولة الغربية ذاتها، بل شيوخ أحرار الغرب، ذوي النـزعة الإنسانية المتناقضة مع الطبيعة الاستعمارية للدولة.
كأنه أراد أن يقول: إنه مهما بدت لنا الطبيعة العدوانية الاستعمارية للغرب واضحة، فإنه لا غنى للشرق إذا ما أراد أن يتقدم عن هضم منجزات الغرب ذاتها. وهذا لن يتم إلا خارج العلاقة التي تفرضها الدولة الغربية الاستعمارية. ونحن هنا أمام إقرار بشكل غامض قليلاً بوحدة التاريخ البشري والتواصل القائم بين الحضارات. فالغرب ذاته – كما يرى الكواكبي – لم يتقدم إلا بفضل الشرق وانتقال علومه وثقافته إلى الغرب فجاء دور الغرب ليرد الجميل إلى الشرق. ولكن التعويل على شيوخ أحرار الغرب نزعة رومانسية لا تستطيع القبض على جدل انتقال الثقافات. فالمسألة مرتبطة في ذهن الكواكبي بموقف أخلاقي أكثر منه بالتقاط الشروط الموضوعية للعملية .
وإذا كانت حاجة الشرق إلى الغرب حاجة امتلاك لتقدمه المادي، فإن حاجة الغرب إلى الشرق ذات طبيعة أخلاقية «يا غرب… لا يحفظ لك الدين غير الشرق، فماذا أعددت للفوضويين إذا صاروا جيشاً جراراً ».
فجوهر التناقض بين الشرق والغرب، بين مصالح الشرق في التحرر والتقدم وبين مصالح الغرب في الاستعمار والاستقلال. وبالتالي ليس تناقضاً دينياً بين الإسلام والمسيحية، هذه من جهة ومن جهة أخرى، فإن الشرق مدعو لامتلاك قوة الغرب، التي رآها الكواكبي في اجتماع شعوب كبيرة، وبارود أبطل الشجاعة، وكشف لأسرار الكيمياء والميكانيك، واكتشاف الفحم وعقد الشركات المالية الكبيرة.
ينحصر تفكير الكواكبي إذن في العمل من أجل مجتمع رأسمالي ذي أخلاق إسلامية طوباوية تريد أن توفق بين ما لا يتوافق . ولكن ما هو هذا الشرق الذي يحمل همه الكواكبي؟ هل هو من طبيعة جغرافية أم قومية أم دينية؟
في نص صريح للكواكبي يقول «ما أحوج الشرقيين أجمعين من بوذيين ومسلمين ومسيحيين وإسرائيليين وغيرهم إلى حكماء لا يبالون بغوغاء العلماء الغفل الأغبياء والرؤساء القساة الجهلاء».
فالشرق بهذا المعنى جامع للأديان الأربعة.. إنه عالم الحضارات القديمة.. إنه مفهوم ذو دلالة ثقافية جغرافية تدخل فيه جميع الشعوب العربية والهندية والتركية والمغولية آنذاك.
ومن المفيد الإشارة إلى أن مصطلح الشرق كان مصطلحاً شائعاً في الكتابات العربية في عصر النهضة. وليس غريباً أن يفرد أديب إسحاق لهذا المصطلح فصلاً خاصاً تحت عنوان “ما هو الشرق”. ويخلص إلى القول أن «تعريف هذا اللفظ عرقي لا ينطبق على حكم علمي، أو حد جغرافي والمشهور فيه أن يطلق على بلاد آسيا من دون القسم الروسي وعلى بلاد الروم من أوروبا والقطر المصري من أفريقية”. ثم يضيف “إن الأوروبيين إن اختلفت آراؤهم في تعريف الشرق وتحديده، فقد اتفقوا على الاعتقاد بانحطاط الشرقيين عنهم في رتبة الوجود (7).
وغالباً ما كان يطلق هذا المصطلح في إطار الرد على الغرب الذي يضم دول أوروبا الرأسمالية. فهو بهذا المعنى ينطوي على معنى حضاري في النهاية.
نخلص إلى القول إن اللغة السياسية التي عرض الكواكبي فيها آراءه لم تتحدد كلغة مفكر قومي يشعر بانتمائه إلى أمة محددة بالمعنى المعاصر لهذه الكلمة . فهو مسلم تارة، وتارة أخرى عثماني، وطوراً عربي، وطوراً آخر شرقي، وإن شئت القول فهو مسلم عثماني عربي شرقي، ولا يحسبنّ أحد أن هذا الانتماء تعبير عن وعي مسبق، بل هو انعكاس لمستوى تطور الانتماء السياسي والثقافي والاثني في ذلك العصر.
تؤرقه حالة المسلمين قاطبة فهو مسلم، يدافع عن دولة تنهشها الأطماع الأوروبية الرأسمالية الاستعمارية فهو عثماني، ويدافع عن حق قومه في الزعامة ضد من سلب الخلافة فهو عربي، وينظر إلى الغرب بوصفه استعماراً فهو شرقي. وهاجسه في النهاية دولة إسلامية شورية متأوربة مدنية، وخليفة شريف ذو أخلاق إسلامية بدوية عربية يجمع كلمة المسلمين.
مرة أخرى، أوتوبيا نشأت وترعرعت في غياب القوى الحية التي تصنع التاريخ.
الهوامش:
(1) كرد علي محمد، مذكرات ج 1- 2، دمشق، ص 48 – 51.
(2) العقاد، عباس محمود، الرحالة كاف، القاهرة، 1959، ص 128 – 129.
(3) العقاد، مصدر سابق، ص 132.
(4) شرابي، هشام، المثقفون العرب والغرب، ص 105.
(5) ديوان النهضة، بيروت، 1982، ص 76 – 97. –
(6) ديوان النهضة، ص 96. –
(7) إسحاق، أديب، الكتابات السياسية والاجتماعية، جمعها وقدم لها ناجي علوش، بيروت، 1982، ط 2، ص 195.
أحمد برقاوي
كاتب من فلسطين مقيم في الإمارات
——————————–
الطّاغوتُ والمَلَكوتْ: مقاربة لمفهوم الاستبداد الشرقي
أذكر أنني عندما قرأتُ “طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد” للمرة الأولى، قبل عقود، أنني كنت منتشياً بفضول حداثة إجرائية نشطة. وأعني بذلك أن التعريفات التي يتضمنها الكتاب كانت تحيلني، تحديداً، إلى مفاهيم قابلة للترجمة بسهولة إلى معادلها الحداثي المعرفي. فالاستبداد بلغة الكواكبي: “هو غرور المرء برأيه والأنفة عن قبول النصيحة أو الاستقلال في الرأي وفي الحقوق المشتركة”.في هذا التعريف يكمن مفهوم “النرجسية” الفرويدي المنزع. وربما كانت هذه اللحظة اللغوية لحظة المنطلق بامتياز: فبالغرور لا يبرز مفهوم الأنوية المجرد من الإيثار فحسب، بل يتمثل بصيغة النرجسية، أي بكونه غلواء مشبعة بعبادة الذات وتقديسها والإسباغ عليها بما يمليه الشعور بالقوة المنفلتة العقال. ولسنا هنا بصدد تفكيك المفهوم. ولكن ما يهمنا أن نلاحظه الآن هو أن النرجسية طبقاً لسيرورة الخطاب تحيل من المستوى النفسي إلى المستوى الاجتماعي. يقول الكواكبي: “ويراد بالاستبداد عند إطلاقه استبداد الحكومات خاصة لأنها مظاهر أضراره التي جعلت الانسان أشقى ذوي الحياة” (1). هذه التحويلة المعرفية ذات المنزع الإنسانوي تستدعي تأسيساً، براديم السيد والعبد، النموذج المرجعي لعلاقة الاستحواذ بين الحاكم المستبد وبين مملوكيه، بين الطاغوت والملكوت، بين الصنم المعبود وبين مملوكيته للأرض وما عليها.
تتيح لنا هذه العلاقة الملتبسة في جميع الحالات، أن نستحضر في ضوء هذه التحويلة المعرفية، نظرية الخطاب التي قد لا تطابق الحقيقة الماثلة هنا أو هناك، وإنما هي ترتد إلى اللغة نفسها.
وقبل الحفر في تلك النقطة تحديدا، غابة هذه القراءة، أستكمل تعريفات الكواكبي للاستبداد لانها تبحث في الطغيان المجتمعي، أي تحيل إلى دور يلعبه الطغاة الصغار. هنا يمثل الطاغوت لحمة الاستبداد، في ما يمثل طغاة المجتمع الصغار سداته. يقول: “وأما تحكم النفس على العقل، وتحكم الأب والأستاذ والزوج، ورؤساء بعض الأديان، وبعض الشركات، وبعض الطبقات، يوصف بالاستبداد مجازاً أو مع الإضافة”.
أعود إلى التحويلة المعرفية، إلى النموذج المرجعي لثنائية السيد والعبد. ما يقوله الكواكبي بطريقته الخاصة، حول هذه العلاقة، قائم تحديداً على فرضية تميز الغرب بالممارسة الديمقراطية. وهو يطرح دون أن يدري، سؤالاً حول مفهوم “الاستبداد الشرقي” الذي أهمله إدوارد سعيد في انتصاره المحق للهوية الثقافية التي يمليها خطابه في الاستشراق. سؤال الاستبداد الشرقي الذي يؤرقني منذ سنوات هو: هل يمكن أن نحمل نحن العرب، هذا المفهوم العرقي المنزع على محمل الجد؟
أعترف أنني كنت أسيراً لمشكلة خطيرة: أن أكون نقدياً مع الذات، وأن أكون خلافا لذلك، اعتذارياً دفاعياً في مواجهة الآخر.
يقول الكواكبي: ” لنعترف أن بين الشرقيين والغربيين فروقا كثيرة، قد يفضل في الإفراديات الشرقي على الغربي، وفي الاجتماعيات يفضل الغربي على الشرقي مطلقا. مثال ذلك: الغربيون يستحلفون أميرهم على الصداقة في خدمته لهم والتزام القانون. والسلطان الشرقي يستحلف الرعية على الانقياد والطاعة! الغربيون يمنون على ملوكهم بما يرتزقون من فضلاتهم، والأمراء الشرقيون يتكرمون على من شاؤوا بإجراء أموالهم عليهم صدقات! الغربي يعتبر نفسه مالكا لجزء مشاع من وطنه، والشرقي يعتبر نفسه وأولاده وما في يديه ملكا لأميره! الغربي له على أميره حقوق وليست عليه حقوق، والشرقي عليه لأميره حقوق وليست له حقوق! الغربيون يضعون قانونا لأميرهم يسري عليه، والشرقيون يسيرون على قانون مشيئة أمرائهم!”
هكذا يكون توصيف الكواكبي للاستبداد متأرجحاً. هل كان يكتفي بتعرية الاختلاف، بمعنى التباين والتفاوت، أم يحول الاختلاف إلى خلاف بمعنى النزاع والخصومة؟
ترجع السجلات المعاصرة حول الاستبداد إلى القرن الثامن عشر في فرنسا. مونتسكيو يقسم الأنظمة السياسية إلى أنظمة جمهورية، وملكية، وذلك تبعاً لنظام قيمي من وضعه. وهو يميز بين النظامين الملكي والاستبدادي الشرقي على النحو التالي:
أولا: الملكية تقوم على تراتبية وراثية ثابتة. ولكن الاستبداد ينطوي على نظام تملك عنوانه العبودية المطلقة.
ثانياً: في النظام الملكي يتبع الحاكم العرف والعادة بينما يحكم المستبد بمزاج اعتباطي.
ثالثاً: في نظام الاستبداد لا توجد مؤسسات بين الفرد وبين الحكومة. وبحسب التقليد الإجرائي يتوقع من المستبد المتنور إزالة القيود المعيقة للتقدم والتطور الاقتصادي. وأما في الاستبداد الشرقي فإن المستبد يكون أسير المنزع الاعتباطي.
وفي الماركسية ارتبط مفهوم الاستبداد الشرقي بما تدعوه بنمط الاقتصاد الشرقي.
وأما الخصيصة الاعتباطية للحياة السياسية في المجتمعات الشرقية فتكمن في تحكم الدولة بالأرض وما عليها. وفضلاً عن ذلك فإن الاستبداد الشرقي، وبخاصة في تمثيلاته التي خبرناها هو تحقق هيمنة توتاليتارية بلا صناعة، شمولية تستحوذ على المجتمع المدني وينتفي فيها الفرد وحقه في التمثيل.
في هذه النقطة العليا بالتعبير السوريالي تندمج الديمقراطية المزورة والمستلة من النظام الجمهورين بالتراتبية الوراثية المستلة من النظام الملكي، لتصنع ما يدعى بالجملوكية.
ورغم الاحتجاج الصارخ من قبل الفقهين الديني والدنيوي، عنينا تجربة جيلنا خلال قرن، على ما يحدث للبشر والحجر، فإن نظرية الاستبداد الشرقي تعود الآن في الخطاب الثقافي السائد بقوة. وربما يصح القول أن جيلنا قد يعود ببعض الثأثأة والفأفأة إلى تبنيها ابستمولوجيا. بل ربما يعيد إخراجها. ولكن النظرية تظل معلقة بخيط.
وعلى الصعيد الشخصي، كما أسلفت، أجد نفسي نقدياً في سجال مع الذات، واعتذارياً متردداً في التحديق بنظرية الاستبداد الشرقي. هذه النظرية تجعل من الممكن النظر إلى الآخر من منظور ثنائية ضدية تحيل إلى برزخ الشرق والغرب باسم الخلاف لا الاختلاف. وهذا يعني التأكيد على الاختلاف المفضي إلى خلاف.
في كتابه “لماذا كان ماركس على حق” (2) يرى تيري إيغلتون Eagleton فقيه الماركسية، في تبنيه للتأكيد أن ما يدعى بـ”مابعد الكولونيالية” Postcolonial قد تزامن ظهوره مع كون: “النضالات من أجل التحرر الوطني قد اجتازت، كثيراً أو قليلاً، مجراها الطبيعي”.
كما يشدد على أن كتاب إدوارد سعيد “الاستشراق” قد ظهر في منتصف سبعينات القرن الماضي، أي عندما كانت الرأسمالية “تصد الروح الثورية في الغرب” ويستنتج إيغلتون من ذلك أنه “ربما كان مهما القول بهذا الشأن أن كتاب سعيد معاد للماركسية بقوة”.
(والمسكوت عنه في هذا السياق، أن الكتاب لأنه “معاد للماركسية” ليس نهضوياً ولا تنويرياً.).
ويضيف إيغلتون “حركة ما بعد الاستعمار في الوقت الذي احتفظت بميراثها الثوري، بمعنى من المعاني، تمثل إعادة موضعة، عملية استبدال لها. إنها بمثابة الخطاب بعد الثوري والمناسب لعالم ما بعد ثوري. لقد أنتجت حركة ما بعد الاستعمار عملاً ينطوي على اصالة واستبصار نادرين، وهي في أقل صورها مصادقية، ليست أكثر من مفوضية الشؤون الخارجية لمابعد الحداثة Postmodernism.”.
وهذا النفي للدور الثقافي الأبستمولوجي الذي لعبته حركة ما بعد الاستعمار، يذكرني، من حيث الشكل على الأقل، بنفي أحمد أمين للدور الذي لعبه فلاسفة الحضارة العربية الإسلامية من أمثال الفارابي وابن سينا وابن رشد الذين يصفهم بقوله أنهم كانوا “كالمفوضية اليونانية في البلاد الإسلامية”. (3).
والحال أن الوقوف عند هذه النقطة من السجال ضروري. فقد اتخذ الطاغوت الشرقي في علاقته بملكوته، تحديداً، اتخذ الماركسية شعاراً قوامه أمران:
الأول: هو شيطنة الديمقراطية بالتخفي وراء “ديكتاتورية البروليتاريا”.
وفي تفنيد هذا الشعار يقول إيغلتون إن الديكتاتورية في إطار ردة الفعل على انهيار الماركسية السوفياتية: “لا تعني بالضرورة في زمن ماركس ما تعنيه اليوم.”.
ولكن الديكتاتورية، خلافاً لما يقوله إيغلتون، تعني شيئاً واحدا، كانت دائما نقيض الديمقراطية.
الثاني: هو أن تجربة إدوارد سعيد في الاستشراق بعيدة كل البعد عن الاصوليتين العلمانية والدينية، بعيدة عن الشعارات بعدها عن الشعائر.
يقول سعيد جواباً عن سؤال حول إحياء الماركسية كخطاب معارض، بقوله: “مسألة الماركسية، لا أحب التعرض لها، لأنني لا أريد أن أتورط في إشكاليات اصطلاحية، أي من قبيل ما هي الماركسية؟ وهل أنا ماركسي أم لا؟ المدارس لا تهمني من قبيل الانخراط العضوي فيها. ما أراه هو شيء آخر تماما. وكمثقف مستقل وحر، أنا لا أعطي إلا أهمية دنيا لمسألة الشعار (ماركسي أو غير ماركسي)..”. ثم يستطرد: “لكن لا شك أن التحليل الماركسي، أو لنقل المادي يحتوي على عبر وعناصر مفيدة جدا للوضع الذي نعيشه الآن، خصوصاً في ما يخص العلاقات الاقتصادية” (4).
الخلاصة أن الهوية الثقافية العربية المتمثلة في باراديم إدوارد سعيد، النموذج المرجعي لنظرية ما بعد الاستعمار، تنطوي على سيرورة تعددية، إذ يكمن الآخر في محمولها المعرفي بقدر كمونها في المحمول المعرفي للآخر. يفتح سعيد الهامش على المركز، والمركز على الهامش لنقض التنميطات السلبية ضد الهامش بحثاً عن هوية ثقافية موحدة، هوية كونية تستقطب الحقيقة. قوام هذه الهوية، كا يراها سعيد مزيج من البنوة والتبني. البنوة تشمل الموروث الذي تعكسه الحتمية البيولوجية. وأما التبني فيشمل الخيار الحر، ولكن المقيد بنظرة نقدية، لتبني فكرة هي بمثابة الأب الثقافي الرمزي. (5).
ويعلل إدوارد سعيد ذلك كله بنقده ونقضه لفكرة الأصل والأصالة. إذ ليس ثمة من أصل لا يوجد أصل أبعد منه. يقول: “إذا كان من غير الممكن اختزال النقد إلى عقيدة أو مذهب سياسي حول مسألة معينة، وإذا كان حاضراً في العالم ومدركا لذاته في الوقت نفسه فإن هويته تكمن في اختلافه عن الفعاليات الثقافية الأخرى وأنظمة الفكر وطرائقه. إن النقد بريبته إزاء المفاهيم ذات النزوع الشمولي، وقلقه إزاء المواضيع المشيأة، وبرمه بالمصالح والاقطاعيات الخاصة، وبعادات الفكر المتصلبة، يصبح في وفاق مع نفسه.. على الفكر أن يعتبر نفسه فعالية تعزز قيمة الحياة وتناهض في جوهرها جميع أشكال الطغيان والتسلط.”. (6).
أشرت قبل قليل إلى أن إدوارد سعيد لم يتعرض لمفهوم الاستبداد الشرقي بشكل مباشر. إلا أن إصراره على رفض جميع أشكال الطغيان والتسلط ينطوي في تقديري على نقض مضمر لهذا المفهوم الذي وضعه عالم الاجتماع الألماني كارل وتفوغل Wittfogel الذي كان عضواً مبكراً في معهد البحث الاجتماعي بفرانكفورت، هاجر إلى الولايات المتحدة ولكنه لم يصبح عضواً بارزاً في المعهد المذكور. وفي عام 1955 كتب مؤلفاً بعنوان “الاستبداد الشرقي: دراسة مقارنية للسلطة” تناول فيه، من بين تجارب أخرى، نظام الحكم في الصين. كما بحث في الطروحات الماركسية حول نمط الإنتاج الآسيوي، إلا أن طروحاته التي وصفت بأنها تفتقر إلى المصداقية التجريبية، ربما تستعيد بعض عنفوانها الآن من منظور معالجة مفهوم التسلط والطغيان والحزب الواحد.
يتضح في ضوء ما تقدم أن الديمقراطية رغم شيطنتها، واهتزاز مصداقيتها، لا تنقض بمقولات شعارية.
ويمكن القول إنه في الوقت الذي تنظر فيه نظريات الحداثة إلى الآخر من منظور المركزية الأوروبية بحيث تختزل الفروق الثقافية لتصل إلى وحدة افتراضية، فإن النظريات التاريخية المنزع تنظر إلى الآخر من منظور قوامها الثقافي المحدد، فتؤكد بذلك على الاختلاف المولِّد للخلاف.
هذه المعرفة قد توصف بأنها غير متحررة كلياً، وأنها ربما لا تخضع لمعيار عقلاني مقنع. ولكن غياب الدمقراطية لا يمكن استنفار ميكانزمات الدفاع عنه باسم الهوية في مواجهة الآخر. كما لا يمكن إغفال القول إن صيرورة الهوية وتحولها إلى مشكلة، شأننا في العالم العربي، إنما يعبر عما يتجاوز الأزمة بكثير: الطاغوت مازال شرقيا بامتياز.
هوامش
: 1- عبد الرحمن الكواكبي، “طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد”، طبعة كولونيا، ألمانيا، 2006.
2- تيري إيغلتون، “لماذا كان ماركس على حق” (بالإنكليزية) نيو هافن ولندن 2011، ص 204.
3- أحمد امين، “ضحى الإسلام”، دار الكتاب اللبناني، بيروت، ج 3. ص 205.
4- إدوارد سعيد، حوار، نوري الجراح، “بيت بين النهر والبحر”، بيروت 2001، المؤسسة العربية للدراسات والنشر. ص 119.
5- إدوارد سعيد، “بدايات: القصد والمنهج” عالجنا ذلك في كتابنا “المختلف والمؤتلف” ميلانو 2019 منشورات المتوسط ص 218-219. 6- إدوارد سعيد “العالم والنص والناقد”، المصدر السابق ص 217.
خلدون الشمعة
ناقد من سوريا مقيم في لندن
—————————
ضرورة نقد الضحية
المسافة الضائعة بين “طبائع الاستبداد” و”طبائع المعذبين”
من “طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد” إلى “طبائع المعذبين ومصارع الموهومين”، من عنوان رسالة عبدالرحمن الكواكبي إلى افتتاحية نوري الجراح، إنها مسافة مئة عام من الهزائم والنكسات والخيبات، مصحوبة بصخب الثرثرات المدويّة بلا فائدة، وفي النهاية خرجنا خاوين بالكامل، منخورين من الداخل، ويا له من مآل! غير أن للحكاية تفاصيل باقية: عندما صار الداخل خاويا أصبح الخروج ملاذا تلقائيا مثل العصيانات العفوية، وهكذا تداعينا في لحظة حلم خاطفة، وفي غفلة من الزمن ومنا أيضا، لأجل الخروج من الداخل المنخور إلى داخل من نوع آخر.. ثم خرجنا على حين غرة.. لكن إلى أين؟
الدرس نفسه ننساه لكنه لا ينسانا: لا نخرج من الاستبداد إلا لكي نقع في أتون الفتنة، ولا نخرج من جحيم الفتنة إلا لكي نسلّم رقابنا لاستبداد ننحته بسكاكين حادة، ثم نغمدها في انتظار أن تحين ساعة الفتنة التي لا تبقي ولا تذر، قبل أن نلقي باللائمة على المتآمرين علينا، وكل ذلك ضمن حلقة مفرغة من خروج يعيدنا مرة بعد كل مرة إلى المربع الأول، إلى حظيرة القطيع، حيث مجمل خياراتنا أن نختار من يذبحنا؟ طبيعي والحال كذلك أن تتعامل كثير من العقول مع التدخل التركي والإيراني في المنطقة العربية بمنطق أن الاحتلال مثل الصدقة في الأقربين أولى !
حين أسمع تعقيبا على النحو التالي، أن تستعمرنا إيران أو تركيا لهو أزكى لنا من أن تستعمرنا فرنسا أو أميركا، أشعر بأن سؤال الحرية بعيد كل البعد عنا، وبأن سؤالنا الأوحد الذي لا نطرح سواه هو لمن نسلم أعناقنا بعد أن سلمنا عقولنا؟
ذلك هو الحال كما كان ولا يزال إلى الآن، منذ الفتنة الكبرى وما قبلها إلى غاية الحروب الأهلية الجارية اليوم وما بعدها. كأن قدر التاريخ الهجري أن يكون خلدونيا محكوما بالدوائر التي تدور مثل الرحى بين جحيم الفتنة وجمر الاستبداد.
أين المعضلة؟
تكمن المعضلة في أن كل واحد منا يحمل أصناما وألغاما داخل كينونته، وهي التي تحدد له سلفا حدود الطاعة والحرية، وترسم له الأفق الممكن وغير الممكن في اللاهوت والسياسة. وحين يقول الخطاب القرآني “لا يغير الله ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم”، فلأن أفق التغيير الممكن مرسوم داخل الأذهان قبل الأعيان.
قبل أن تندلع الحرب الأهلية داخل المجتمع فإنها تندلع داخل كل ذات على حدة، حين يجد المسلم نفسه في حرب أهلية مع عقله، حواسه، جسده، ميوله، أسئلته، خياله.. إلخ، يسهل عليه الدخول في حرب أهلية مع الآخرين، كل الآخرين، مع الجميع.
من غير المؤكد أن الاستبداد سينهار قريبا، لكن المؤكد أن الثورات قد انهارت بالفعل، بل لعلّها لم تكن في أساسها سوى طبعات متأخرة لـ”الثورة المغدورة”، غير أن المتأخرين يعاقبهم التاريخ كما يقال، ثم إن كل ثورات التاريخ ليست سوى نسخ متكررة للثورة المغدورة، طالما لا تأتي النتائج وفق التوقعات، هي الحكاية نفسها على الدوام. فهل كنا نأمل في آمال مغايرة هذه المرة؟
الحوار الذي أجراه نوري الجراح مع عبدالرحمن الكواكبي في قبره، وهو مثل المناجاة في اللحظات العصيبة، كان جميلا وجليلا، لكنه لم يكن مجرد حوار بين الأفكار، بل كان حوارا بين أفقين للتفكير: من جهة أولى “طبائع الاستبداد” التي توجه سهام النقد نحو منظومة الاستبداد، و”طبائع المعذبين” التي توسع من دائرة النقد لتشمل “الضحايا” أيضا. إن الخطأ القاتل في تاريخ “الضحايا” ليكمن في اعتبارهم محصنين من النقد لا لشيء إلا لأنهم ضحايا. هذا الخطأ له اسم محدد: عصمة الضحايا.
في كل الأحوال، لا خلاص في الأفق القريب أو الأقرب، وبهذا النحو نكون قد التقينا بالسؤال اللينيني في المكان الذي لا نتوقعه: ما العمل؟
قدرنا هو العود إلى البدء، غير أن العودة يجب أن تكون كما ينبغي هذه المرة:
البدء أبداء عديدة، وهذا أحدها: اِقرأ. ألسنا أمة اقرأ؟
لوحة: أنس سلامة
لوحة: أنس سلامة
التعليم، الثقافة، التربية، التنوير، هو شغلنا الحقيقي الذي انتبه إليه الكواكبي قبل أن نغفله أو نغفل عنه في غمرة أوهام السياسة. وأوهام السياسة لا حصر لها، من ضمنها الاعتقاد بأن السياسة بوسعها أن تحلّ كل مشاكل الحضارة والوجود والعقل والتاريخ وهلم جرا. وهذا مجرد هراء.
المسافة الزمنية بين عنوان الكواكبي” طبائع الاستبداد، وعنوان الجراح “طبائع المعذبين”، تحتلها كثير من النظريات في الفلسفة السياسية، يمكن استحضارها.
مثلا: وفق مقاربة ميشيل فوكو لمفهوم السلطة، ليست السلطة جوهراً متعالياً، بل روح تسري فينا جميعاً وتنتشر في كل تفاصيلنا اليومية، ثم يملك كل واحد منا نصيبه من التواطؤ فيها، حتى وإن كانت تسحقه في الأول أو في الأخير. لا تنحصر السلطة في مكان محدد، ولا تهبط علينا من فوق، لكنها تنتشر أفقياً وعمودياً وتسري يومياً في كل المسارات والساحات والمؤسسات. لذلك ليس سلوك الحكام سوى قمة ظاهرة من هرم عريض في القعر، يمتد في الأعماق ليشمل كل التفاصيل المرئية وغير المرئية للمجتمع: أنظمة الرموز والدلالات، نمط الإنتاج الاقتصادي، نمط إنتاج الحقيقة، اللاوعي الجمعي، بنية الأسرة.. إلخ. هنا يكمن مغزى مقولة تشرشل “كل شعب في العالم ينال الحكومة التي يستحقها”. وهي مقولة تشبه حديثاً منسوباً إلى رسول الإسلام “كما تكونوا يولى عليكم.”
هل معنى ذلك أن الإجابة عن السؤال “ما العمل”، هي أن لا شيء ممكن؟
يرى ميشيل فوكو أننا ليس بوسعنا أن نفعل الكثير، لكن لا بدّ من أن نفعل شيئاً ما، إذ هناك دوماً ما يمكن فعله. وطالما السياسة فن الممكن كما يرى لينين، فما هو الممكن الآن؟
المعطى الأساسي أن النظم السياسية لا تتغير جرّاء تغيير الحكام، أو تغيير المسؤولين أو طردهم – حتى ولو كان طرد بعض المسؤولين يحمل بعض الإنصاف أحياناً – لكن يتغيّر النظام السياسي جرّاء تغيير تلك الرّوح التي تسري في كل الحيثيات والجزئيات التي نصادفها يوميًا. لعلها مهمة شاقة على الحالمين، محبطة للناقمين، طالما أنها تراهن على تغيير العقول والأذواق، رويدا رويدا، وبعيداً كل البعد عن عقيدة الخلاص، لكنها في الحساب الأخير تظل المهمة الثورية الفعلية بكل المقاييس، دونها ستغدو الممارسات الثورية مجرد حملات دونكيشوتية، أو حفلات تنكرية، أو دوران في حلقات مفرغة تعيد إنتاج نفس التسلط بأقنعة مغايرة.
إن كان منتظراً من المثقف أن يكون شخصاً مزعجاً للسلطة كما يقال، فإن التعبير الأدق أن يكون مزعجاً لروح السلطة التي تسري في كل التفاصيل، من القوانين الجنائية إلى تقاليد الزواج، ومن مؤسسات الدولة إلى نمط اللباس، ومن نمط الإنتاج إلى طريقة تناول الطعام. دعنا نقولها بوضوح: جبهتنا القادمة، وهي الجبهة الباقية أيضا، تتعلق بإصلاح العقل والحضارة والكينونة.
نتحدث تحديداً عن المثقف اللّاخلاصي – ولعل فكرة اللاخلاص جوهرية في نص نوري الجراح – بحيث يبقى أفق المثقف اللاخلاصي خارج حسابات السلطة. إنه لا يحرّض أحداً على أحد، طالما هو ناقد عمومي للجميع، للدولة والمجتمع، للسلطة والرأي العام، للنخب والجمهور، إنه ناقد لروح السلطة بمعناها العام. ذلك أن التغيير بالمعنى الفوكوي ليس وسيلة لإقامة نظام نهائي ومطلق، بل سيرورة دائمة ومتواصلة، يتعلق الأمر بنوع من الثورة الدائمة إذن، لكن دون أيّ أفق خلاصي هذه المرة، بحيث لا غاية أخرى سوى أن لا تتوقف صيرورة الحياة.
ليس ضرورياً أن أؤمن بأن الجنة غداً حتى أتصرف الآن؛ ذلك أن الإيمان بالخلاص الدنيوي هو أصل الإحباط الذي يصيب كثيراً من الثوريين وبالتالي يتحولون في كثير من الأحيان إلى مرضى ناقمين على كل شيء، ساخطين على كل شيء، متذمرين من كل شيء، قبل أن يلجأ بعضهم الآخر إلى استبدال الخلاص الأخروي بالخلاص الدنيوي.
علينا أن نتعلم درس التغيير
المهمة الأكثر ثورية في التاريخ أن نُعلّم الناس كيف يفكرون؟ وكيف يختبرون بأنفسهم إمكانيات أخرى من التفكير وبما يقلص من الانفعالات السلبية التي هي شرارات الفتن كلها؟ ذلك أن تحسين شروط التفكير لدى الناس من شأنه أن يقود عملياً إلى تحسين السلوك المدني، وتحسين شروط الحياة، بعيداً عن خرافة عصر ذهبي قادم في الأفق، أو عائد من جديد، بعيدا كل البعد عن أساطير الخلاص.
ليس الثوري من يُعلّم الناس الشؤم والشكوى والتذمر وما إلى ذلك من أمراض الروح، لكنه من يعلّمهم مهارات الحياة، ويؤجج إرادة النمو باستمرار سواء في ذاته أم في سائر الذوات التي تقاسمه الحراك، وذلك بالعمل على انتقاء الصياغة المناسبة للأسلوب الحكيم، كما ليست مهمته أن يبشّر الناس بوعود عظيمة مثلما يفعل الأنبياء وأشباههم.
بعد كل ذلك فإنه لا يعلم إن كان سيحقق نتائج جيدة خلال حياته القصيرة، لكنه في كل أحواله يعيش معافى من الحقد والكراهية والتذمر، فيحقق لذاته ذلك النمو الذي هو على نفسه حق، وتلك البهجة التي هي على نفسه حق كذلك، فيكون سيد نفسه بالفعل، وبالجملة فإنه يحيا باعتباره مواطناً إيجابياً جديراً بالمواطنة، في نفس الوقت الذي يعيش فيه حياة كريمة جديرة بالحياة. وهذا أعز ما يُطلب في كل الأحوال والأهوال.
سعيد ناشيد
كاتب من المغرب
——————————
ملف من اعداد مجلة الجديد
==============================