حلول التعب والآلام بوصول أبي الدهب إلى دمشق الشام: المناخ السياسي والرسائل الخفية في تحقيق كتب التراث/ ثائر دوري
«حلول التعب والآلام بوصول أبي الدهب إلى دمشق الشام» كتاب تراثي لمؤلفه خطيب الجامع الأموي سليمان ابن أحمد المحاسني (توفي عام 1187هـ)، والذي أهداه كما جاء في مقدمته إلى مصطفى خان العثماني، كعادة كُتاب تلك الفترة. أما محقق الكتاب فهو صلاح الدين المنجد، وقد أتمه عام 1962. وقد اجتمع لدى كل من المؤلف والمحقق السبب نفسه، ما بين الحنق على محمد أبي الدهب وجمال عبد الناصر. يقول محقق الكتاب إنه في عام 1771 وصل أبو الدهب القائد العسكري لعلي بيك الكبير حاكم مصر، بجيشه إلى دمشق وهي محاولة السيطرة الأولى على دمشق الشام، من قبل القاهرة. أما المحاولة الثانية فكانت عام 1832 بقيادة إبراهيم باشا، وقد فشلت أيضاً بعد نجاح قصير استمر عدة سنوات حتى عام 1840. ويبدو أن المضمر الذي سكت عنه كاتب المقدمة، أن المحاولة الثالثة، وهي الوحدة السورية ـ المصرية عام 1958 قد فشلت، لأن الكتاب صدر عام 1962، أي في العام التالي للانفصال. ولابد أن هذه الفكرة كانت في ذهن كاتب المقدمة، لكنه أحجم عن ذكرها كي لا يقحم نفسه في مشاكل، ونقاشات هو في غنى عنها. وهذا يعطينا فكرة عن تداخل السياسة في كل شيء بما فيها تحقيق الكتب القديمة. فلا بد أن الانفصال أوجد مناسبة لتحقيق هذا الكتاب، فلم تكن مصادفة.
سقوط دمشق
كان محمد أبي الدهب كبير أمراء محمد علي بيك الكبير حاكم مصر، المتمتع بقدر كبير من الاستقلال. بدأت هذه المغامرة المصرية بشكوى أهل غزة من سيطرة عثمان باشا والي الشام عليهم، تلقفها علي بيك الكبير، فأرسل قائده العسكري أبي الدهب، بعد أن أخذ فتوى المذاهب الأربعة في مصر على جواز قتاله في فلسطين. انضم للجيش المصري كل من المتاولة وأولاد ظاهر العمر، فزحف نحو دمشق بجيش من أربعين ألف مقاتل وثمانين مدفعاً. في المقابل ردت الدولة العثمانية بأن أمرت ولاتها في حلب وكلسو طرابلس بالتوجه لدمشق لقتاله. في داريا وقعت المعركة بين الطرفين، لكن سرعان ما فرّت العساكر العثمانية، وعاد كل وال إلى ولايته، عدا والي دمشق عثمان باشا وولده محمد باشا والي طرابلس، فقد ثبتا في الميدان. لكن بعد ثلاثة أيام انهزما وفرّا باتجاه حماة، وباتت دمشق ساقطة عسكريا بيد أبي الدهب، عندئذ أرسل أبو الدهب يطلب علماء دمشق وأعيانها. فلما لقيهم طلب إليهم تسليم دمشق، وأكد لهم – على قول المؤرخ المرادي ـ أنه لا بد من أخذها على أي حال، وتوعدهم إن خالفوه أن يحرقها ويأسر جميع أهلها. وأثناء تلك المشاورات فرّ الوالي إلى حماة، وكذلك نقيب الأشراف ووالي الجند والمفتي، «ولم يبق في دمشق مقاتل يحميها». فسلمه من تبقى من علماء دمشق المدينة وكان منهم خطيب الجامع الأموي كاتب هذه الرسالة، سليمان بن أحمد المحاسني.
البحث عن الشرعية
أراد أبو الدهب أن يكون حاكم دمشق، فأمر بتعيين قاض ومفت ونقيب أشراف، لكن القائد المتغلب، صاحب الشرعية المكتسبة بالقوة العسكرية، اصطدم بقوة ناعمة غير متوقعة، وهي الشرعية الدينية والتاريخية للسلطان العثماني، فقد رفض علماء دمشق طلبه، وأخبروه أن تعيين هذه المناصب يتم من قبل السلطان العثماني حصراً. وكي لا يصطدموا معه مباشرة احتالوا عليه بأن طلبوا منه أن يعين، وكلاء يقومون بهذه المناصب. هنا أدرك القائد العسكري المتغلب حدود القوة العسكرية. وأن شرعية الدول لا تبنى بالقوة العسكرية فقط، إنما هناك أمور أخرى تنازعها. وربما كان هذا الباعث وراء إصرار إبراهيم باشا، في محاولة السيطرة المصرية الثانية على دمشق، أن يتابع سيره إلى الأناضول، وما وراء الأناضول، وصولاً لإسطنبول، كي يكمل شرعيته كمتغلب بشرعية دينية، وتاريخية، بالاستيلاء على عاصمة الخلافة القائمة، لكن قوته انكسرت أمام قوة الدول الأوروبية، التي لم تكن ترغب برؤية قوة فتية في اسطنبول، ولا حتى في بلاد الشام. ومقارنة مع ما جرى بعد ذلك عام 1918 يمكننا رؤية كم تغير التاريخ، فالفاتح القادم من الحجاز بدعم إنكليزي، لم يصطدم بحاجز الشرعية الدينية لأن الاتحاديين كانوا قد فرطوا بها، بعد سيطرتهم على إسطنبول. كما أن فيصل كان يتحدث من موقع آخر غير ديني. يتحدث من موقع الفكر القومي الصاعد بتأثير الفكر الأوروبي، وهذا من غرائب الأمور لأن فيصل وأباه الحسين كانا يمتلكان شرعية دينية، فهم من الأشراف، لكن التحالفات السياسية مع الغرب وتغير أنماط التفكير لدى النخبة المثقفة، حيث ظهرت نخبة متعلمة تعليماً حديثاً (يمكن قراءة ذلك بالقول تعليماً غربياً) تحمل تأثراً واضحاً بالفكر القومي الغربي. كل ذلك جعل استخدام الشرعية الدينية أمراً غير ممكن.
الهدف دمشق
بعد أن استلم أبو الدهب دمشق، وانتشر جنوده فيها فوجئ بأن رئيس الجند رفض أن يسلم القلعة. يقول المحاسني «فسلط عليها أبو الدهب القنابر، وان يرسلها عليها من المرج الأخضر. فلغباوة الجند المصري كانت تنزل على أهل البلد، ولا تنزل على القلعة، حتى وقع على سقف الجامع الأموي منها واحدة فخرقته. وخشي الناس أن تهدم المدينة، واشتد الرعب. وكانت دمشق في الماضي قد ذاقت العذاب من جند المصريين، حين أحرقوا مسجد دمشق في سنة 461 هجرية، أيام الفاطميين. ثارت الحمية في نفس المحاسني مؤلف الرسالة فقابل أبي الدهب وذكره بأهمية دمشق الدينية وذكره بالأحاديث النبوية والقدسية التي تتحدث عن أهمية الشام ومنها «يا شام من أرادك بسوء قصمته»، فتراجع أبو الدهب وأوقف القصف والسلب والنهب. وأعلن لأهل دمشق أنه لم يأت إلا لمقاتلة عثمان باشا، وأنه لما تأكد من خروجه من دمشق فهو عازم على العودة إلى مصر، وطلب من العلماء أن يدعوا للسلطان وله، و طلب جوابهم فردوا عليه بمنتهى الاحتقار بأن قالوا له بأنهم تسلموا رسالته وفهموا ما فيها وأنهوها بالقول «فتوجهوا إلى حيث شئتم والسلام». كان قرار العودة نتيجة عجزه عن فرض شرعيته كحاكم بقوة السلاح، ونتيجة مشاعر العداء من الدمشقيين. لكن ذلك لم يرض قائده علي بيك الكبير فطرده من الخدمة، ما يدل على أن الهدف الأصلي كان الاستيلاء على دمشق.
٭ كاتب سوري
القدس العربي