صاغَة دمشق: بين النرد والله/ مروان كيالي
في كل يوم أخرج فيه من عملي، أمرّ أحياناً بجانب ساحة الصاغة في دمشق، وهي من الساحات المعروفة بتجمّع محلات بيع الذهب والصاغة. وأكثر ما يلفت انتباهي أثناء مروري، هو جلوس كثير من الصاغة في ساحتهم يلعبون معاً وكأنهم في دوري لأبطال لعبة الزهر أو “الطاولة” أو “النرد”.
ذات يوم، حرّكني فضول لطالما قمعته، كي أسألهم عن سرّ هذه التجمّعات في ساحة الصاغة. فالرجال والشبّان يحومون حول لاعبي النرد مشجّعين هذا للعبه الجيّد، و منتقدين ذاك لضعف أدائه، متأسّفين على ذاك لسوء حظّه، وحاسدين آخر لقوّة “نرده”.
وقفت متأملاً مثل جميع المتحلّقين حول إحدى الطاولات، وكلّي ثقة أنني سأشجّع “اللعب الحلو”.
شيش جهار، شيش بيش، دو شيش، يك سيه، وإلى آخره من مسمّيات الأرقام وطقوس ارتطام أحجار النرد على الطاولة. فجأة ومن دون مقدّمات غضب أحد اللّاعبين وقلب الطاولة شاتماً حظّه، ولاعناً الله، فتعالت الضحكات لتملأ المكان، بينما دعاه من بعيد أحد اللاعبين كان جالساً على طاولة أخرى بأن “يستغفر ربّه” وألا يشتمه، مدرجاً له قائمة من الأسباب التي أدّت إلى هذه الحال في سوريا، وأوّلها “الابتعاد من الله”.
ضحكت مثلهم، وسألت أحد المتحلّقين حول الطاولة عن سبب تصرّف هذا اللّاعب على هذا النحو، فأجابني: “اتركوا بهمّوا… هلأ خسر غرام ذهب”.
انفضّ الجمع على أمل اللّقاء غداً في “ماتش” جديد يعيد الأمل للّاعب الذي خسر اليوم. صوت آخر من بعيد ينذر بانتهاء اللعب وانتصار أحد اللاعبين وحصوله على ما اتّفق عليه من رهان الذهب.
قرّرت في اليوم التالي الحضور أبكر قليلاً، لعلّني أستطيع فهم ما يحدث. كان الدخان الأسود ينبعث من بيوتات الغوطة الشرقية كأي يوم دمشقي عادي، وكانت أسعار الذهب في ارتفاع مضطرد والأسواق في ضيق شديد نتيجة ارتفاع سعر صرف الدولار الأميركي والذي يقال له “الأوّل” كاسم حركي بين المضاربين.
أربع طاولات مفتوحة للعب في الساحة، والأصوات تتعالى من جديد: دو شيش، دو يك، سيه جهار، دو جهار، وغيرها من الأسماء القديمة لأرقام لعبة “النرد”. فجأة يشير لي أحد المتحلّقين حول الطاولة أن الرهان وصل إلى غرامين ونصف الغرام، فَقلت في نفسي وأنا أنظر إلى محلّاتهم الفارغة من الزبائن… ماذا عن أعمالهم؟ وأي قانون هذا يشرّع الرهان علناً والمقامرة في لعبة “نرد”.
حدّثني وسيم والذي يصنّف من الصاغة المتوسّطين، ومن المراهنين الخجولين في هذا المضمار: “أنه لمن المفارقات التي نعيشها كصاغة للذهب، هو ارتفاع أسعاره في سوريا على رغم انخفاضه عالمياً، فـ”لا بيعة، ولا شروة”، وكلنا في حال ترقّب وانتظار حصول إقبال على شراء الذهب. لقد أصبحنا في السنة السابعة من “الأزمة” ولا توجد بوادر “لحلحة”. ويضيف وسيم: “الله وكيلك منذ أسبوع إلى اليوم ، بعتُ 10 غرامات، لكنني ربحتُ مثلهم بلعب الطاولة، فأيهما أفضل، العمل أم اللعب بالطاولة؟”، ضحكت موافقاً كي لا أدخل معه في نقاش لا طائل منه، وتركت المكان عائداً إلى المنزل، وفي طريقي سمعت صوتاً عالياً: “خشب” هي عبارة تطلق عند انتهاء اللعب بحصر أحد أحجار الخصم في الزاوية الأولى من جهته، وبالتالي يستحيل عليه إخراج الحجر مهما كان، وتنتهي اللعبة فوراً.
أيام كثيرة مضت ولم أتجول في ساحة الصاغة؛ لا لشيء إلا لأنني علمت ما سبب التجمّعات التي تحصل والمونديال الذهبي الذي يدور منذ سنوات هناك. لم تستطع سنوات الحرب إيقاف مونديال الذهب بل على العكس ازدهر بشكل كبير نظراً إلى تراجع أعمال الصاغة والتقلّبات الكبيرة في أسعار الذهب، فكان الصائغ يخسر في يوم واحد ما كسبه سابقاً ويعاود إلى اللعب مراراً لاستعادته بل والزيادة عليه بربحٍ جيد. فجأة التقيت بـ “وسيم” وكان خائباً، عندها سألته عن حاله، فأجاب: والله اليوم خسرت غرامين، بس الله وكيلك من يومين ربحت /3/ غرامات، يالله… ان شاء الله بكرا الله بيعوضنا”. حال وسيم كحال كثيرين من أبناء أسواق الصاغة والبزوريه ومدحت باشا، والحميدية… يذكرون الله دائماً عندما يتاجرون، أو يقامرون، فلا قوانين تمنعهم، ولا مبادئ تحكمهم، ومن يقول لك غير ذلك قُل له فوراً… “خَشَبْ”.
صحافي سوري
درج