المدرسة الروسية… قلق من استعمار جديد في سورية/ ريان محمد
أيام قليلة وتفتح أوّل مدرسة روسيّة في المنطقة أبوابها في سورية. وتكثر التساؤلات حول دورها وتأثيرها على تلاميذها، لا سيّما في ما يتعلق بانتمائهم وهويّتهم. ثمّة من يرى فيها شكلاً استعمارياً جديداً.
يبدو أنّ الحضور الروسي في سورية لن يقتصر على الشؤون العسكرية والسياسية والاقتصادية فحسب، بل ثمّة حضور ثقافي وتعليمي آخذ بالاتساع منذ عام 2014، علماً أنّه لا يشبه أيّ نشاط ثقافي اعتيادي بين الدول ذات السيادة وثمّة من يصفه بـ”سياسة تطبيع” ما بين المجتمع السوري والروس الذين يؤسّسون لإقامة طويلة الأمد في سورية.
في أواخر عام 2014، لم يخفِ مستشار وزارة التربية لدى النظام السوري، علي ناعسة، خلفيات إقرار وزارة التربية آنذاك اعتماد اللغة الروسية لغة ثانية اختيارية إلى جانب اللغة الفرنسية ابتداءً من الصف السابع الإعدادي، مع بداية العام الدراسي 2015 – 2016. وهو قال في تصريح صحافي حينها إنّ اللغة الروسية حاضرة بقوة في سورية بسبب وجود نخب عسكرية وأكاديمية جرى تأهيلها في موسكو بموجب البعثات التعليمية التي كانت تقدّم للطلاب السوريين، وهي حاضرة كذلك بحسب ناعسة في الأوساط الاجتماعية نتيجة التشابك في العلاقات بموجب ثلاثين ألف رابط زواج مختلط بين أبناء البلدَين.
من جهتها، سوّقت وسائل إعلام مقرّبة من النظام أنّ اعتماد اللغة الروسية وعلى الرغم من أنّها لغة آداب وفنون أكثر منها لغة علوم واقتصاد وتكنولوجيا، ما هي إلا رسالة سياسية “قوية” من دمشق باعتماد لغة حليفتها موسكو رسمياً في مدارسها من دون انتظار استقرار الأوضاع ووقف الحرب لتطوير مناهجها وكذلك لتوفير قاعدة ثقافية للعلاقات السياسية الممتازة بين البلدَين.
وكان وزير التربية لدى النظام، الدكتور هزوان الوز، قد كشف في تصريح صحافي في أكتوبر/ تشرين الأول من عام 2017، عن 170 مدرسة تعتمد الروسية كلغة ثانية في المحافظات وتضمّ نحو 15 ألف تلميذ. وقبل ذلك بنحو عام، في أواخر 2016، كان الوز قد أعلن أنّ الوزارة وضعت خطة لتطوير اللغة الروسية في مدارسها، مضيفاً أنّ 59 مدرسة كانت تدرّس اللغة الروسية عام 2015 ليصل عددها إلى 105 مدارس في عام 2016. وعمدت الوزارة إلى التعاقد مع كل شخص يتقن اللغة، خصوصاً الروسيات المتزوجات من سوريين، بغضّ النظر عن سنّهنّ وإمكانياتهنّ لتعليم اللغة الروسية.
وفي نوفمبر/ تشرين الثاني من عام 2014، استحدثت كلية الآداب والعلوم الإنسانية في جامعة دمشق قسماً للغة الروسية وآدابها، وحمّلت وزارة التعليم العالي حينها المدرّسين السوريين من أصحاب الإجازات الجامعية أو الشهادات العليا في الأدب الروسي من إحدى جمهوريات الاتحاد السوفييتي السابق أو من روسيا الاتحادية، مسؤولية تدريس الطلاب السوريين اللغة الجديدة. كذلك، جرى توظيف المواطنات الروسيات حاملات الجنسية السورية واللواتي يملكنَ الشهادات نفسها، ليصل عدد مدرّسي اللغة الروسية في عام 2016 إلى 60 مدرّساً وفق إحصائيات رسمية. وهو ما يؤكد أنّ قرار إدراج اللغة الروسية كان سياسياً، إذ إنّ وزارة التربية ووزارة التعليم العالي لم تكونا حينها تملكان الكادر التدريسي أو البنية التحتية لذلك. كذلك، أنشأت جامعة دمشق في أكتوبر/ تشرين الأول من عام 2017 المركز الروسي لتنسيق التعاون لتعليم اللغة الروسية، وذلك في مديرية العلاقات الدولية والثقافية في مبنى رئاسة الجامعة.
انقسام بين السوريين
محمد، طالب في قسم اللغة الروسية في جامعة دمشق، يتحدّث عن “دوافع اقتصادية لدى الراغبين في هذا التخصص، فالبلاد تسير في اتجاه انفتاح اقتصادي وسياسي وثقافي مع روسيا. والأخيرة لها حصّة كبرى في مستقبل سورية، الأمر الذي يجعل اللغة الروسية حاجة في سوق العمل. وعلى مستوى التدريس، ثمّة حاجة كبيرة لكوادر، لذلك أظنّ أنّ لدينا فرصاً تنافس فرص الأطباء والمهندسين”.
والسوريون على موعد في نهاية الشهر المقبل، مع افتتاح مدرسة ترعاها جهة دينية روسية، في حدث هو الأول من نوعه منذ نحو مائة عام، الأمر الذي يعيد إلى الأذهان ما دوّنه التاريخ عمّا سمّي بالمدارس التبشيرية التي كانت ذراع الدول المستعمرة الثقافي. وقد قيل إنّ مهمتها هي تطبيع المجتمع وإيجاد تابعين لها وسلخهم عن ثقافتهم وإرثهم ونشر لغة الدولة التي تتبع لها.
أبو جابر من سكان دمشق، يقول لـ”العربي الجديد”: “جعلت أبنائي جميعهم يتعلمون اللغة الروسية في المدارس وفي معاهد خاصة. وفتح مدرسة روسية سوف يساعد الناس الراغبين في تعلم الروسية، وقد تكون لتلاميذها الأولوية في البعثات”. يضيف أنّ “هذه اللغة قد تؤمّن لهم فرص عمل في المستقبل في البلد، إذ إنّ مشاريع الروس ومصالحهم كثيرة في البلد. كذلك فإنّهم يقدّمون منحاً للطلاب السوريين في جامعاتهم، وهذه فرصة يجب الاستفادة منها”. ويشير أبو جابر إلى أنّ “أمر سورية اليوم بيد الروس والمواطنين لا حول لهم ولا قوة. إذا كانت الدولة هي التي تدخلهم وتمنحهم الاستثمارات والمشاريع وتنشر لغتهم، فماذا نفعل نحن”؟
أمّا أبو بشير وهو كذلك من سكان دمشق، فكان له موقف مغاير، إذ قال لـ”العربي الجديد”: “لا نريدهم ولا نريد لغتهم. اليوم، أشعر بأنّه خلال سنوات قليلة سوف يكون كل شيء في البلاد روسياً أو إيرانياً، في حين أنّنا في زمن الاتحاد السوفييتي السابق كانت لنا شخصيتنا التي نعتز بها”. يضيف: “أنا ضد المدارس الأجنبية، فكيف إذا كانت برعاية دينية. كأنّما زمن المدارس التبشيرية عاد من جديد، وهي التي كان يقف وراءها الاستعمار القديم مثلما لقّننا التاريخ في مدارسنا”. ويتابع: “كان يكفي نشاط المركز الثقافي الروسي وغيره من مراكز ثقافية تابعة إلى دول مختلفة. أمّا فتح مثل هذه المدرسة، فأظنّ أنّه سوف يهدد انتماء وهوية جزء مهم من طلابنا الذين لا نستبعد أن تكون لهم إدارة البلاد في المستقبل بدعم من الروس”.
خوف على الانتماء
في السياق، يقول وزير التربية في الحكومة المؤقتة، عماد برق، لـ”العربي الجديد”، إنّ “فتح مدرسة روسية في دمشق تدرّس المناهج والثقافة الروسية تكريس للاحتلال الروسي لسورية. وهذا أمر واضح تماماً، لأنّ الاحتلال يعزّز دائماً من خلال التعليم والمناهج. اليوم تُفتح مدرسة واحدة، لكن في الأيام المقبلة قد نشهد فتح مدارس عدّة في مختلف المناطق. فقد بيعت سورية. وبعد بسط الروس سيطرتهم عسكرياً على مناطق كثيرة، بدأوا العمل للسيطرة على الثقافة”.
يضيف برق أنّ “إدخال المناهج الروسية وكذلك الثقافة أمر خطير للغاية وهو مخالف للأنظمة والقوانين السورية وخرق لسيادة الدولة الذي يُعَدّ التعليم جزءاً منها. والتعليم الروسي سوف يؤدي إلى خلل لدى من يتّبعه وسوف يضعف الانتماء الوطني لدى الأجيال المقبلة. فمن أهداف التعليم تعزيز الروابط الوطنية من خلال المناهج ومفرداتها”. ويشدد برق على “مخاطر إضعاف الانتماء الثقافي والارتباط بالتاريخ والجغرافيا. تلاميذنا سوف يتعلمون ثقافة وتاريخ دولة أجنبية بعيدة عن تاريخنا وثقافتنا”.
من جهته، يرى وزير التعليم العالي في الحكومة المؤقتة، الدكتور عبد العزيز الدغيم، أنّ “هذا الأمر يمثّل وجهاً من أوجه الاحتلال الروسي الذي يفتح مدارس له للحصول على الرضى. لكنّنا في المناطق المحررة، لسنا مسؤولين لا من قريب ولا من بعيد عن تلك الإجراءات التي تتخذ لتطبيع المجتمع مع قوى الاحتلال”. يضيف لـ”العربي الجديد” أنّ في “مناطق المعارضة، اللغة العربية هي اللغة الأساسية في المدارس والجامعات واللغة الإنكليزية هي اللغة الثانية. وثمّة جامعات لها خصوصيتها، فتعتمد اللغة الفرنسية واللغة التركية اللتَين هما من اللغات الاختيارية وليس الإجبارية”.
أوّل مدرسة
وكانت وسائل إعلامية روسية قد نقلت خبر افتتاح أوّل مدرسة روسية في دمشق في أواخر سبتمبر/ أيلول المقبل، في خطوة وصفتها تلك الوسائل بأنّها تمثل واحدة من أهم محطات التعاون الروسي – السوري في مجال التعليم. وجاء على موقع قناة “روسيا اليوم” أنّ بناء المدرسة يجري تحت إشراف رأس النظام السوري والجمعية الإمبراطورية الأرثوذكسية الفلسطينية من الجهة الروسية. وصرّح ممثل الجمعية راميل بيتيميروف بأنّها سوف تكون أوّل مدرسة روسية في الشرق الأوسط خلال القرن الأخير، و”نتوقع أن يتمّ افتتاحها بحضور أعضاء الحكومة السورية والرئيس السوري. كما نخطط لفتح مدرسة مماثلة في لبنان، وتجري حالياً محادثات بهذا الشأن”. أضاف بيتيميروف أنّ التعليم في المدرسة سوف يتمّ وفق البرامج التعليمية الروسية المترجمة إلى اللغة العربية، بينما يتألّف بناء المدرسة من وحدات عدّة سوف تُنقَل إلى سورية من مدينة نوفوروسيسك الروسية. إلى ذلك، كان المركز الثقافي الروسي في دمشق قد أعلن أنّه سوف يستأنف عمله كاملاً حالما تسمح الظروف الأمنية بذلك. فالمركز يعمل حالياً بشكل غير مباشر، عبر المركز المماثل في بيروت.
ومشروع المدرسة يعود إلى إبريل/ نيسان من عام 2017، عندما أعلنت وزيرة الشؤون الاجتماعية والعمل في حكومة النظام، ريما القادري، في تصريح لوكالة “سبوتنيك” الروسية، عن إطار لمكافحة الإرهاب من خلال تثقيف المجتمع الأهلي. وقد شدّدت على أهمية وضع الأطر التنفيذية للتعاون بين الطرفين، من خلال فتح فرع للجمعيات الروسية في دمشق لممارسة نشاطاتها في القطاع الاجتماعي والتعليمي والصحي والاقتصادي ودعم تعلم اللغة الروسية نظراً إلى دورها في تعزيز التقارب بين سورية وروسيا. وأوضحت أنّه “سيتم افتتاح أوّل فرع للجمعية الامبراطورية الأرثوذكسية في دمشق التي تبنت بناء مدرسة روسية. وقد تمّ تحديد المكان ضمن مجمّع ضاحية قدسيا، وسيكون بمساحة تبلغ عشرة دونمات وهي منحة من الحكومة السورية لبناء مدرسة لتعليم اللغة الروسية، بالتنسيق مع الجانب الروسي بالشأن الهندسي وطاقتها الاستيعابية، والتعاون مباشرة مع وزارة التربية لوضع برنامج تربوي وتعليمي شامل لتعزيز تعليم اللغة الروسية في المدارس السورية وتدريب الكوادر التدريسية وتوزيع الكتب الدراسية الخاصة بذلك. وسيكون بناء المدرسة نقلة في مجال التعليم”. ولفتت القادري إلى أنّه تمّ الاتفاق على إنشاء مستشفى متنقل ومركز طبي لتقديم خدمات طبية أوّلية للمتضررين بسبب الاعتداءات الإرهابية في مدينة حلب.
من جهة أخرى، ذكرت صحيفة “إزفيستيا” الروسية أخيراً أنّ حصة الطلاب السوريين في المعاهد والجامعات الروسية ازدادت خلال السنوات الأخيرة من 200 إلى 500 مقعد، لكنّ هذا العدد من المقاعد المجانية ما زال غير كاف لتلبية الطلب المتزايد. وأشارت الى أنّ عدد الطلبات التي قدّمها السوريون خلال العام الجاري تجاوز ألفي طلب تشمل كل الاختصاصات واتجاهات التدريب.
تجدر الإشارة إلى أنّ ثمّة علاقات تاريخية لسورية مع الاتحاد السوفييتي السابق الذي كان يقدّم آلاف المنح الدراسية للطلاب السوريين، في حين كان المركز الثقافي الروسي في دمشق من أكثر المراكز الأجنبية نشاطاً. وكان يقدّم دورات في اللغة والموسيقى والرقص والرسم، بالإضافة إلى معرض الكتاب الدائم وغيره من النشاطات الفكرية. لكن، مع انهيار الاتحاد في أوائل تسعينيات القرن الماضي، توقفت تلك المنح وانخفض نشاط المركز بشكل ملحوظ.
العربي الجديد