أمي والقضايا الصغيرة/ راتب شعبو
كأن الحياة كانت تدرك النكبة التي ستحل بي في موت أمي، فاستعادتها من قبضة موت مفاجئ مرتين. في المرتين كانت تعود بوجه متعب ولكنه مليء بالرضا، ثم يبدأ وجهها يتفتح مثل وردة. في المرة الثالثة أرادت أمي أن لا يكون موتها، الذي بات لا بد منه، صادماً، فاختارت أن يكون انسحابها النهائي هادئاً متدرجاً، وكأنها تشفق علي حتى في موتها. كان يبدو مؤكداً أنها تقترب كل يوم من تلك اللحظة الرهيبة، مع ذلك حين شملتها العتمة المطلقة شعرتُ أني خسرتها وهي بكامل عافيتها واقتدارها. رغم يقينك أن موتها بات وشيكاً، كان خبر الموت أثقل مما تعتقد. ألأنه يقتل كل أمل؟ وهل يكون ثمة أمل في مثل هذه الحال؟
يقول لك العقل على لسان معزٍ: “لقد ارتاحت، كانت شديدة المرض والوهن دون أمل في شفائها وقد تجاوزت التسعين”. يقول لك إحساسك: “لم يأخذ الموت جسداً أنهكه المرض والشيخوخة، بل اختطف عالماً كاملاً، اختطف نوراً لم تتوقف روحها تسطع به حتى لحظاتها الأخيرة، تماماً كما لا تكف الشمعة عن الإنارة حتى الرمق الأخير. الخسارة الفعلية حين “تموت” الشمعة، هي النور”.
صحيح، في أيامها الأخيرة بدأ صوتها الذي حافظ على حيويته ولم يتأثر بتقدم العمر، يفقد نبرته الصافية الثابتة ويتكسر. كنت لذلك أفضل في الفترة الأخيرة أن أسمعها دون أن أرى تهالك جسدها. بقي صوتها نافذة أطل منها على ماض وعر ولكنه جميل الاسترجاع. عبر نبرة صوتها الثابتة كنت استرجع ارتجاج الأرض تحت قدميها وهي تسعى باقتدار وبإرادة لا تستسلم، للوفاء بدورها كعمود يحمي عائلة فقيرة من سقوط السقف. رب العائلة كان مشغولاً في قضايا كبيرة تضطره للسفر البعيد المتكرر. “لما بيدير أبوك ضهرو بينسى شو وراه، طول عمره طاير ومشغول بهموم ما بعرفا، وبعمره ما جنا منها غير التعب والخسارة”. كان هذا أقصى ما تقوله بحق الأب الذي استولت المشاغل السياسية والنقابية على معظم وقته وتفكيره، فترك ثقل “القضايا الصغيرة” على كتفيها.
حين وصلتْ “نظيرة” (هذا اسم أمي الذي يختفي ككل أسماء الأمهات وراء مفردة واحدة هي “أمي”، كما أشار بحق ذات يوم الشاعر منذر مصري) إلى هذا البيت الفقير لتبدأ مشوارها في تكوين أسرتها، كانت طفلة في السادسة عشرة من عمرها. الفارق بينها وبين ابنها البكر لا يزيد عن سبعة عشر عاماً. ولكنها كانت من طبيعة البشر الذين يفهمون الحياة على أنها مسؤولية وعمل جاد، بالدرجة الأولى، ويقبلونها برضا على هذا الشكل. “من خلق علق”، كانت تكرر. وكنت أقول في نفسي “العمل غريزتها”. تطلب من نفسها كل شيء، ولا تطلب من أبنائها حتى أداء واجبهم تجاهها. أدهشني دائماً، كيف تجمع بين هذه الجدية مع الحياة، وهذا اللين والحنو والتقبّل المتساهل مع الأولاد. كيف تجمع بين جديتها القصوى في العمل ومرحها الدائم. بين الالتزام العالي بما تفرضه على نفسها من واجبات، والتراخي الى حدود التسامح بما يحق لها على غيرها. تعود من عمل مرهق في الأرض، في عزّ الشوب، تجلس على أرض الغرفة، تمد رجليها وتستند إلى الحائط، ترمي الإشارب الخفيف عن رأسها، ثم تقول بلهجة من يرجو لا من يطلب: “برضاي عليك يا ابني ناولني كاسة مي”.
في بداية مشوارها، كانت جارتها في القرية امرأة حكيمة قد سبقتها بسنوات طويلة على هذا الطريق الذي وضعت للتو خطوتها الأولى عليه. كانت تلك الجارة الرحيمة جاهزة دائماً للمساعدة، بالمشورة، بالإصغاء، بالضحكة الصافية، وأحياناً ببعض الدقيق حين تكتشف “نظيرة” أن ما لديها لا يكفي لإتمام العجنة. “كان عند أم حسن ست صبيان وبنت، قلت في نفسي الله يرزقني من الولاد متل ما رزقها”. حكت لي أمي ذلك بعد أن قطعت على الطريق مسافة مشابهة لتلك التي قطعتها قبلها جارتها “أم حسن”. بالفعل رُزقت أمي بستة صبيان وابنة، ولكنها تفوقت على جارتها بابنة ثانية لم يكتب لها من الحياة سوى أربعة عشر عاماً فقط، فقد توفيت بذلك المرض الذي لا يزال يتحدى البشر ويرمي قلوبهم بالسواد، وكلّف أمي عامان من الشقاء الذي ثبتت له كما يثبت أمثالها من البشر الذين يحملون الحياة على أكتافهم حين يفنون حياتهم في سبيل “القضايا الصغيرة”.
موت الأم. في لحظة واحدة عليك أن تقبل عالماً دون ذلك الظل الرؤوف. عالم بلا تلك الروح التي تطمئن إليها روحك، أن تقبل عالماً خاوياً من تلك القماشة الرقيقة الملونة التي تخفف وحشة العالم وبرودته، عالماً فارغاً من ذاك الوجود الهادئ الثابت الذي يحتضنك أينما كنت. مع أمي كان يمكن احتمال الدنيا أكثر، فلم تكن تترك الدنيا مجردة لعيني، بل تحرص على أن تضيف إليها مرجاً أخضر لاستراحة العين، وتسامحاً عميقاً لاستراحة البال، وضحكة خالصة لاستراحة القلب.
اختفت اللوحة الجميلة التي كنت تريح نظرك على تشكيلها حين ترفع رأسك عن انشغالاتك المباشرة، ليحل محلها لون أسود لهاوية سحيقة دأبها أن تمتص طاقة القلب.
موقع نواة