من يوميّات تشارلز سيميك
أنا شاعر المقلاة والأصابع الصّغيرة لقدميّ حبيبي
‘كيف تقتل الكثير من النّاس وتنام كطفل’ [مقولة] تتواصل لتكون المثال الأعلى لرجل الدّولة. لهذا يحتاجُ إلى المثقّفين لتقسيم القتلة إلى أخيار وأشرار، ولتفسير أنّنا نؤذي أولئك النّاس من أجل مصلحتهم. تتطلّبُ الوحشيّة والعنف دائماً أخلاقيّةً جديدة متفوّقة.
***
الحشد الهائل يُحيّي الدّيكتاتور؛ وجوه الأطفال الباسمة تقدّم أزهاراً مرحّبة به. كم مرّة شاهدت ذلك؟ ودائماً ذات الفتاة الشّقراء الصغيرة وهي تنحني باحترام! ها هي محاطة بالجزمات العالية لأصحاب المقام الرّفيع وكلبين بوليسيّين شُدّا بإحكام إلى رسنين اثنين. الوحش بنفسه يربّت على رأسها ويهمس في أذنها.
عبثاً فتّشتُ عن شخص ما بوجه قلِق.
***
حماية وجهة نظر الفرد هي الكفاح المتواصل. تحاول العشيرة إصلاحك دوماً، تعليمك بعض عادات السّلوك الحسَن ومُعجماً جديداً.
***
الإرادة الحرّة وهم. في نظريّة المؤامرة، قانون الجاذبيّة حقيقة مطلقة. الطّائرات لا تستطيع الطّيران.
***
القاسم المشترك بين كلّ الإصلاحيّين وبناة المدن الفاضلة هو الخوف من الهزْل. إنّهم محقّون. الضّحك يقوّض النّظام، ويقود إلى فوضى عارمة. الهزْل ضدّ المدينة الفاضلة. كان ثمّة حقيقة أكثر في النّكت التي قالها السوفييت من تلك التي في المؤلفات التي كتبت حول الاتحاد السوفيتي.
***
قديمٌ هو العالم دوماً. ثمّة أحداث جديدة لأنّ نظريّة المؤامرة أبديّة.
***
المؤامرة هي النظريّة اللاهوتيّة الحقيقية فقط. كلّ نظريّات اللاهوت الأخرى جزء من المؤامرة العظمى.
***
يكره القوميّون والأصوليّون المتديّنون المدينة الحديثة لتنوّعها وعفويّتها. تسود البلاهة والحقد بسهولة في المجتمع الصّغير، لكنّ المرء يجد في المدينة طرائق كثيرة للتملّص من قبضتهم.
***
الحماقة تنبعث من جديد. كلّ ما تحتاجه أن تدير التّلفاز فترى ابتسامتها الودودة الكبيرة.
***
من الممكن عمل أطباق لذيذة على نحو مدهش من المكوّنات الأبسط. هذه هي نظريّتي الجماليّة. أنا شاعرُ المِقلاة والأصابع الصّغيرة لقدميّ حبيبي.
***
تعيينُ الهويّة الأميركيّة هو في الواقع يدور حول توفّر هويّات كثيرة في وقت واحد. جئنا إلى أميركا هرباً من هويّاتنا القديمة، والتي يرغب المدافعون عن تعدّد الثّقافات الآن في أن يعيدوها إلينا.
***
مُلهِمات الشعر طبّاخات. الشّعر نوع من فنّ الطّبخ. أقسّم قصائدي بين مُقبّلات ويخنات وحلوى.
***
ألم يطلق جويس على الشّعر اسم ‘زُبدة الرّوح’، في مكان ما؟
***
المكان المثاليّ لتعليم الكتابة الإبداعيّة هو مكتبة كتب مستعملة، يقول صديقي فافا هريستك.
***
يبدو أنّ طموح الكثير من النّظرية الأدبيّة اليوم هو إيجاد طريقة لقراءة الأدب بدون مخيّلة.
***
مدينة نيويورك مكان أكثر تعقيداً لإله واحد وشيطان واحد فقط.
***
أكثر إنجازات الأدب الأميركيّ أصالة هو غياب لغة أدبيّة رسميّة.
***
حيث يتقاطع الزّمن والأبديّة يكون وعيي هو شرطيّ المرور الذي يحمل لافتة ‘قف’.
***
في سعيهم إلى فصل اللّغة عن التّجربة، يذكّرني النّقاد التّفكيكيّون بآباء الطّبقة المتوسّطة الذين لم يسمحوا لأبنائهم باللّعب في الشّوارع.
***
كثير من نقّادنا يقرأون الأدب مثل شرطة الأنظمة الاستبداديّة بحثاً عن مادّة منتهكة على سبيل المثال، الادّعاء أنْ ثمّة عالم خارج اللّغة.
***
يحاول الشّعر جسْر الهوّة بين الاسم والشّيء. ‘اللّغة هي المعضلة’ ليست أمراً جديداً بالنّسبة إلى الشّعراء.
***
أعرف شخصاً لا يقرأ الشّعر الحديث إلاّ في المرحاض.
***
وحده الشّعر يستطيع قياس المسافة بين أنفسنا والآخر.
***
القصيدة الغنائيّة هي في الغالب تأكيد فاضح أنّ الشخصيّ عموميّ، وأنّ المحليّ عالميّ، وأنّ العابر أبديّ. ويحدث ذلك! يتّضح أنّ الشّعراء على حقّ أخيراً. وهذا ما لا يستطيع الفلاسفة مسامحة الشّعراء عليه.
***
قصيدة النّثر نتاج نزعتين متناقضتين، النّثر والشّعر، ولذلك فإنّها لا يمكن أن توجد، ولكنّها تفعل. هذا هو الشّاهد الوحيد الذي لدينا عن تربيع الدّائرة.
***
لعبةُ حَجْلة. لقد وثب بيير من ستالين إلى ماو إلى بول بوت إلى صدّام. آمل، بعد تجربة هذا القرن، أن لا يبقى أحد، في المستقبل، يؤمن بخرافة استقلاليّة النّزعة النّقدية لدى المثّقفين.
***
كيف لا يدرك كثير من المنظّرين الأدبيّين ومدرّسي الأدب أنّ الشّاعر لا يكتب القصائد لأجل نفسه فقط، أو لأجل فكرة ما، أو لأجل القارئ، ولكن من إجلال عميق لفنّ الشّعر القديم النّبيل.
***
نتحدّث عن التّقفية بوصفها أداة تذكّر مساعدة، ولكن ليس عن الصّور الهادرة والتّشابيه الغريبة التي نجعلها بطريقة ما عصيّة على النّسيان.
***
الأبديّة أرق الزّمن. أقال ذلك شخص ما، أم هي فكرتي أنا؟
***
مجموعة كبيرة أخرى من الأميّين الثّقافيّين يحيطون بنا: أساتذة الجامعات الذين لا يقرأون الأدب الحديث ولا يعرفون الفنّ الحديث، ولا الموسيقى الحديثة، ولا المسرح، ولا السّينما، ولا الجاز، الخ.
***
لو أنّ القصائد تعبير عن الهويّة العرقيّة لكاتبها لظلّت محليّة، لكنّها كتبت من قبل أفراد في جميع الثّقافات، ممّا يجعلها عالميّة.
***
تريدك القبيلة دائماً أن تكتب عن ‘موضوعات عظيمة ونبيلة’.
***
كيف نفهم الآخر؟ أن نعشقه بجنون.
***
حين كنت صغيراً، نصحني أولاد الحيّ أن أمسك بخصيتيّ في كلّ مرّة أرى فيها قسّيساً. كان ذلك أوّل درس تلقيّته في الفنون.
***
المخيّلة تُماثل الإيروسيّة. أريد أن أختبر كيف يبدو الأمر حين أكون داخل شخص آخر في اللّحظة التي ألمس فيها ذلك الآخر.
***
أنا في طور ترجمة ما لا يمكن ترجمته: الكينونة وصمتها.
***
فنّ الشّعر: حاول أن تجعل سجّانيك يضحكون.
***
سيوران على حقّ حين يقول: ‘كلّنا أرواح متديّنة بلا دين’.
***
كيف نقتل الشّعر الفطريّ المتأصّل في الأطفال ـ جدول الأعمال السريّ لمؤتمر حول التّعليم الابتدائيّ في المدارس. لقد قابلت مدرّسين يخافون من الشّعر مثلما يخاف مصّاصو الدّماء من الصّليب.
***
المؤخّرة العارية لتلك المرأة أكثر فتنة بالنّسبة إليّ من الجنّة.
***
القمر اللّيلة مثل مؤخّرة عروس شابّة قرفصت لتبول.
***
آه، يا تريستا، لنذهب إلى السّرير ونعشق بعضنا حتّى تبدأ الزّنبركات بالبكاء.
***
الكلب المُهجّن الذي أسفل الطّاولة يسترق السّمع على رسالة الحُبّ التي أكتبها ويتنهّد.
***
لا بُدّ أنّ هذه هي النّافذة التي اعتاد إدغار ألان بو أن يختلس النّظر منها على ليالٍ معتمة عاصفة.
***
حفيد الجنرال المنفيّ يلعب لعبة الحرب بوجنتيه وقد نُفختا لمحاكاة القنابل وهي تنفجر. كتبت الابنة المتجهّمة ذكريات الرّجل العجوز. كانت للشقّة برمّتها رائحة طبخ كريه.
كان الجنرال في كرسيّ متحرّك. ارتدى مريلة ودخّن سيكاراً. تبسّمت الابنة لي ولأمّي بطريقة جعلت أسنانها الصّغيرة القاطعة تتبدّى.
أحببت الجنرال على نحو أفضل. تذكّر أحد رؤساء الوزراء متظاهراً أنّه يمسح مؤخّرته بمعاهدة وقّعها للتوّ، الضبّاط الأسرى يسرفون في الشّراب ويرفعون أقداحهم نخب مغنيّة كباريه من أيّام صباهم.
***
إنّه يوم مولدك. الطّفل الذي كنتَه يتراءى في الشّارع تعلو محيّاه ابتسامة بلهاء عريضة. يريدُ أن يأخذ بيدك، لكنّك لا تدعه.
‘لقد نسيت شيئاً ما’، يهمس. وأنت، هادئاً ككلب مهجّن حول حانوتيّ، ذاك أنّه (الطّفل) ليس موجوداً بالطّبع.
***
تحت سرب الطّائرات المحلّقة عالياً كنّا نأكل البطّيخ. وفيما أكلنا سقطت القنابل على بلغراد. شاهدنا الدّخان يصعد في المسافة. كنّا نشعر بالحماوة في الحديقة، فطلبنا أن نخلع قمصاننا. أصدرت البّطيخة فرقعة حادّة حين قطعتها أمّي بسكّين كبيرة. لقد سمعنا أيضاً ما اعتقدناه الرّعد، لكنّنا حين نظرنا عالياً، كانت السّماء زرقاء وخالية من الغيوم.
***
كانت خادمة في بيتنا تسمح لي أن أدسّ يدي تحت تنورتها. كان عمري خمس أو ستّ سنين. ما زلت أتذكّر نداوة ما بين ساقيها ودهشتي بوجود كلّ ذلك الشّعر هناك. لم أستطع الحصول على ما يكفي منه. كانت تزحف تحت الطّاولة حيث أحتفظ بحصني العسكريّ وجنوديَ الدُّمى. لا أذكر الذي قِيل، إن ثمّة شيء. فقط يدها وهي تقود يدي، بثباتٍ، إلى ذلك الموضع.
القدس العربي – ترجمة: تحسين الخطيب