تسكع بوكوفسكي كتجسيد لـ فن اللامبالاة
يعرّف مارك مانسون كتابه “فن اللامبالاة، لعيش حياة تخالف للمألوف” بقوله: “لن يعلمك هذا الكتاب كيف تكسب مالاً أو كيف تحقق شيئاً من الأشياء، بل سيعلمك كيف تخسر من غير أن تشكل الخسارة مصدر قلق كبير لك”. ثم يبدأ بشرح كيف تسهم كل وسائل الإعلام والانترنت والمعلومات اليومية المتدفقة وحتى صور الناس السعداء على مواقع التواصل بزيادة شعورنا بالتعاسة. وكيف تواصل كتب التنمية الذاتية والمحاضرات والاعلاميين والمتحدثين والعظات الدينية بإقناعنا أن كل منا هو إنسان فريد ومهم واستثنائي لهذا علينا أن نجهد أنفسنا ونكافح لنكون خارقين واستثنائيين جميعاً وبهذا لم يعد أحداً راضياً عن نفسه لأن المتوسط والعادي صار يعني الفشل، بينما نحن جميعاً نستحق العظمة والخلود كما أكد لنا الجميع. هذا الضغط والتفكير المستمر بأن علينا أن نكون شيئاً مدهشاً وغير عادي سيصيبنا بالاحباط والاكتئاب عندما لا نستطيع تحقيق ذلك.
وقد طرح مارك مانسون حياة الشاعر الأمريكي تشارلز بوكوفسكي كمثال على حياة إنسان انتقل من التسكع والتشرد والفقر إلى الشهرة والنجاح ليس بفضل قناعته بأنه إنسان فريد واستثنائي بل بسبب لا مبالاته وقناعته التامة بأن هذه الحياة لا تستحق المحاولة لدرجة أن كٌتب على شاهدة قبره كلمة “لا تحاول”. كان بوكوفسكي أكثر الكتاب سخرية وانتقاداً لأسلوب الحياة الأمريكية واستهلاكها للفرد، استطاع الخروج من هذه الحلقة المفرغة التي نضع أنفسنا فيها عندما نهتم أكثر من اللازم بما يقوله الآخرون وبما يعجبهم، أما بوكوفسكي فقد أعلن منذ البداية أنه لا يهتم بأحد ولا يحب أحد ولا يريد من هذا العالم سوى أن يترك وشأنه.
في “فن اللا مبالاة” يقول مارك مانسون:
“يتجاهل معظم مرشدي المساعدة الذاتية هذا المستوى الأكثر عمقاً لوعي الذات. فهم يأخذون أشخاصاً يشعرون بالتعاسة لأنهم يريدون أن يكونوا أثرياء فيقدمون إليهم مختلف أنواع النصائح عن كيفية التوصل إلى جني مزيد من المال، لكنهم يتجاهلون طيلة الوقت الأسئلة الهامة المستندة إلى القيم: لماذا يشعرون بهذه الحاجة إلى الثراء أصلاً؟ وكيف يقيسون النجاح أو الفشل حين يتعلق الأمر بأنفسهم؟ أما من قيمة بعينها يمكن التوصل إلى أنها السبب الأصلي لقلة سعادتهم، وليس حقيقة أنهم لم يستطيعوا شراء سيارة فاخرة حتى الآن؟”
ويورد تشارلز بوكوفسكي في إحدى قصصه هذه السخرية من سعي الإنسان لمزيد من العمل والمزيد من المال:
– اسمع، هل تحب أن تعمل ساعات إضافية؟
– أوه، نعم يا سيدي! أود أن أعمل 7 أيام في الأسبوع إذا أمكن، بوظيفتين إذا أمكن”.
– لماذا؟
– المال، يا سيدي. المال من أجل اقتناء تلفزيون ملون، سيارات جديدة، وقرض من أجل المنزل وبيجامة من حرير، وكلبين، وحلاقة كهربائية، وتأمين على الحياة وتأمين طبي، جميع أنواع التأمين، ورسوم التعليم العالي لأطفالي، إن كنت سأنجب، وأبواب أوتوماتيكية للمرآب وملابس جميلة وأحذية بقيمة 45 دولاراً، وكاميرات، وساعات يد وخواتم وغسالات، وثلاجات، وكراسي جديدة وأسرّة جديدة، وسجاد من الحائط إلى الحائط، وتبرعات للكنيسة، وأجهزة تدفئة و…”
– حسناً، يكفي. اسمع، متى ستستخدم كل هذه الأشياء؟
– لا أفهم يا سيدي
– أعني، عندما تعمل ليلاً ونهاراً إضافة إلى العمل الإضافي، متى ستستمتع بهذه الكماليات؟
– أوه، سيأتي يوم، سيأتي يوم، يا سيدي!
– ألا تعتقد أن أطفالك سوف يكبرون يوماً ويرون فيك مجرد أحمق؟
– بعد أن أفنيت نفسي في العمل من أجلهم يا سيدي! بالطبع لا!
– ممتاز. الآن مجرد بضعة أسئلة.
– نعم يا سيدي.
– ألا تعتقد أن كل هذا العمل الشاق المتواصل يضر بصحتك وبروحك، مثلاً…
– اللعنة، لو لم أعمل طيلة الوقت لكنت فقط أجلس وأشرب أو أرسم لوحات زيتية أو أضاجع أو أذهب إلى السيرك أو أجلس في الحديقة أراقب البط. أشياء من هذا القبيل.
– ألا تعتقد أن الجلوس في الحديقة ومشاهدة البط أمر لطيف؟
– هكذا لن تجني المال يا سيدي.
– حسناً، اللعنة عليك.
**
معظم ما جاء في كتاب مارك مانسون يعكس فلسفة بوكوفسكي ونظرته تجاه الحياة وحياته الفعلية لهذا سنقوم هنا بإيراد مقتطفات من كتاب “فن اللامبالاة” يليها مقتطف من أحد أعمال بوكوفسكي يمثل نفس الفكرة التي طرحها مارك مانسون.. تكون الروايات أحياناً من أكثر الأشياء الملهمة لمؤلفي التنمية والتطوير.
((الحب والعلاقات))
مارك مانسون:
الحب الرومانسي شيء يشبه الكوكايين. بل هو يشبه الكوكايين إلى حد مفزع. إنه يثير الأجزاء نفسها من أدمغتنا التي يثيرها الكوكايين. وهو يجعلك تحلق عالياً ويكون لديك إحساس جميل برهة من الزمن، لكنه يخلق لك مشكلات أكثر من التي يحلها، تماماً مثلما يفعل بك الكوكايين.
بوكوفسكي:
كنت سعيداً لكوني غير واقع في الغرام، وبأني كنت غير راض عن العالم. أهوى أن أكون على خلاف مع كل شيء. الناس المغرمون يصبحون غالباً انفعاليين وخطرين، يفقدون حس البصيرة وحس الدعابة والمزاح يصيرون عصبيين، ذهانيين مضجرين، يمسون حتى قتلة.
مارك مانسون:
العلامة المميزة للعلاقة غير الصحية هي رؤية شخصين يحاول كل منهما حل مشكلات الآخر حتى يكون مسروراً من نفسه. وأما العلاقة الصحية فهي أن يحل كل طرفه مشكلاته بنفسه حتى يكون شعور كل منهما تجاه الآخر طيباً.
بوكوفسكي:
العلاقات البشرية عجيبة، أعني تكون مع شخص ما لفترة من الوقت، تأكل وتنام وتعيش معه، تحبه، تتحدث إليه، تتوجهان إلى الأمكنة معاً، ثم يتوقف الأمر ثم بعدها تمضي فترة قصيرة لا تكون خلالها بمعية أحد،، وتصل امرأة أخرى، وتأكل معها وتضاجعها، ويبدو الأمر برمته طبيعياً، كما لو أنك كنت وحسب تنتظرها، وكانت هي في انتظارك. ما شعرت يوماً وكنت وحيداً إني على خير ما يرام، أحياناً أكون راضياً بذلك، غير أني لم أشعر البتة بالرضا.
((الحياة المعاصرة))
مارك مانسون:
إن مجتمعنا اليوم، من خلال الأعاجيب التي تفعلها بنا ثقافة الاستهلاك ورسائل من قبيل “انظر.. حياتي أجمل من حياتك” التي تمطرنا بها وسائط التواصل الاجتماعي، قد أنتج جيلاً كاملاً من الناس الذين يظنون أن امتلاك هذه التعابير السلبية- القلق، والخوف، والاحساس بالذنب، الخ- أمر غير جيد على الإطلاق. ما أعنيه هو أنك إذا نظرت إلى ما يأتيك عبر فيسبوك، فأنت تجد أن كل شخص في العالم يعيش وقتاً رائعاً..أما أنت، فإنك جالس في بيتك تنظف أسنان قطتك. لا يمكنك التفكير عند ذلك إلا في أن حياتك بائسة، بل إنك تراها بائسة أكثر حتى أكثر مما كنت تظن.
بوكوفسكي:
كنت كاتباً، كنت عجوزاً حقيراً ثم إنها العلاقات الإنسانية مخيبة بكل الأحوال. كان ثمة البهجة في الأسبوعين الأولين، ثم يفقد الطرفان الاهتمام. تسقط الأقنعة، وينكشف الأشخاص على حقيقته: مهووسون، أغبياء، مخبولون، حاقدون، ساديون، مجرمون، المجتمع المعاصر استولد كائناته الخاصة، كائنات يلتهم أحدها الآخر كان صراعاً حتى الموت.. داخل بالوعة. أطول ما يمكن أن يأمل الواحد في استمرار علاقة بين شخصين كان مدة سنتين ونصف السنة، هذا كان أمراً محسوماً عندي. ملك مملكة سيام امتلك تسع آلاف زوجة وخليلة، والملك سليمان من العهد القديم امتلك سبعمائة زوجة، أغسطس القوي أمير مقاطعة ساكسونيا أمتلك 365 زوجة، واحدة لكل يوم من أيام السنة. الطمأنينة نتاج الكم.
((لا تحاول!))
مارك مانسون:
عدم الإفراط في الاهتمام هو ما سينقذ العالم. وسوف تنقذه أنت من خلال قبولك أن العالم مكان سيء، وأن هذا شيء لا بأس به لأن العالم كان هكذا على الدوام، ولأنه سيظل هكذا على الدوام.
بوكوفسكي:
– هل تعني أنك تعيش من أجل الكتابة وحسب؟
– لا، إني موجود وحسب. ثم لاحقاً أحاول أن أتذكر وأكتب بعض الأمور.
((نحن هو ما يريده الآخرون!))
مارك مانسون:
أنت تتجنب كتابة تلك المسرحية التي حلمت بها دائماً لأن إقدامك على ذلك يمكن أن يجعل هويتك موضع التساؤل لأن أحداً سيتهمك بأنك انتحلتها. وأنتِ تتجنبين الحديث مع زوجك عن ضرورة الحاجة إلى قدر من الجرأة عندما تكونان في غرفة النوم، وهذا لأن الحديث يمكن أن يشكك في هويتك باعتبارك امرأة صالحة حسنة الأخلاق. وأنت تتجنب إخبار صديقك أنك لا تريد رؤيته بعد الآن لأن إنهاء صداقتك به أمر متعارض مع هويتك باعتبارك شخصاً لطيفاً مسامحاً. هذه كلها فرص جيدة هامة نرفضها باستمرار لأنها تهدد بتغيير نظرتنا وشعورنا تجاه أنفسنا. إنها تهدد القيم التي اخترناها وتعلمنا أن نعيش حياتنا وفقاً لها.
تجد نفسك في الغرب واقعاً تحت ضغط كبير حتى تعجب الآخرين مما يجعل الناس يعيدون رسم شخصيتهم كلها بحسب الشخص الذي يتعاملون معه.
بوكوفسكي:
كانت كاترين تدرك أنه هناك أمراً ما معتلّ فيّ، ثمة ما هو مختل في تصرفاتي وفي كياني. كنت منجذباً إلى كل الأمور الخطأ أحب السكر، وكنت كسولاً، لم يكن لي رب، ولا رأي سياسياً، ولا أفكار، ولا مثاليات. كنت مستقراً في العدم، في نوع من اللاوجود، وكنت راضياً بذلك. كل هذا لا يجعل مني شخصاً مثيراً للاهتمام. لم أكن راغباً في أن أكون مهماً، فهذا صعب جداً ما وددته فعلياً كان وحسب مجرد فسحة ناعمة وغامضة لأعيش فيها، وأن أترك وشأني.
((المتعة))
مارك مانسون:
المتعة إله زائف. تبين الدراسات أن الناس الذين يركزون طاقتهم عل المتع السطحية ينتهي بهم الأمر إلى أن يصيروا أكثر قلقاً وأقل استقراراً من الناحية الانفعالية وأكثر اكتئاباً أيضاً. المتعة أكثر أشكال الرضا سطحية، ولعل هذا سبب كونها الأسهل تحققاً والأسرع زوالاً. إلا أن المتعة هي ما يجري تسويقه لنا على امتداد أربع وعشرين ساعة، وسبعة أيام في الأسبوع!
بوكوفسكي:
لم أكن يوماً لبّيساً متأنقاً، كانت قمصاني جميعها باهتة الألوان، ومنكمشة، عمرها خمس أو ست سنوات ورثّة، وعلى نحوها كانت بناطيلي. أكره متاجر الألبسة، أكره البائعين، يتصرفون بفوقية لا تطاق، تخالهم يدركون سر الحياة، يمتلكون ثقة بالذات أفتقدها. كانت أحذيتي على الدوام قديمة وبالية. كنت أكره أيضاً متاجر الأحذية. ما ابتعت أبداً شيئاً، إلا بعد أن يُستنفد الأسبق كلياً، وهذا يشتمل السيارات. لم يكن الأمر أني أقتّر، المسألة وحسب أنه ليس باستطاعتي أن أتحمل فكرة أني شارٍ بحاجة إلى بائع، بائع شديد الوسامة ومتحفظ ورفيع المنزلة. إضافة إلى أن كل هذا يحتاج إلى وقت، وقت يكون بوسعك فيه الاستلقاء واحتساء الشراب.
((العزلة))
مارك مانسون:
عندما تهتم بأشياء أكثر عدداً مما يجب، وعندما تهتم بكل شيء وبكل شخص، فسوف تشعر بأن من حقك أن تكون مرتاحاً سعيداً، وبأن كل شيء ينبغي أن يكون مثلما تريده تماماً. لكن هذه حالة مَرَضية. وسوف تأكلك حياً. سوف ترى في كل نزاع معك ظلماً واقعاً عليك، وسوف ترى في كل تحد فشلاً لك، وفي كل إزعاج إهانة شخصية، وفي كل اختلاف خيانة. سوف تكون محصوراً داخل جدران رثائك لنفسك، ضمن جحيم على قياس رأسك ليس وقوده شيئاً غير تبجحك بنفسك وما تظن أنك تستحقه، جحيم يكرر ويعيد تلك الحلقة الجحيمية التي تكرر نفسها في حركة مستمرة لا تصل بك إلى أي مكان.
بوكوفسكي:
كمتوحد كنت عاجزاً عن تحمل الزحمة. لا علاقة لهذا بالغيرة، غير أني ببساطة أكره الناس والحشود في أي مكان، ما عدا أثناء قراءاتي. الناس يسببون لي الانحطاط، يتنشقون هوائي فأختنق.
((الموت))
بوكوفسكي:
مجرد أن نحيا إلى أن نموت، هو أشغال شاقة بحد ذاته.
مارك مانسون:
ما يقوله بيكر هو، في جوهره، أننا مدفوعون جميعاً بالخوف من الإفراط في الاهتمام بأشياء كثيرة لأن اهتمامنا بشيء ما هو ما يلهينا عن الواقع وعن حتمية موتنا. كما أن عدم الاهتمام بأي شيء على الإطلاق يعادل الوصول إلى حالة شبه روحانية من قبول عدم دوام وجودنا نفسه. في تلك الحالة، يصير احتمال وقوع المرء في أشكال كثيرة من الشعور الزائد بالاستحقاق أمراً قليل الاحتمال إلى حد بعيد.
بوكوفسكي:
“أيتها البشرية أنت مشروع فاشل منذ البداية”. كان هذا شعاري
مارك مانسون:
إن مواجهة حقيقة فنائنا أمر في غاية الأهمية لأنه يزيل عنا كل ما في حياتنا من قيم تافهة سطحية هشة. وفي حين ينفق أكثر الناس أيامهم في الجري خلف دولار إضافي، أو خلف زيادة شهرتهم واهتمام الناس بهم، ولو قليلاً، أو خلف مزيد من التأكيد على أنهم محقون أو على أنهم محبوبون، فإن الموت يفاجئنا كلنا بسؤال أكثر إيلاماً بكثير، وأكثر أهمية بكثير: “ماذا ستترك من بعدك؟”
بوكوفسكي:
“سوف نموت جميعاً، سنموت كلنا. يا لهذا السيرك! هذا وحده كافٍ لأن يجعل الواحد منا يحب الآخر. لكننا لا نفعل هذا. إن توافه الحياة تداعب أحاسيسنا، وهي تصيبنا بالذعر أيضاً. نحن بشر يأكلهم اللاشيء