ماتت مي سكاف في الوقت المناسب لموتنا جميعاً/ حازم الأمين
كان من الصعب ألّا تموت مي سكاف الآن! كان من الصعب ألّا تُتوج الاختناق السوري بميتة غير مفهومة. إنها اللحظة المناسبة جداً للموت، ومي إذ لا نعرف ما إذا كانت قد اختارت موتها، أم أنه اختارها، فالأمران سيان، ذاك أن الوقت قد حان لكي تعلن سوريّةً مثل مي موتها.
ومي ومذ خرجت من سوريا وهي تصارع شيئاً هائلاً بحجم الموت. ليس النظام ما كانت تصارعه بعد أن خرجت من دمشق، فهي تولت هذه المهمة قبل مغادرتها المدينة، التي لا تجيد العيش في غيرها، بل كانت تصارع شيئاً هلامياً يفوق النظام في جبروته، ونحن من كنا نلتقيها كنا نحار بهذا الشيء وأحياناً كنا نخاف أن يكون نحن.
لطالما أشعرتنا بأن ثمة ما لا تؤمن به، وأنها ذاهبة بغضبها إلى ما بعده. كان الغضب سمة حضورها الوحيدة على “فيسبوك” في السنوات التي أمضتها خارج سوريا. الغضب غير المهذب وغير المسيس. وعند كل انتكاسة كانت تجدد غضبها بعبارة من النوع الذي حين نقرأها نحاول أن نشيح بوجهنا عن الصور التي تستدرجها في أذهاننا.
ماتت مي في الوقت المناسب، وهي أجابت بموتها عن أسئلة شطبت وجوهنا جميعاً، وتركتنا أمام سؤال عن جدوى البقاء على قيد الحياة في هذه اللحظة التي نعيشها وتعيشها سوريا. ماتت عنا جميعاً.
التقيت مي عام 2011 في بيروت. كانت الاحتجاجات السورية في أول أيامها، ومي كانت واحدة من وجوه هذه الاحتجاجات. تدبرت لي ابنة خالتها الصديقة ديما ونوس لقاء معها. كانت مي مقيمة في دمشق وتأتي كل اسبوعٍ مرة إلى بيروت، لتشارك في تدريب طلاب المسرح في الجامعة اليسوعية. وكان من المفترض أنني صحافي يلتقي وجهاً سورياً معارضاً ومعروفاً في مقهى غير شهير في بيروت. مي وصلت إلى اللقاء بصحبة شخص آخر، عرفت لاحقاً أنه سائق التاكسي الذي سيعيدها إلى دمشق، وأنه ليس صديقاً، بل تعرفه معرفةً عابرة عبر مكتب السفريات في دمشق. ولكن وقبل أن أعرف ذلك، كانت مي قد قالت ما قالته عن كل “أسرار الثورة”. سمَّت لي من ساعدها في التخفي قبل أن يُلقى القبض عليها، وشتمت ضباطاً بأسمائهم، وكشفت عن صديقات هرّبن لها طعاماً إلى السجن. أما السائق المسكين فكان خائفاً مما يسمع، وكان يتلفت يمنة ويسرة ويحاول أن يهدئها، وكانت هي تنهره وتقول له، إذا كنت خائفاً من إيصالي في هذا الليل إلى دمشق فاتركني وغادر لوحدك، والسائق المسكين راح يقول لها، كيف أتركك في هذا الليل وكيف ستعودين؟
وأذكر أنها في لقائنا الثاني، الذي نظمته أيضاً ديما، وصلت أيضاً وقد نسيتني تماماً، وجاءت محمّلة بأخبار جديدة عن التظاهرات، وكان سائق آخر برفقتها، ومرة أخرى وبّخته على خوفه.
كانت أول من أعلن انحيازه ضد النظام من الفنانين السوريين، وهي فعلت ذلك مدركة الأثمان التي ستدفعها، وهي فعلاً دفعتها، فمنذ أن انشقت عن “الدراما الرسمية”، وغادرت دمشق، حتى باشرت حياة فيها من المشقة ما لا يفوقها سوى إنفة مي وقرارها الحاسم بالانحياز الأخلاقي ضد النظام وضد خصومه الإسلاميين. فقد وصلتنا فيديوات مشاركاتها في تظاهرات دمشق الأولى، وأصداء مشاركاتها وصلت من المدن الأخرى، فقد هتف أهل حمص لمي في ذلك الزمن غير الملوث بـ “جهاديي” الثورة الذين أطلقهم النظام من سجونه، وتولّت دول الجوار تمويلهم بهدف خنق الأصوات التي تشبه صوت مي.
عاشت مي سنواتها الأخيرة في إحدى ضواحي باريس. من هناك قالت إن أكثر ما تطمح إليه هو أن تموت في سوريا. لم تتمكن من دفن أمها فيكتوريا التي قضت في دمشق، وأيضاً شقيقتها لمى التي ابتلعها سرطان القهر السوري. وفي الأشهر الأخيرة، قررت أن تتحول راهبة للقضية السورية، فراحت تقص على جيرانها الفرنسيين قصصاً صغيرة عن بلدها، محاولة تعويض فقدانها ناصية القصة الكبرى.
الموت التراجيدي لمي سكاف موازٍ لموت كبير عمّ سوريا، ومواز للمآلات المأسوية لما يحصل هناك. لذلك، وحين أُعلن موتها، تكشَّف بعض من ذلك الغموض الذي كانت مي توحي لنا به في علاقتها بسوريا وبدمشق وبأمها وأختها.
ماتت مي في الوقت المناسب، وهي أجابت بموتها عن أسئلة شطبت وجوهنا جميعاً، وتركتنا أمام سؤال عن جدوى البقاء على قيد الحياة في هذه اللحظة التي نعيشها وتعيشها سوريا. ماتت عنا جميعاً.