مازلت طفلة يا أبي : بيني وبينك سجن وذكريات قليلة/ آية الأتاسي
ما زلت طفلة يا أبي، طفلة تقترب من عقدها الخمسين…
تغيرت ملامحي قليلاً عن تلك التي تعرفها، ولكنني ما زلت تلك الطفلة بشعر أشعث وقلب هشّ، تقف وراء باب السجن الأسود الذي يخفي وراءه الكثير من الآباء، وأنت حصتي منهم، و21 سنة هي حصتي من الانتظار.
بعد موتك بسرطان السجن، الذي لم يكن قد مضى على خروجك منه سوى بضعة أشهر، تحايلت على الفكرة وسميت غيابك رحيلاً.
وتحول لقاؤنا أو ما كان متعارف عليه في لغة السجون ب “الزيارة”، إلى زيارة المقبرة، لم أكن يوماً ثرثارة في حضرتك ولكنك كنت تلتقط اشاراتي دائماً، كأن تسقط دمعتي سهواً في زيارة لك في السجن، فيسقط وزنك أضعاف أوجاعها في الزيارة القادمة.
في زيارة المقبرة تابعت صمتي معك، ولكنني أصبحت أحمل باقة من الورود، أختارها حسب ذوقي، فلم يخطر لي أن أسألك يوماً عن الأزهار التي تحبها، كان كل هذا ترفاً لا تحتمله علاقة طفلة مع والدها السجين، القابع بعيداً عن الشمس والألوان والأزهار، وكل ما يجعل الحياة جميلة أو محتملة.
الرمادي هو لون السجن الوحيد، حتى وجهك كان يبدو شاحباً دائماً حيث لا ضوء للشمس في عتم الزنازين، وحيث الهواء خانق وسام وكأن ما فيه من أوكسجين قد ابتلعته الحناجر المعذبة وهي تستغيث بلا مجيب.
بيني وبينك يا أبي سجن، وذكريات قليلة خارجه…
حذاؤك الذي كان يشدني لمعانه، حتى فهمت لاحقاً أن هذا يعود إلى أنك لا ترتديه إلا خطوات معدودة تفصل بين باب الزنزانة وباب الزيارة.
قميص أزرق اشتريته لك في رحلة، وواظبت على ارتدائه من أجلي رغم ضيق مقاسه، وتابعت أنا شراءه لكل رجل أحببته ودائماً أضيق من أن يتسع لما في القلب من حب واشتياق.
شريط ذكريات قصير، يشبه ألبوم الصور الذي لا يحتوي إلا على صورتين لنا معاً، في الأولى أبدو خجولة ومترددة في الاقتراب منك، خجل يليق بالغرباء لا بالآباء…
ومسافة حارقة بيننا وكأن ما فات من فراق يصعب تجاوزه في صورة.
الصورة الثانية تقترب الكاميرا من وجوهنا ونقترب نحن من بعضنا أكثر، حتى أنني أتجرأ وأمسك يدك التي تضعها على كتفي بكل حنان الأبوة، أمسك يدك وكأنني أمسك اللحظة التي كنت أنتظرها، لحظة نظهر فيها معاً كأي أب وابنة بلا سجن ورقابة وزوار وزيارة.
تواصلنا الأخير كان اتصالاً هاتفياً لك من باريس، وقد طال السرطان حتى صوتك، لم تتحدث ولكنني كنت أسمع تنفسك، قلت لك:
“بابا…لماذا لا تحكي!”.. لم أكن أصدق أن الموت سيأخذك سريعاً قبل أن تمنحني الحياة فرصة العيش معك ولو قليلاً.
قلت لك قبل أن تغلق السماعة:
“أنني أنتظرك وأحبك..”
لم تجب ولكنني تخيلتك تبتسم وتقول لي: “أنا أيضاً.”
وبعدها رحلت…رحلت باكراً جداً يا أبي.
وتركتني أتعقب أثرك بين الرجال، هنا سماعة الطبيب كما سماعتك المنسية في بيتنا، وهنا رنة ضحكتك، وهنا قلب يفيض بحنانك.
ولكنني كلما بحثت أكثر، تعثرت أكثر، فلا حبّ غير مشروط كحب الأب، ولاحب يكبر مع الأيام ولا يموت كحبك، ووحده الأب لا يحب على ابنته نساء أخريات.
مع الوقت فهمت أنها محاولة مستحيلة، وأن عليَّ التسليم بفقدان الأب، واعتبار الفقد عاهة مستدامة لا شفاء منها.
ومع ذلك ما زلت أنت الرجل الأكثر حضوراً في حياتي، ورغم كل محاولاتي كي أكبر وأدع الطفلة اليتيمة ورائي، أبقى أنا ابنتك يا أبي…
ابنتك، منذ كنت أخاف الفشل، وأتفوق في الدراسة لكي ترى كشف العلامات آخر السنة وتبتسم لي ابتسامة رضى واسعة، هي أقصى ما يسمح به حراس السجون…
ابنتك، عندما أسمعهم يتهامسون باسمي مرتبطاً بك، رغم اصراري أنني كبرت، وأنني أرتكب أخطائي باسمي فقط.
ابنتك، عندما تسقط الابتسامة في حفرة الخد، في نفس المكان الذي كان الفرح يحفر عميقاً في وجنتيك.
وأنا ابنتك…
عندما أرث أمراضك وفرحك وحزنك وأحلامك…
مهما كتبت اسمي يتيماً، ومهما ادعيت القوة، سأبقى طفلتك الصغيرة التي لن تكبر، ما دمت لم تمسك يدها إلى المدرسة أو الشارع أو لترافقها في يوم زفافها.
أنا هنا يا أبي ما زلت أنتظرك ويدي ممدودة إليك لتمسك بها، يدي تشبه يدك وعلى مقاسها، ربما لأن قدر الآباء أن يمسكوا أيادي صغيراتهم ويرافقونهن إلى أي مكان.
بعد وفاة أبي لم أتوقف عن زيارة قبره في مدينة حمص، وكنت أصطحب ابنتي الصغيرة معي، هي التي لم تر جدها يوماً ولكن انتقل الحب إليها بالدم والجينات.
جدها الذي تعرفه مما أرويه لها عنه وربما أكثر مما لا أستطع قوله أو البوح به، فالحزن عندما يفيض يصيب بالبكم أحياناً.
منذ قيام الثورة لم نعد إلى سوريا، ولم نعد نزور القبر، الذي تهدم كما تهدمت بيوت البشر فوق رؤوس أصحابها، وصارت المطالبة بسقف فوق رؤوس الأموات وقاحة فجة، أمام أحياء لا يمتلكون سقوفاً تحميهم من الموت.
ابنتي أخبرتني أنها تحلم ان تدفن قرب جدها، وأنا أيضاً أحلم أن أضع رأسي على كتفه وأغفو غفوتي الأخيرة.
هناك حيث لم تتح لنا الحياة أن نكون معاً، هل سيستطيع الموت أن يجعلنا معاً، أب وابنة وحفيدة