“قماش أسود” للمغيرة الهويدي: لما أطبق داعش على الرقة/ سومر شحادة
ترصد رواية الكاتب والشّاعر السوريّ المغيرة الهويدي (1979) “قماش أسود” الصّادرة حديثاً عن “منشورات تكوين” في الكويت، عالمَ نساءٍ سوريّات في ذروةِ سنوات الحرب. إنّها رواية عن النجاة المستحيلة، إذ تروي حكاية اللّاتي وجدن أنفسهنَّ وسطَ سُبلِ الموت العنيفة يبحثن عمّن يلجأن إليهِ.
تدور حكاية الهويدي في حفل الموت الذي عرفه أهل الرقة خلال حُكم “داعش” للمدينة؛ بذلك فهي حكاية تبدو منتميّةً إلى عالمٍ خياليّ، قد يعتقد القارئ أنّها حكاية لا يمكن أن تحدث في عالمنا. لكنها حدثتْ بالفعل، وهذه مفارقةٌ يعيها الكاتب ويوظفها فنيّاً، إذ يتساءل في نهاية النَّصّ عن معنى الحياة والموت ما لم نسرد الفظائع التي عرفها السوريّون.
يجعل الكاتب من سرد الحكايات المُفجِعة واجباً، فتتطابقُ لديه صورة الحياة مع صورة الموت. الأمر الذي تصوّره الرواية أصدق تصوير، عندما نجد تفاصيل الحياة وقد التصقت بعالم الموت. فما من حدث قد يُخرِج الشخصيات من ضيقها، إلا ويُسنَد إلى حدثٍ ينفيهِ أو يفرغهُ من جدواه، حتى الهرب لا يبدو مجدياً، عندما تتساءل الشخصيات الهاربة: إلى أين؟ مع وعي الناجين منهم بصعوبة التّعافي ممّا رأوا وعاشوا.
تتوزعُ شخوص الرواية إلى نموذجين، تُمثّل آسيا التي تريد أن تستعيد حياتها أحدهما، والنموذج الآخر تمثله نسرين التي تريد نسيان حياتها. لكن ما من فكرة مشرقة، إلا وتُعْتِمْ، فالقماش الأسود الذي تحيك منهُ نسرين الملابس الخاصّة بالنّساء يكسو مصيرَ تلك الجماعة البشريّة التي رُدّتْ من العالم الحديث إلى عصرٍ غابرٍ، يزعم أصحابهُ أنّه قادمٌ من المستقبل، في واحدة من أزمات الحداثة ومفارقاتها.
ليست الرواية ديستوبيا مُتخيَّلة، إنّها حياتنا؛ إذ تصرُّ الراوية على تأكيد تلك الحقيقة المرعبة، فالنّصُّ لا يحمل مجازاتٍ عن الظّلم واستلاب البشر وتحطيمهم، إنّما يرصدُ واقعاً تعطّلت فيه المجازات، الموتُ حقيقيّ، الاختناق مُحتَّم. ووراء ذلك نجد الحبّ متوارياً والحرية أملاً بعيداً شاقّاً يعيش يوماً بعد آخر، ويبقى محتفظاً بجاذبيّة لا تنتهي. في جانبٍ من “قماش أسود” نجدُ تكاتف الضحايا، وإدراكهم إدراكاً عميقاً وحدتهم ووحدة مدينتهم. فالمصائر التي يهدّدها الموت تلتئم في ظلالٍ رحيمة، ومقابل كلّ يدٍ تلجمُ الإنسان توجدُ يدٌ تطلقه. يؤسس الهويدي نصهُ على توازنات من هذا النوع، حيثُ يتفكك الموتُ الذي بدا مطلقاً في سماء المدينة، داخلَ بيوتها وبين أهلها. ويردع سطوةَ البشر القساة على الحكاية بشرٌ طيبون، لا يغرقون في الوحشيّة ولا يستطيعون مقاومتها، بل يحاولون العيش على أطرافها، وفي هذا انتصارهم.
تجد نسرين نفسها محاصرة في مدينة الرقة مع عائلة زوجها المختطف، وكانت قد هربت من حمص بدافع الحبّ للعيش معهُ في حلب. إنّ هذه الحكاية التي كان لها أن تمرّ في زمن آخر، مروراً عادياً، تصبحُ أمام سيطرة “داعش” على المدينة أشبه بإلقاءِ ملاكٍ في الجحيم. تضطر نسرين للعيش مع أبي كريم وزوجتهِ، متخفيّة باسم سعاد، ولو أنّ لا دلالة أو خصوصيّة لتغيير الاسم، تُعرَف في الحي على أنّها ابنة أبي كريم.
تقع نسرين في حبّ جارهم يوسف، وهو الشاب الوحيد الذي يطلّ عليها، إذ ترصدُ الرواية مسار علاقاتٍ لا تحدث في ظرفٍ آخر. يساعد يوسف نسرين على تأمين الكتب لتُنعِشَ أعماقها، وعلى تأمين مرآة صغيرة كي ترى نفسها. فيما تنكبّ على صنع عباءات سوداء يبيعها أبو كريم، مؤذّن الجامع. تموت زوجته، وتشعرُ نسرين بالوحدة على الرغم من أنّها كانت تخدم امرأة مريضة، لكنها تفتقدها. لا تفتقدها طويلاً، إذ يتزوج أبو كريم امرأة ثانية، وهي آسيا التي تعيدُ تشكيل الحكاية برمّتها، فهي امرأة مختلفة، قد توقفت الحياة عن خديعتها، وأبو كريم هو زوجها الرابع. تريدُ آسيا أن تعيش، أن تتعلم من جديد، وأن تدافع عن فرصتها في الحياة. فيما يأكل الندم والحيرة نسرين التي تحاول إعادة الصلات مع أهلها، تسأل عن أخبار زوجها المفقود، وتأملُ أن تجتمع مع يوسف في مكان لوحدهما.
لا يقف الهويدي كثيراً عند تحليل الواقع السياسيّ السوريّ، ويكتفي بتبدّل حياة الناس بين خروج “داعش” ودخول “قسد”، وهو تبدّل تمثّله آلة الخياطة لنسرين أيما تمثيل، عبر تلميحات النّساء بأنّ عليها أن تُبدِّل الأقمشة السوداء بأقمشة ملوّنة. لربما كانت هذه الاستعارة الأمتن والأكثر تعبيراً عن مصائر الناس الهامشيّين، الذين هم السوريّون جميعاً.
في المخيم تتعرّضُ النّساء إلى صنف جديد من العذاب، ولا يبدو لعذاباتهن نهاية، بغير التفكير الحثيث بالهرب واللجوء. وهذا اتجاه تمثلهُ آسيا التي تتعرّض إلى المساءلة، من بين جميع نساء المخيم، كونها زوجة مؤذّن “داعش”. لنراها تنقلُ السِّوار الذهبي من ثوبها إلى ثوب نسرين، بين تحقيقٍ وآخر، إذ لا تملكان غيره من أجلِ الهرب. فيما نسرين، ضَعُفَتْ حتى أصبحت أقصى أمانيها العودة إلى بيت أبي كريم في الرقة.
يرصدُ الهويدي، عبر نموذجيه، طرق البشر في التفاعل مع الواقع، وكان هذا شاغله السرديّ في الرواية. بعدما استطاع أن يعبر العصبيّات التي أرهقت السوريّين، وينقلُ مصائرهم بالصوت الأكثر هشاشةً، صوتُ النساء المُهمّشات وقت السِّلم والمُعنّفات وقت الحرب، النّساءُ اللّاتي لا جدوى من مواقفهن، وحياتهن وموتهن سيّان. لا يغيبُ عن القارئ أنّ الكاتب اختار راويتهُ كي يدين تلك الآلة الوحشيّة المتفجّرة ذكوريّة الطابع والتي تُدعى “الحرب”. وما تعبّر عنهُ واحدة من نساء “قماش أسود” وهي تشكو أمرها، يُلخّصُ آلام صديقاتها:
“ما الذي يفعله الرجال غير القتال والشجار والسكر والعربدة؟ مجانين لا يفكرون إلا في رغباتهم، كل شيء عندهم يقاس بمبدأ الفوز والخسارة وكأنهم يلعبون كرة القدم، يتنافسون على كل شيء، النساء، المال، السُّكر، اللعب، حتى هذه الحرب”.
بطاقة
المغيرة الهويدي شاعر وكاتب سوري من مواليد مدينة الرقة عام 1979 ومقيم في الكويت. درس الأدب العربي وحاصل على ماجستير في “النقد العربي الحديث”. صدر له في الشعر “الحب لا يغادر البلاد” عام 2014 عن “الدار العربية للعلوم ناشرون”، و”كان البيت أخي السابع” عام 2018 عن دار ممدوح عدوان. “قماش أسود” (2020) روايته الأولى وقد صدرت عن “منشورات تكوين” في الكويت.
العربي الجديد