زمن المحنة: ذكريات الشيخ سارية الرفاعي عن الثورة السورية/ محمد تركي الربيعو
كان المرض قد اشتد على حافظ الأسد في يوم من أيام تسعينيات القرن الماضي، بعد فترة قصيرة من بدئه فك الحصار عن المدن والحياة العامة في سوريا، الذي سبقه عقد تقريبا من قتاله للإسلاميين وغيرهم، وزجه وقتله للآلاف منهم؛ فقد أصيبَ بمرض اللوكيميا في فترة الثمانينيات، وفي هذه الظروف، أخذ الجنرال يبحث عن خليفة له من سلالته، كي يستمر استقرار العائلة والعشيرة كما كان يردد ويهمس المقربون منه. بيدَ أن فكرةَ التوريث هذه كانت تتطلب مراسيم وطقوسا وشهودا من الأعيان المحليين، التي وإن لم تعد تقلَق الأسدَ أمنيا وسياسيا، بعد سنوات من التوحش، إلا أن وجودها كان ضروريا لأي عملية انتقال سلس.
في هذه الأثناء، سيقرر الأب الانفتاحَ على بعض الأوساط السنية في الحواضر الكبيرة مثل، دمشق وحلب، وسيلعب بعض رجال الدين السنة والتجار دورا في هذا التقارب، إذ أخذوا يتوسطون في حلحلة بعض الملفات الاقتصادية، وأيضا في التوسط لعودة بعض الذين هربوا خلال فترة الثمانينيات بسبب ما قيل عن ميولهم أو تأييدهم للمطالب الإسلامية. وكان من بين من جرى التوسط لهم آنذاك الشيخان أسامة وسارية الرفاعي، نجلا الشيخ الراحل عبد الكريم الرفاعي، ففي خضم الصراعات والعنف، أجبرَ هذان الشابان في عام 1981 على الهرب إلى المملكة العربية السعودية، ورغم عدم وضوح أسباب هذا الفرار، لكن مجردَ هروبهما، أخذ يعني وجودَ اتهامات لهما بالتأثر بمطالب الإسلاميين آنذاك، وهو تأثر قد يبدو محتملا في تلك الفترة على صعيد شباب كانوا ينتمون لجماعة زيد وغيرها من الجماعات. إذ يذكر عالم الإسلاميات رضوان السيد، أنه خلال فترة الستينيات والسبعينيات، استطاع الإخوان المسلمون بطروحاتهم، أن يؤثروا في أوساط الإسلام التقليدي، وسواء كان الشيخان قد تأثرا في فترة ما بهذه الرؤية أم لا، ستثمر الوساطات الدمشقية، وسيتمكنان من العودة لدمشق في عام 1993.
كانت جماعة زيد في تلك الفترة، قد مرّت بحالة من الجمود في ظل إقامة شيوخها في المنفى، ما أدى لخسارتها لبعض المواقع في دمشق، مثل المالكي والمزة، ولذلك مثلت عودة الشيخين فرصة لإعادة إحياء دورها من جديد، وفي غضون فترة قصيرة، سيتمكنان من لعب دور واسع في الأوساط المحلية الدمشقية، وبالأخص داخل أوساط الطبقة الوسطى التجارية، كما أخذ كثيرون من أبناء الكفتارية والشيوخ الآخرين يحضرون دروس الشيخ أسامة في مسجد «الرفاعي» في حي كفرسوسة وسط المدينة، أو دروس الشيخ سارية في مسجد زيد بن ثابت في منطقة باب سريجة.
كان الشيخان قد قررا بعد العودة، السير على خطى والدهما في تدريس الدين، كان الشيخ الراحل عبد الكريم الرفاعي، قد أدركَ، وفقا لتحليل توماس بيريه، أن المعاهدَ الدينية لم تكن قادرة على استقطاب طلاب المدارس الحديثة، كما كان يأمل في أن يتحولَ الجامع إلى جامعة، وألا يقتصرَ دوره على الصلوات اليومية، ولذلك أخذ هو وأبناؤه من بعده، يعملونَ على جذب الطلاب إلى الجامع، من خلال بعض الدروس التكميلية للمواد العلمية، كما أدى النمو المتزايد لمعرفة القراءة والكتابة في القرن العشرين، إلى زيادة عدد الذين يطمحونَ إلى أن يصبحوا حافظين للقرآن، وهنا لم يكن الرفاعي يستجيب فقط لواقع اجتماعي جديد، بل أثبتَ أيضا أنه مرن بدرجة تكفي لكسر جزء من التقليد العلمي، من أجل تسهيل أن يكونَ الناس من الحافظين، فحتى ذلك الوقت، تطلبَ الحصول على مثل هذه الإجازة حفظ عشر طرائق مختلفة لقراءة القرآن. وبالنسبة إلى طالب متحمس، كانت هذه المسألة تتطلب أربع أو خمس سنوات من التعليم، ولذلك وضعَ الشيخ الرفاعي الأب نهاية لهذه الحالة، بأن طلبَ من شيخ القراء محيي الدين أبو الحسن الكردي (توفي عام 2009) إصدارَ إجازة لأي شخص حفظَ قراءةَ حفص، وقد عنى هذا دمج المئات من أبناء الطبقة الوسطى التجارية والغنية في فضاء هذه الجماعة، وشيئا فشيئا كانت الجماعة تتضخم، وكانت أعمالها الخدمية والإغاثية تتوسع، بالإضافة لذلك بدت الجماعة للكثيرين أكثر استقلالا عن النظام. وستدفع هذه العوامل جميعها النظام إلى إعادة ترتيب خريطة الجماعات الدينية في دمشق، وهذا ما بدا في عام 2002 من خلال زيارة ابن العراب (كما كانت تصفه الدوائر الأمريكية) للشيخ أسامة الرفاعي.
وفي عام 2004، عادت الأزمة السياسية لتلقي بظلالها من جديد حول سوريا. كان كولن باول قد زار دمشق، وفي الاجتماع سمعَ الأسد تهديدا مبطنا، كما أن الأوضاعَ الاقتصاديةَ في البلاد لم تكن على ما يرام، ولذلك سيسمح النظام لجماعة زيد بالمضي قدما في مشاريعها الخيرية (عبر مشروع حفظ النعمة)، بينما لم تكن شبكات العلماء التقليدية مثل، كفتارو قادرة على أداء هذا المهام بالفعالية الكافية، وسيتيح هذا الوضع للشيخين لعب دور واسع من خلال اتحاد الجمعيات الخيرية في دمشق، الذي ترأسه الشيخ سارية، كما ستتمكن جماعة زيد في فترة قصيرة من التأثير والنشاط في أوساط أوسع، بيد أن فترةَ الهدوء هذه لن تستمرَ طويلا؛ فبعد سنوات قصيرة، سيزور الأسد باريس، وفي طريق عودته سيطالب، بعد أن شعر بالاسترخاء الدولي، بكبح دور هذه الجماعة وبعض المعاهد الدينية.
كان ذلك في عام 2008، مع ذلك سيبقى للشيخين دور ومكانة في دمشق ولدى المسؤولين، ومع اندلاع الربيع السوري، ستتحول مساجدهما إلى إحدى بؤر الاحتجاج الأساسية داخل العاصمة، وعلى الرغم من مغادرتهما البلادَ بعد قرابة سنة تقريبا على اندلاع المظاهرات، يبقى لوجودهما وخطبهما في بداية الحراك رمزية كبيرة ومجالا أيضا للنقاش حول دور العلماء في الثورة السورية، ولذلك طالبَ كثيرون الشيخين بالكتابة عن المحنة التي عاشوها خلال هذه السنة؛ وبعد تأجيل لهذا المشروع، سيقرر الشيخ سارية الرفاعي، وهو على فراش المرض، كتابةَ فصول من تلك الأيام، لتصدر الأسبوع الفائت بعنوان «مذكرات في زمن الثورة» مكتبة الأسرة العربية.
الشيخ الإصلاحي
مع انطلاق الثورة، كانت «الحريقة» قد اشتعلت، وكان كثير من تجار هذا السوق قد اعتادوا التبرعَ للمؤسسات الخيرية التي تديرها جماعة زيد. وبعد انتقال الاحتجاجات إلى درعا أخذنا نسمع في كل يوم، كما يذكر الشيخ سارية، عن سقوط قتلى وجرحى في مظاهرة، ولذلك سيخطب الشيخ في الجمعة خطبة بعنوان «جريمة القتل»، ليحذرَ فيها الشباب من الخروج، يومها سيقول «إنها مؤامرة للقضاء على أمثالكم، وإنها مؤامرة لتقسيم البلاد، فحذار من استغلال غيرتكم بنداءاتكم وصيحاتكم»، وما سيذكره أيضا: «إن كانت المظاهرات ستتحول من سلمية إلى مسلحة، فأقول: إن مظاهراتكم حرام حرام حرام».
بعد هذه الخطبة سيقوم النظام باختزال الخطبة ووضعها على الشريط الإخباري تحت عنوان (الشيخ سارية: المظاهرات حرام حرام حرام). في اليوم التالي، يذكر الشيخ سارية: «تكلمت مع المسؤول الأمني في القصر الجمهوري، وقلت إنكم تكذبون على لساني، فقال له: أيرضيك أن تبث الخطبة بكاملها؟ وفعلا بثوها في المساء بأكملها». ومما يذكره أن دورَ المشايخ الذين آثروا الكلامَ على الصمت في هذه الفترة، لم يكن يهدف لتهييج المشاعر وإثارة الجماهير، بل كان الغرض من ذلك القيام بواجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وفي مكان آخر يقول: «كانت خطب أخي الشيخ أسامة تقول: بأننا ما كنا نريد في خطبنا إثارة أو تهييجا، وإنما أردنا النصحَ للحاكم والمحكوم، وهذا هو واجب العلماء»؛ ولعل في هذا الكلام ما يذكرنا بقراءة جواد قرشي لخطب علماء دمشق في الفترة الأولى من الثورة، إذ يبين قرشي أنه على الرغم من أن خطبَ الرفاعي بدت متناقضة مع دروس وخطب البوطي، من خلال إلقاء اللوم على الحكومة والأسد، وكل من هم في موضع المسؤولية، وهذا ما كان يعني الوقوفَ مسافة بعيدة عن الموالاة، لكن ذلك لم يعن تبنيا صريحا لموقف المعارضة، فالرفاعي ومن خلال خطبه، حاولَ لعبَ دور الوسيط الأخلاقي بين الحكومة والمتظاهرين، وتقديم دليل إرشادي ديني للمتظاهرين، وليس تنصيب نفسه قائدا أيديولوجيا لهم، وهذا ما لم يفهمه النظام، ولا قوى المعارضة التي حاولت إضفاءَ صبغة ثورية على خطب هؤلاء العلماء.
وما يذكره الشيخ سارية عن هذه الفترة أيضا أن بشار الأسد أرسلَ له طلبا للقاء خاص به وبالشيخ أسامة، وعند اللقاء أعلماه بأن شريحة المتدينين أصبحت مستهدفة في وظائف الدولة، فقد أحيلت ألف ومئتا امرأة من التعليم بسبب حجابهن ونقابهن، كما طالباه بتخصيص مكان للصلاة في المراكز التجارية، وكان ردّ بشار الأسد أنه سيصدر مراسيم بإعادة المدرسات المنقبات والاعتراف بالمعاهد الشرعية. وهنا نجد الشيخين وهما يدافعان عن مصالح قطاع معين (المتدينين) الذين يشكلون الخزانَ البشري لجماعة العلماء في المدينة، وبدا بشار الأسد وكأنه متفهم لما قاله الشيخان، لذلك طلب منهما مقابلةَ وجهاء درعا «لما لكما من مكانة في قلوب أهل درعا لمعرفة مطالبهم، ووعدهم بتنفيذها».
في اليوم التالي، سينطلق الشيخ بسيارته إلى درعا المحاصرة، يومها سيطلب منه الحاضرون 14 عشر مطلبا: منها تغيير المحافظ، والسماح بحفر آبار بدون أتاوات، وبعد عودته رفعَ قائمةَ المطالب إلى القصر الجمهوري، وجاء الرد، كما يذكر، بعد يومين من خلال قتل 41 شابا في مدينة الصنمين «ما جعلني أقسم يمينا أن لا أزوره بعد الآن، ولا ألتقي بأحد من ضباط الأمن»، رغم هذا اليمين، سيبقى الشيخ يحاول نصحَ حاشية الأسد آصف شوكت وهشام اختيار، ويؤكد الشيخ أن في حواراته مع هؤلاء الأشخاص كان يلمس أحيانا الرغبةَ في مزيد من الحوار للوصول إلى اتفاق.
ويخصص الشيخ سارية أوراقا عديدة من ذاكرته للحديث عن الشيخ البوطي، ومما يذكره أنه قبيل الثورة كان البوطي لا يطيق أن يسمعَ باسم المفتي العام، ويتكلم في حقه كلاما يكاد يخرجه من الملة، وكان يبدي امتعاضا من تجاهل النظام له ولمطالبه، كما كان يعبر عن حزنه وألمه من مسلسل «ما ملكت أيمانكم»، والذي كان بتوجيه من الدولة عموما (ومن آصف شوكت بالأخص). إذ كان بطل المسلسل (أبو توفيق)، وهي كنية الشيخ الدكتور، وكان المسلسل يضع صورةَ جامع الإيمان الذي يدرس فيه الشيخ، فكان فيه الغمز واللمز بالشيخ الدكتور البوطي، وبالداعيات اللاتي يدعمن الشيخَ في عملهن. كما يذكر أن البوطي كان قد اعتادَ على لقاء دوري يحضره مع عدد من العلماء في منزل الشيخ أسامة، للتشاور في الأمور العامة. وقد استمر اللقاء الدوري ما يقرب من سنتين، لكن عندما بدأت الثورة اعتذرَ البوطي عن الحضور، لأنه «سمعَ بأن الشيخ سارية ملاحق».
وفي تفسيره لمواقف البوطي من النظام والثورة، يؤكد الشيخ سارية أن الدكتور البوطي كان طيبَ القلب يصدق كل ما يسمع من الرئيس، أو من ضباط الأمن، وأنه كان يعتقد بوجود مؤامرة كونية تريد النيلَ من استقرارنا وأمننا، مع ذلك فهو لم يؤيد قتلَ المتظاهرين، بدليل الفتوى التي أطلقها بعد أن سأله جندي (ربما الحادثة من مخيال البوطي) قائلا: تأتيني الأوامر أن أطلقَ الرصاصَ على المتظاهرين، فهل أقتل؟ قال الشيخ: إياك أن تقتل، وقد ذكرت هذا من قبل.
ومن الحوادث التي لا يأتي الشيخ على ذكرها في هذه المذكرات، ما عرف بأحداث ليلة القدر، التي تعرضَ فيها الشيخ أسامة للضرب، وكانت سببا في توقفهم عن الخطابة. يومها هتفَ المتظاهرون شعارات مناهضة للنظام داخل مسجد الرفاعي، وفي الصباح الباكر اقتحموا المسجدَ وقتلَ أحد المصلين وجرحَ الشيخ أسامة، حينها ظن الكثيرون أن دمشق ستتنفض عن بكرة أبيها، لكن ردةَ الفعل جاءت على غير ذلك، بعدها تشجعَ النظام وقررَ منعَ الشيخين من الخطابة. يومها سيكتب أحد تلاميذ الرفاعي «يا شيخ أسامة… أهل دمشق خانوك؟» في إشارة لخوف أهل دمشق من مناصرته، بيدَ أن الشيخَ سارية هنا يشيد بأهل دمشق وبكرمهم (وبالأخص تجارهم)، ولهفتهم لإغاثة الفقراء والمظلومين.
يوميات الهجرة
بعد واقعة ليلة القدر، سيجد الشيخ نفسه حبيس بيته، لا خطبة ولا تواصل ولا نشاط، فضلا عن تهديدات مبطنة بالقتل، ولذلك سيقرر الرحيلَ إلى القاهرة، المدينة التي عرفها خلال دراسته في الأزهر. وهناك عادَ الشيخ لفترة من الزمن يمارس دوره في العمل الخيري، لكن انقلابَ السيسي، سيدفع به، كما بآلاف من السوريين، إلى شد عصا الترحال من جديد إلى إسطنبول.
وفي تركيا سيكون للشيخ دور في تأسيس المجلس الإسلامي، كما سيكون له دور فاعل في جمع المساعدات للآلاف من السوريين، مع ذلك، ورغم إدارته لمئات الآلاف من الدولارات، لن يتمكن «شيخ التجار» (كما كان يوصف في دمشق لقدرته على جمع المساعدات) من تدبير معيشة حياته بشكل يسير، إذ يذكر لنا أنه اضطر إلى ترك حي باشاك شهير في القسم الأوروبي من مدينة إسطنبول، والانتقال إلى أحد أحياء الطرف الآسيوي، لعدم قدرته على دفع تكاليف آجار عالية، ويذكر الشيخ أنه كانت تمر أيام وليس في جيبه وجيب أبنائه أكثر من مئة ليرة تركية (15 دولارا حاليا)، وأنه بعد انتقاله، وبسبب هذه الضائقة، قررَ مع زوجته البالغة من العمر 65 عاما وأحفاده، صناعة وبيع الكبة الشامية (أكلة شامية) لتتطورَ لاحقا هذه الصناعة عبر استهلال مشروع (نفس شامي). وعند زيارة صفحة النفس الشامي، أول ما يلاحظه المتصفح صورةَ صحن/منسف الكبة الكبيرة، الذي اختير كلوغو للمشروع؛ بقي أن نذكرَ أن هناك جزءا آخر من مذكرات الشيخ سيصدر في وقت قريب بعنوان «ذكريات ومواقف من حياتي»، وهو ما قد يتيح لنا التعرفَ على محطات من حياة العلماء في سوريا خلال فترة الأسد، ولعلها تكون فرصة ليقدمَ غيره من العلماء ورجال الدين على الخوض في ذكرياتهم.
٭ كاتب سوري القدس العربي
زمن المحنة: ذكريات الشيخ سارية الرفاعي عن الثورة السورية/ محمد تركي الربيعو
كان المرض قد اشتد على حافظ الأسد في يوم من أيام تسعينيات القرن الماضي، بعد فترة قصيرة من بدئه فك الحصار عن المدن والحياة العامة في سوريا، الذي سبقه عقد تقريبا من قتاله للإسلاميين وغيرهم، وزجه وقتله للآلاف منهم؛ فقد أصيبَ بمرض اللوكيميا في فترة الثمانينيات، وفي هذه الظروف، أخذ الجنرال يبحث عن خليفة له من سلالته، كي يستمر استقرار العائلة والعشيرة كما كان يردد ويهمس المقربون منه. بيدَ أن فكرةَ التوريث هذه كانت تتطلب مراسيم وطقوسا وشهودا من الأعيان المحليين، التي وإن لم تعد تقلَق الأسدَ أمنيا وسياسيا، بعد سنوات من التوحش، إلا أن وجودها كان ضروريا لأي عملية انتقال سلس.
في هذه الأثناء، سيقرر الأب الانفتاحَ على بعض الأوساط السنية في الحواضر الكبيرة مثل، دمشق وحلب، وسيلعب بعض رجال الدين السنة والتجار دورا في هذا التقارب، إذ أخذوا يتوسطون في حلحلة بعض الملفات الاقتصادية، وأيضا في التوسط لعودة بعض الذين هربوا خلال فترة الثمانينيات بسبب ما قيل عن ميولهم أو تأييدهم للمطالب الإسلامية. وكان من بين من جرى التوسط لهم آنذاك الشيخان أسامة وسارية الرفاعي، نجلا الشيخ الراحل عبد الكريم الرفاعي، ففي خضم الصراعات والعنف، أجبرَ هذان الشابان في عام 1981 على الهرب إلى المملكة العربية السعودية، ورغم عدم وضوح أسباب هذا الفرار، لكن مجردَ هروبهما، أخذ يعني وجودَ اتهامات لهما بالتأثر بمطالب الإسلاميين آنذاك، وهو تأثر قد يبدو محتملا في تلك الفترة على صعيد شباب كانوا ينتمون لجماعة زيد وغيرها من الجماعات. إذ يذكر عالم الإسلاميات رضوان السيد، أنه خلال فترة الستينيات والسبعينيات، استطاع الإخوان المسلمون بطروحاتهم، أن يؤثروا في أوساط الإسلام التقليدي، وسواء كان الشيخان قد تأثرا في فترة ما بهذه الرؤية أم لا، ستثمر الوساطات الدمشقية، وسيتمكنان من العودة لدمشق في عام 1993.
كانت جماعة زيد في تلك الفترة، قد مرّت بحالة من الجمود في ظل إقامة شيوخها في المنفى، ما أدى لخسارتها لبعض المواقع في دمشق، مثل المالكي والمزة، ولذلك مثلت عودة الشيخين فرصة لإعادة إحياء دورها من جديد، وفي غضون فترة قصيرة، سيتمكنان من لعب دور واسع في الأوساط المحلية الدمشقية، وبالأخص داخل أوساط الطبقة الوسطى التجارية، كما أخذ كثيرون من أبناء الكفتارية والشيوخ الآخرين يحضرون دروس الشيخ أسامة في مسجد «الرفاعي» في حي كفرسوسة وسط المدينة، أو دروس الشيخ سارية في مسجد زيد بن ثابت في منطقة باب سريجة.
كان الشيخان قد قررا بعد العودة، السير على خطى والدهما في تدريس الدين، كان الشيخ الراحل عبد الكريم الرفاعي، قد أدركَ، وفقا لتحليل توماس بيريه، أن المعاهدَ الدينية لم تكن قادرة على استقطاب طلاب المدارس الحديثة، كما كان يأمل في أن يتحولَ الجامع إلى جامعة، وألا يقتصرَ دوره على الصلوات اليومية، ولذلك أخذ هو وأبناؤه من بعده، يعملونَ على جذب الطلاب إلى الجامع، من خلال بعض الدروس التكميلية للمواد العلمية، كما أدى النمو المتزايد لمعرفة القراءة والكتابة في القرن العشرين، إلى زيادة عدد الذين يطمحونَ إلى أن يصبحوا حافظين للقرآن، وهنا لم يكن الرفاعي يستجيب فقط لواقع اجتماعي جديد، بل أثبتَ أيضا أنه مرن بدرجة تكفي لكسر جزء من التقليد العلمي، من أجل تسهيل أن يكونَ الناس من الحافظين، فحتى ذلك الوقت، تطلبَ الحصول على مثل هذه الإجازة حفظ عشر طرائق مختلفة لقراءة القرآن. وبالنسبة إلى طالب متحمس، كانت هذه المسألة تتطلب أربع أو خمس سنوات من التعليم، ولذلك وضعَ الشيخ الرفاعي الأب نهاية لهذه الحالة، بأن طلبَ من شيخ القراء محيي الدين أبو الحسن الكردي (توفي عام 2009) إصدارَ إجازة لأي شخص حفظَ قراءةَ حفص، وقد عنى هذا دمج المئات من أبناء الطبقة الوسطى التجارية والغنية في فضاء هذه الجماعة، وشيئا فشيئا كانت الجماعة تتضخم، وكانت أعمالها الخدمية والإغاثية تتوسع، بالإضافة لذلك بدت الجماعة للكثيرين أكثر استقلالا عن النظام. وستدفع هذه العوامل جميعها النظام إلى إعادة ترتيب خريطة الجماعات الدينية في دمشق، وهذا ما بدا في عام 2002 من خلال زيارة ابن العراب (كما كانت تصفه الدوائر الأمريكية) للشيخ أسامة الرفاعي.
وفي عام 2004، عادت الأزمة السياسية لتلقي بظلالها من جديد حول سوريا. كان كولن باول قد زار دمشق، وفي الاجتماع سمعَ الأسد تهديدا مبطنا، كما أن الأوضاعَ الاقتصاديةَ في البلاد لم تكن على ما يرام، ولذلك سيسمح النظام لجماعة زيد بالمضي قدما في مشاريعها الخيرية (عبر مشروع حفظ النعمة)، بينما لم تكن شبكات العلماء التقليدية مثل، كفتارو قادرة على أداء هذا المهام بالفعالية الكافية، وسيتيح هذا الوضع للشيخين لعب دور واسع من خلال اتحاد الجمعيات الخيرية في دمشق، الذي ترأسه الشيخ سارية، كما ستتمكن جماعة زيد في فترة قصيرة من التأثير والنشاط في أوساط أوسع، بيد أن فترةَ الهدوء هذه لن تستمرَ طويلا؛ فبعد سنوات قصيرة، سيزور الأسد باريس، وفي طريق عودته سيطالب، بعد أن شعر بالاسترخاء الدولي، بكبح دور هذه الجماعة وبعض المعاهد الدينية.
كان ذلك في عام 2008، مع ذلك سيبقى للشيخين دور ومكانة في دمشق ولدى المسؤولين، ومع اندلاع الربيع السوري، ستتحول مساجدهما إلى إحدى بؤر الاحتجاج الأساسية داخل العاصمة، وعلى الرغم من مغادرتهما البلادَ بعد قرابة سنة تقريبا على اندلاع المظاهرات، يبقى لوجودهما وخطبهما في بداية الحراك رمزية كبيرة ومجالا أيضا للنقاش حول دور العلماء في الثورة السورية، ولذلك طالبَ كثيرون الشيخين بالكتابة عن المحنة التي عاشوها خلال هذه السنة؛ وبعد تأجيل لهذا المشروع، سيقرر الشيخ سارية الرفاعي، وهو على فراش المرض، كتابةَ فصول من تلك الأيام، لتصدر الأسبوع الفائت بعنوان «مذكرات في زمن الثورة» مكتبة الأسرة العربية.
الشيخ الإصلاحي
مع انطلاق الثورة، كانت «الحريقة» قد اشتعلت، وكان كثير من تجار هذا السوق قد اعتادوا التبرعَ للمؤسسات الخيرية التي تديرها جماعة زيد. وبعد انتقال الاحتجاجات إلى درعا أخذنا نسمع في كل يوم، كما يذكر الشيخ سارية، عن سقوط قتلى وجرحى في مظاهرة، ولذلك سيخطب الشيخ في الجمعة خطبة بعنوان «جريمة القتل»، ليحذرَ فيها الشباب من الخروج، يومها سيقول «إنها مؤامرة للقضاء على أمثالكم، وإنها مؤامرة لتقسيم البلاد، فحذار من استغلال غيرتكم بنداءاتكم وصيحاتكم»، وما سيذكره أيضا: «إن كانت المظاهرات ستتحول من سلمية إلى مسلحة، فأقول: إن مظاهراتكم حرام حرام حرام».
بعد هذه الخطبة سيقوم النظام باختزال الخطبة ووضعها على الشريط الإخباري تحت عنوان (الشيخ سارية: المظاهرات حرام حرام حرام). في اليوم التالي، يذكر الشيخ سارية: «تكلمت مع المسؤول الأمني في القصر الجمهوري، وقلت إنكم تكذبون على لساني، فقال له: أيرضيك أن تبث الخطبة بكاملها؟ وفعلا بثوها في المساء بأكملها». ومما يذكره أن دورَ المشايخ الذين آثروا الكلامَ على الصمت في هذه الفترة، لم يكن يهدف لتهييج المشاعر وإثارة الجماهير، بل كان الغرض من ذلك القيام بواجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وفي مكان آخر يقول: «كانت خطب أخي الشيخ أسامة تقول: بأننا ما كنا نريد في خطبنا إثارة أو تهييجا، وإنما أردنا النصحَ للحاكم والمحكوم، وهذا هو واجب العلماء»؛ ولعل في هذا الكلام ما يذكرنا بقراءة جواد قرشي لخطب علماء دمشق في الفترة الأولى من الثورة، إذ يبين قرشي أنه على الرغم من أن خطبَ الرفاعي بدت متناقضة مع دروس وخطب البوطي، من خلال إلقاء اللوم على الحكومة والأسد، وكل من هم في موضع المسؤولية، وهذا ما كان يعني الوقوفَ مسافة بعيدة عن الموالاة، لكن ذلك لم يعن تبنيا صريحا لموقف المعارضة، فالرفاعي ومن خلال خطبه، حاولَ لعبَ دور الوسيط الأخلاقي بين الحكومة والمتظاهرين، وتقديم دليل إرشادي ديني للمتظاهرين، وليس تنصيب نفسه قائدا أيديولوجيا لهم، وهذا ما لم يفهمه النظام، ولا قوى المعارضة التي حاولت إضفاءَ صبغة ثورية على خطب هؤلاء العلماء.
وما يذكره الشيخ سارية عن هذه الفترة أيضا أن بشار الأسد أرسلَ له طلبا للقاء خاص به وبالشيخ أسامة، وعند اللقاء أعلماه بأن شريحة المتدينين أصبحت مستهدفة في وظائف الدولة، فقد أحيلت ألف ومئتا امرأة من التعليم بسبب حجابهن ونقابهن، كما طالباه بتخصيص مكان للصلاة في المراكز التجارية، وكان ردّ بشار الأسد أنه سيصدر مراسيم بإعادة المدرسات المنقبات والاعتراف بالمعاهد الشرعية. وهنا نجد الشيخين وهما يدافعان عن مصالح قطاع معين (المتدينين) الذين يشكلون الخزانَ البشري لجماعة العلماء في المدينة، وبدا بشار الأسد وكأنه متفهم لما قاله الشيخان، لذلك طلب منهما مقابلةَ وجهاء درعا «لما لكما من مكانة في قلوب أهل درعا لمعرفة مطالبهم، ووعدهم بتنفيذها».
في اليوم التالي، سينطلق الشيخ بسيارته إلى درعا المحاصرة، يومها سيطلب منه الحاضرون 14 عشر مطلبا: منها تغيير المحافظ، والسماح بحفر آبار بدون أتاوات، وبعد عودته رفعَ قائمةَ المطالب إلى القصر الجمهوري، وجاء الرد، كما يذكر، بعد يومين من خلال قتل 41 شابا في مدينة الصنمين «ما جعلني أقسم يمينا أن لا أزوره بعد الآن، ولا ألتقي بأحد من ضباط الأمن»، رغم هذا اليمين، سيبقى الشيخ يحاول نصحَ حاشية الأسد آصف شوكت وهشام اختيار، ويؤكد الشيخ أن في حواراته مع هؤلاء الأشخاص كان يلمس أحيانا الرغبةَ في مزيد من الحوار للوصول إلى اتفاق.
ويخصص الشيخ سارية أوراقا عديدة من ذاكرته للحديث عن الشيخ البوطي، ومما يذكره أنه قبيل الثورة كان البوطي لا يطيق أن يسمعَ باسم المفتي العام، ويتكلم في حقه كلاما يكاد يخرجه من الملة، وكان يبدي امتعاضا من تجاهل النظام له ولمطالبه، كما كان يعبر عن حزنه وألمه من مسلسل «ما ملكت أيمانكم»، والذي كان بتوجيه من الدولة عموما (ومن آصف شوكت بالأخص). إذ كان بطل المسلسل (أبو توفيق)، وهي كنية الشيخ الدكتور، وكان المسلسل يضع صورةَ جامع الإيمان الذي يدرس فيه الشيخ، فكان فيه الغمز واللمز بالشيخ الدكتور البوطي، وبالداعيات اللاتي يدعمن الشيخَ في عملهن. كما يذكر أن البوطي كان قد اعتادَ على لقاء دوري يحضره مع عدد من العلماء في منزل الشيخ أسامة، للتشاور في الأمور العامة. وقد استمر اللقاء الدوري ما يقرب من سنتين، لكن عندما بدأت الثورة اعتذرَ البوطي عن الحضور، لأنه «سمعَ بأن الشيخ سارية ملاحق».
وفي تفسيره لمواقف البوطي من النظام والثورة، يؤكد الشيخ سارية أن الدكتور البوطي كان طيبَ القلب يصدق كل ما يسمع من الرئيس، أو من ضباط الأمن، وأنه كان يعتقد بوجود مؤامرة كونية تريد النيلَ من استقرارنا وأمننا، مع ذلك فهو لم يؤيد قتلَ المتظاهرين، بدليل الفتوى التي أطلقها بعد أن سأله جندي (ربما الحادثة من مخيال البوطي) قائلا: تأتيني الأوامر أن أطلقَ الرصاصَ على المتظاهرين، فهل أقتل؟ قال الشيخ: إياك أن تقتل، وقد ذكرت هذا من قبل.
ومن الحوادث التي لا يأتي الشيخ على ذكرها في هذه المذكرات، ما عرف بأحداث ليلة القدر، التي تعرضَ فيها الشيخ أسامة للضرب، وكانت سببا في توقفهم عن الخطابة. يومها هتفَ المتظاهرون شعارات مناهضة للنظام داخل مسجد الرفاعي، وفي الصباح الباكر اقتحموا المسجدَ وقتلَ أحد المصلين وجرحَ الشيخ أسامة، حينها ظن الكثيرون أن دمشق ستتنفض عن بكرة أبيها، لكن ردةَ الفعل جاءت على غير ذلك، بعدها تشجعَ النظام وقررَ منعَ الشيخين من الخطابة. يومها سيكتب أحد تلاميذ الرفاعي «يا شيخ أسامة… أهل دمشق خانوك؟» في إشارة لخوف أهل دمشق من مناصرته، بيدَ أن الشيخَ سارية هنا يشيد بأهل دمشق وبكرمهم (وبالأخص تجارهم)، ولهفتهم لإغاثة الفقراء والمظلومين.
يوميات الهجرة
بعد واقعة ليلة القدر، سيجد الشيخ نفسه حبيس بيته، لا خطبة ولا تواصل ولا نشاط، فضلا عن تهديدات مبطنة بالقتل، ولذلك سيقرر الرحيلَ إلى القاهرة، المدينة التي عرفها خلال دراسته في الأزهر. وهناك عادَ الشيخ لفترة من الزمن يمارس دوره في العمل الخيري، لكن انقلابَ السيسي، سيدفع به، كما بآلاف من السوريين، إلى شد عصا الترحال من جديد إلى إسطنبول.
وفي تركيا سيكون للشيخ دور في تأسيس المجلس الإسلامي، كما سيكون له دور فاعل في جمع المساعدات للآلاف من السوريين، مع ذلك، ورغم إدارته لمئات الآلاف من الدولارات، لن يتمكن «شيخ التجار» (كما كان يوصف في دمشق لقدرته على جمع المساعدات) من تدبير معيشة حياته بشكل يسير، إذ يذكر لنا أنه اضطر إلى ترك حي باشاك شهير في القسم الأوروبي من مدينة إسطنبول، والانتقال إلى أحد أحياء الطرف الآسيوي، لعدم قدرته على دفع تكاليف آجار عالية، ويذكر الشيخ أنه كانت تمر أيام وليس في جيبه وجيب أبنائه أكثر من مئة ليرة تركية (15 دولارا حاليا)، وأنه بعد انتقاله، وبسبب هذه الضائقة، قررَ مع زوجته البالغة من العمر 65 عاما وأحفاده، صناعة وبيع الكبة الشامية (أكلة شامية) لتتطورَ لاحقا هذه الصناعة عبر استهلال مشروع (نفس شامي). وعند زيارة صفحة النفس الشامي، أول ما يلاحظه المتصفح صورةَ صحن/منسف الكبة الكبيرة، الذي اختير كلوغو للمشروع؛ بقي أن نذكرَ أن هناك جزءا آخر من مذكرات الشيخ سيصدر في وقت قريب بعنوان «ذكريات ومواقف من حياتي»، وهو ما قد يتيح لنا التعرفَ على محطات من حياة العلماء في سوريا خلال فترة الأسد، ولعلها تكون فرصة ليقدمَ غيره من العلماء ورجال الدين على الخوض في ذكرياتهم.
٭ كاتب سوري القدس العربي