مَخرَج خطِر: مَن يقرّر كيف يعود السوريّون من لبنان إلى بلادهم؟
بينما صعدت حليمة إلى الشاحنة مغادرةً لبنان في حزيران/ يونيو الماضي، أصرّت على أنه إذا ما أُلقي القبض على الرجال الذين يقودون الشاحنة عند الحدود السوريّة فإنّها ستكمل طريقها وحدها إلى قريتها. كانت الجدّة التي تبلغ من العمر 66 سنة لم ترَ ابنها وابنتها منذ خمس سنوات. كانت ترتدي فستاناً مطرّزاً أسود وغطاء رأسٍ تقليديّاً، وقد أشرقت عيناها المتغضّنة في عزيمة وإصرار قائلةً “ها أنا أعود إلى بلادي”.
لقد توسّلت إليها ابنتاها، وقد مكثتا في لبنان، ألّا تغادر. وعند رحيلها بكتَا على كتفَيها. تقول ابنتها شريفة، ذات الـ 42 ربيعاً، بصوتها الأجشّ “نخشَى ألّا تعود مرّة أخرى”. ولن تلحق شريفة بأمّها إلى سوريا، لأنّ ابنها -والذي كافح وحيداً إذ يعاني والده من عجز لأجل كفاية العائلة من خلال وظائف متقلّبة- قد يجنّد للمشاركة في الحرب.
كانت هناك أسر أخرى محتشدة في مجموعات عند نقطة التفتيش شمال لبنان من أجل وداع ذويهم. كانت هناك صبيّة تجثو على الطريق الترابيّ رافضةً ترك قدَمَي أخيها الأكبر البالغ من العمر 19 عاماً. كانت أمّهما نوال تمسك بها، بينما ذهب هو إلى الشاحنة التي نقلته إلى الحدود. تقول الأم “لا أدري كيف سيعيش وحده في سوريا. الله وحده يعلم ما سيحصل له. لم أعتقد أنّه حقّاً سيرحل؛ فقد حصل كلّ هذا بسرعة كبيرة”.
قبل أشهر قليلة، سجّل 3 آلاف سوري في قرية عرسال الحدوديّة اللبنانيّة أسماءهم لدى وكالات الاستخبارات اللبنانيّة والسوريّة من أجل العودة إلى قراهم الواقعة على جبال منطقة القلمون في سوريا. حين وافقت السلطات على مرور المجموعة الأولى، والمكوّنة من مئات، في 28 حزيران، تم تفريق الكثير من العائلات؛ إذ قرّر بعض الأفراد إمّا عدم التسجيل أو لم توافق السلطات السوريّة على مرورهم.
يقول أحد عملاء الاستخبارات اللبنانيّة، بينما يندلع الشجار في أحد صباحات حزيران الحارقة، “نحتاج إلى حلّ سياسيّ من أجل عودة هؤلاء إلى بيوتهم، ولكن السياسة التي تحلّ هذا الوضع لا تبدأ من لبنان”. كان الشجار قد بدأ حين اندفع رجل سوري تجاه خالد عبد العزيز، وهو رجل أعمال سوري لاجئ مكلّف بترتيب عودة اللاجئين إلى بلادهم. كان عبد العزيز يتصبّب عرقاً بينما يتنقّل بين المقابلات التلفزيونيّة، مكرِّراً أن للسوريّين بلداً يعودون إليه. أمّا الرجل فقال له قبل أن يتم سحبه بعيداً “أنتَ عم تحمي الجيش، ما عم تحمي حالك”.
تتالت كاميرات التلفزة بينما كان عملاء الاستخبارات اللبنانيّة يفحصون عشرات الشاحنات والجرارات المكدّسة بالأخشاب وخزانات المياه وأقفاص الدواجن. ثم رافقتها حراسة الجيش إلى الحدود السوريّة. ثم أذاع عدد من الإعلاميّين اللبنانيّين إلى المشاهدين أنّ هؤلاء اللاجئين يعودون إلى بلادهم.
في اليوم التالي، وعلى الجانب الآخر من عرسال، كان هناك اعتصام لمجموعة صغيرة من اللاجئين، وكان لإحداث بعض الجلبة. كان مكتوباً على إحدى اللافتات “نريد العودة بكرامة، مع ضمانات من المجتمع الدولي والأمم المتحدة”.
يقول خالد رعد، أحد منظّمي الاعتصام، “لسنا ضدّ العودة، لكنّنا نريد شروطاً وضمانات”. كانت لجنة اللاجئين التي هو من أعضائها تقدّم العرائض منذ عام إلى الأمم المتّحدة والسياسيّين اللبنانيّين المتعاطفين من أجل حماية دوليّة للسوريّين العائدين إلى بلادهم. يضيف رعد: “ليس الأمر شبيهاً بتناول فنجان من القهوة أو الشاي أن يُطلَب من الناس -بعد سبعة أعوام- حَزم أمتعتهم والعودة إلى منازلهم. فهو ليس بالشيء السهل”.
خلال هذا الوقت كانت حليمة قد عادت إلى سوريا. لم تجد ومن معها أي مشكلات في عبور الحدود، بعيداً من تعطّل بعض الجرارات في الطريق. ذهبت حليمة للبقاء مع ابنها بينما تنتظر سماع أخبار عن الوضع في قريتها الجبليّة فليطة. لقد كبرت حفيداتها بسرعة حين كانت في لبنان، وهي تحبّ قضاء الوقت معهن في البلدة المجاورة.
ولكن مع عودة المزيد من الأصدقاء والأقارب إلى فليطة، مع المجموعات التالية التي غادرت عرسال في تمّوز/ يوليو، أتت الأنباء إلى الأسرة عن المنازل المهجورة والكهرباء والمياه المقطوعة وقلّة العمل في القرية. لقد تلقّت شريفة رسائل من أقارب عادوا إلى فليطة، ولكنهم الآن يرغبون في الهرب منها مجدّداً. ومع صعوبة اللجوء إلى لبنان مجدّداً بشكل قانوني، خطّطوا من أجل إيجاد مهرّبين عبر الحدود.
لقد أصيبت شريفة بالمزيد من الإحباط وهي بدون أمّها مع توارد الأخبار السيئة من فليطة والتي تنبئ بما يشبه استحالة العودة إلى سوريا. أمّا زوجها، والذي لا يستطيع العمل لأسباب صحّيّة، فقد غرق في الاكتئاب. تقول شريفة “والله الموت أفضل من العيشة. الله يجيرنا من هيك عودة”.
حنين إلى الوطن، خوف من العودة
إنّ العودة إلى سوريا خلال هذا العام الثامن من الصراع هو من ناحية قرار شخصي مؤلم، ومن ناحية حسابات سياسية، يجريها اللاجئون والحكومة السوريّة والدول الأخرى المنخرطة في الحرب. وبينما تستعيد الحكومة السيطرة على المزيد من الأراضي مِن قوّات المعارضة، ويخمد القتال في بعض المناطق، يفكّر بعض اللاجئين بالعودة فيما يخشى آخرون من الضغوط المتزايدة من أجل العودة. وبعد تنظيم لبنان لعودة بعض المجموعات الصغيرة، ومنها مجموعات عرسال، فإنّ هذه المعضلات قد أصبحت أكثر إلحاحاً.
إن العودة مقامرة سياسيّة: على اللاجئين الموازنة بين مخاطر البقاء والعودة؛ وهم لذلك يحاولون معرفة مَن يمكنهم الثقة به لمعرفة الحقيقة. يجمعون شذرات المعلومات من مدنهم وبلداتهم وقراهم عمّا يحدث لمن يعود؛ ويبذلون جهدهم لاستيعاب وفهم نيّات السلطات السوريّة المتقلّبة وحلفائها الأجانب.
بعض المخاطر الرئيسيّة معروفة جيّداً: ما يقرب من نصف المليون قتلوا في الحرب السوريّة، ومنهم آلاف هذا العام؛ حوالى مليون أجبروا على ترك منازهم هذا العام وحده؛ ثلث المنازل ونصف المدارس والمستشفيات تضرّرت أو دُمِّرت؛ والخوف من التجنيد الإجباريّ للرجال تحت سنّ الـ43 في المناطق الخاضعة لسيطرة الحكومة؛ الخوف من الاعتقال والتعذيب؛ وصعوبات إعادة الاندماج في مجتمعٍ واقتصادٍ مزّقته الحرب.
حتى الآن ما زال قليلون من اللاجئين يعتبرون أنّ هذا أمر يستحق المخاطرة. فعام 2017، قالت الأمم المتّحدة إنّ 77300 لاجئ عادوا بشكل مستقلّ إلى سوريا، من أصل 5.6 مليون لاجئ تركوا البلاد. الأغلبيّة الساحقة من اللاجئين السوريّين أخبرت الأمم المتّحدة باستمرار، وكذلك أكّدت استقصاءات مستقلّة، أنّهم يأملون بالعودة يوماً إلى بلادهم، لكنّهم لا يشعرون بالأمان تجاه خطوة كهذه.
كذلك هناك مخاطر للبقاء. أكثر من 80 في المئة من اللاجئين السوريّين لا يزالون في ثلاث دول مجاورة: تركيا ولبنان والأردن. وهناك يواجهون فقراً مدقعاً، وسنوات خارج العمل والتعليم، ونقصاً في المستندات الحكوميّة، وخطر الاعتقال، وفوق كلّ هذا تذمّراً عاماً متزايداً يطالب بطرد السوريّين.
ففي لبنان، حيث يلجأ على الأقل 1.5 مليون سوري – ما يؤدّي إلى زيادة سكّانيّة بنسبة 25 في المئة– فإنّ الضغوط من أجل عودة السوريّين على أشدّها. وهناك قليل من السوريّين يحظون بوضع قانوني، وأقل مِن هذا العدد مَن يمكنهم العمل. وقد طبّقت العديد من البلدات حظر التجوال أو قامت بتنفيذ عمليّات إخلاء جماعي. العام الماضي، وفي الجمعيّة العامة للأمم المتّحدة، قال الرئيس اللبناني ميشال عون بإصرار إنّ على السوريّين العودة، طوعاً أو كرهاً. وفي خطابه أمام قادة العالم قال “إنّ المزاعم بأنّهم لن يكون في أمان إذا عادوا إلى بلادهم هي ذريعة غير مقبولة”.
من الإخلاء إلى المصالحة
للحكومة السوريّة حساباتها السياسية الخاصّة بشأن العودة: مَن سيُسمَح له بالعودة، وبأيّ ثمن سياسي يدفعه العالم المتحمّس لعودة اللاجئين السوريّين إلى بلادهم. بينما يبقى الرئيس السوري بشّار الأسد معزولاً عن غالبيّة المجتمع الدوليّ، فإنّ لديه في لبنان حليفاً وشريكاً في القتال هو ميليشيا حزب الله، والتي تدعمها إيران كذلك.
خلال العام المنصرم بدأت الحكومة السوريّة وحلفاؤها اللبنانيّون تنظيم رحلات عودة من مجموعات صغيرة إلى مواقع مختارة استراتيجيّاً في سوريا. رحلات العودة هذه ساعدت في دعم التصوّر القائل أنّ الحرب السوريّة على وشك النهاية وأن الوقت قد حان لعودة السوريّين، وهو الأمر الذي استفاد منه نظام الأسد وحليفته روسيا. كانت رحلات العودة من لبنان “إشارة جيّدة” و”مجرّد بداية”، كما يقول ألكسندر لافرنتييف، مبعوث الرئاسة الروسيّة الخاصّ إلى سوريا مع تدشينه مبادرة موسكو للضغط من أجل عودة السوريّين في أواخر تمّوز/ يوليو. وأضاف: “الأمر يشبه كرة الثلج التي تأتي من قمة الجبل وتكبر أكثر فأكثر مع تقدّمها”.
ولكن مثل الكثير من نقائض الواقع في الحرب السوريّة، فإنّ تنظيم رحلات العودة من لبنان هو تكتيك حربيّ، وليس علامةً على حلول السلام.
بدأت تلك الرحلات في الصيف الماضي على الحدود الجبليّة الشماليّة الشرقيّة بين سورية ولبنان. حتى بدايات الانتفاضة السوريّة في 2011 كانت جبال القلمون مشهورة بالتهريب وبساتين الكرز. ولكن مع تحوّل الانتفاضة السوريّة حرباً عالميّة بالوكالة، فقد أصبحت تلك الجبال غنيمة استراتيجيّة؛ فهي رابط بين العاصمة السوريّة دمشق وبين مدن رئيسيّة أخرى، كما أنّها تمثّل خط إمداد من لبنان وإليه.
لقد أعلن “حزب الله” عن تدخّله في الحرب السوريّة عام 2013، وذلك حين استعاد مدينة القُصَير شمال جبال القلمون. وريثما طارَد مقاتلي المعارضة جنوباً، تدفّق حوإلى 50 ألف لاجئ إلى عرسال، بما ضاعف عدد سكّانها ثلاثةَ أضعاف. في 2014 كانت هناك مخاطر من امتداد الحرب السوريّة إلى لبنان حين توغّل مسلّحو ما يعرف بـ”الدولة الإسلاميّة” ومسلّحون مرتبطين بتنظيم القاعدة إلى بلدة عرسال واختطفوا عدداً من الجنود اللبنانيّين. لقد أصبحت البلدة حينها معزولة فعليّاً عن بقية البلاد.
استغرق الأمر 3 سنوات حتّى تمكّن “حزب الله” والجيش اللبنانيّ من طرد بقيّة المسلّحين المختبئين في كهوف حول عرسال. لقد فاوَضَ الحزب كذلك في صفقات الاستسلام مع الكثير من الجماعات، بما في ذلك إخلاء المقاتلين وأسرهم ومدنيّين آخرين. مع نهاية صيف 2017، غادَرَ حوإلى 10 آلاف سوريّ بلدةَ عرسال، معظمهم من اللاجئين.
كانت رحلات العودة في الصيف الماضي أقرب إلى عائدين إثر صفقات استسلام المعارضة، منها إلى عودة اللاجئين. معظم اللاجئين لم يعودوا إلى بيوتهم ذاتها، وإنّما إلى مناطق خاضعة لسيطرة المعارضة في محافظَتَي إدلب وحلب. كافح بعضهم من أجل إيجاد أماكن للإقامة والعمل عند عودتهم، بينما اضطر آخرون إلى النزوح مرّة أخرى إثر القتال الدائر في مناطقهم.
هذا العام، بدا أن هناك شكلاً جديداً من اتفاقيات العودة: ليست اتفاقيّات إخلاء يتم عقدها مع قوّات المعارضة، وإنّما اتّفاقيّات “مصالحة” توافقت فيها مجموعات صغيرة من السوريّين على الخضوع لفحص تجريه الاستخبارات السوريّة بالتنسيق مع وكالة استخبارات الأمن العام اللبنانيّة، من أجل العودة إلى أراضي خاضعة لسيطرة الحكومة السوريّة وحزب الله على الحدود اللبنانيّة.
كما كتب الصحافي السوري عبد الرحمن المصري سابقاً، أن لدى حزب الله مصلحة في إعادة توزيع السكّان استراتيجيّاً في بعض الأجزاء من جبال القلمون. فهذا الأمر يساعده في تدعيم سيطرته على المنطقة بينما يؤمِّن له نجاحاً على مستوى العلاقات العامّة في لبنان مع نجاحه في ترحيل اللاجئين إلى بلادهم.
ما بين 3 إلى 5 آلاف لاجئ عادوا إلى بلادهم من لبنان إثر اتفاقيّات المصالحة تلك هذا العام. يقول ناصر ياسين، الأستاذ بالجامعة الأميركيّة في بيروت، “هذه الاتفاقيّات نسبيّاً ليست كثيرة من حيث العدد، لكنها توجّه رسائل إلى الإعلام والرأي العام بأنّ الوضع آمن للعودة”. ويقود البروفيسور النشِط بحثاً في معهد عصام فارس، وهو مركز أبحاث متخصّص في السياسات العامة في الجامعة الأميركيّة في بيروت، وهو مركز للنقاشات الدوليّة واللبنانيّة حول سياسات اللجوء في لبنان. ويضيف ياسين “لكننا لا ندري ماذا يحدث على الجانب الآخر”.
الجانب الآخر
كانت صالحة، وهي من جيل حليمة ومثلها تماماً تمتلك ذات العزيمة، تستعدّ للرحيل من عرسال في حزيران/ يونيو حين طلب منها ابنها محمّد البقاء. كان صبر السيّدة ذات الـ65 سنة من العمر ينفد من أجل أن تعود للعمل على إعادة بناء منزل العائلة في فليطة، كي يكون جاهزاً لمحمّد وأولاده الخمسة عند عودتهم إلى سوريا. إنّ محمّد ربما يكون في الـ45 من عمره، وقد كان مهرّباً ناجحاً، لكنّ صالحة قد ربته وحدها، ولا ترى سبباً يجعلها تتوقّف الآن عن رعايته والاهتمام به.
رحل والد محمّد حين كان عمره خمسة أشهر، وليس لدى محمّد إخوة أو أخوات، ولذا فإنّه وأمّه قد اعتادا الاهتمام ببعضهما بعضاً. لا يطيق محمّد فكرة عودتها إلى سوريا وحدها، وليس لديها أحد تتواصل معه إذا احتاجت إلى طبيب. لهذا وافقت صالحة على الانتظار ريثما يستطيع محمّد إقناع بقيّة العائلة بالعودة معاً.
في بيتهم الموقّت في مزرعة أحد الأصدقاء في عرسال، قلّبت الأسرة الرأي حول هذا القرار. يشرح محمّد المعضلة بينما يسحب نفَساً من سيجارته مصحوباً بأزيز في الصدر. إن صالحة تزداد ضعفاً ويزداد مع الوقت حنينها إلى البيت، ويريد محمّد تلبية رغبتها. يقول محمّد “ما من أحد إلا ويرغب في الوفاة في مسقط رأسه”. لكنّ أبناءه، وأعمارهم بين 18-20، لا يرغبون في العودة؛ فهم يشعرون بالخوف من التجنيد الإجباريّ، ومحمّد كذلك قلِق من الدخول في مشكلات في لبنان. يقول “إنّ العودة خطِرة، لكن البقاء هنا كذلك”.
في منتصف تمّوز، غيّر محمّد رأيَه مرّتين خلال أسبوعين بشأن العودة حين سمع خبر وفاة صهره حسن. كان حسن ذي الـ40 ربيعاً قد عاد إلى فليطة بداية الشهر مع مجموعة أخرى من عرسال. وبعد ثلاثة أيّام أطلق ملثّمون النار عليه فأردوه صريعاً على مدخل منزله.
قسّمت الحرب في سوريا بلدة فليطة كغيرها من البلدات. والآن هي تحت سيطرة الحكومة، ومَن غادروا القرية، وتحديداً من عائلات بعينِها، يواجهون اليوم شكوكاً بشأن مدى ارتباطهم بجماعات المعارضة وكذا يواجهون احتمالات بالانتقام على يد خصومهم السابقين. كان محمّد قد سمع شائعاتٍ عن أقارب تعرّضوا للضرب عند عودتهم إلى فليطة، لكنّ موت حسن كان صدمةً. يقول محمّد “مَن عادوا إلى سورياا يخشون الحديث، حتّى لعائلاتهم، عمّا يحصل هناك فعلاً”.
بينما محمّد في كربٍ حول ما عليه فعله، كان قلقاً أكثر بشأن احتماليّة أن يكون القرار خارجاً عن إرادته. احتياطاً ومن أجل تأمينه أوضاعهم، في حال أُجبِرَت الأسرة على الرحيل، طلَبَ محمّد من صديقٍ له في ميليشيات موالية للأسد داخل سوريا محاولة توفير الحماية لأسرته.
وبينما يحاول موازنة مخاوف أسرته مع احتماليّة أنّ الانضمام إلى المجموعة التي تعود فيها حليمة وعائلات أخرى من لبنان قد يوفّر الأمن مع كثرة العائدين، يقول محمّد “نحن نخشى أن نُجبَر على العودة في المستقبل. لذا فمن الأفضل أن نعود اليوم بإرادتنا. لو غادَر اللاجئون الآخرون وبقي هنا عدد ضئيل منّا في لبنان، فإنّ من المؤكّد أنهم سيجبرون الباقين على الرحيل”.
خيارات إجباريّة، فوضى منظّمة
خلّفت الحرب السوريّة في أعقابها الكثير من المعايير الدوليّة المعطّلة: فحظر استخدام الأسلحة الكيماويّة وحظر استهداف الصحافيّين والمدارس والمستشفيات قد تم خرقها بشكل متكرّر. كذلك فإنّ كيفيّة عودة السوريّين إلى بلادهم تُنذِر بتآكل قاعدة أخرى من قواعد عهد ما بعد الحرب العالميّة الثانية، وهي أنّ الدول ليس بإمكانها إجبار اللاجئين على العودة إلى المخاطر.
إنّ مبدأ عودة اللاجئين طوعاً مهدّد اليوم بالفعل؛ فالصراعات الحديثة تستمرّ لوقتٍ طويل، ما يثقل ميزانيات الدعم وكذلك قدرات ونوايا الدول المجاورة لمناطق الحرب، إذ لا تستقبل الدول الأغنى غير عدد قليل من اللاجئين. لذا ففي الغالب لا يكون لدى اللاجئين بديلاً عن العودة إلى بلادهم، سواءً كانت آمنة أم لا تزال في وطيس الصراع.
تقول مها يحيى، مديرة مركز “كارنيغي للشرق الأوسط في بيروت”، إنّ “مفهوم العودة الطوعيّة قد بدأ يفقد معناه”، بالنسبة إلى الكثير من السوريّين. وكان مركز كارنيغي قد أصدر أخيراً إحدى أكثر الدراسات إحاطةً بشروط عودة اللاجئين السوريّين. وتضيف يحيى “الكثير من اللاجئين قد أصبحوا في موقف يمكنهم فيه الاختيار بين العيش في بؤسٍ في دولة مضيفة صارت تلفظهم، وبين المخاطرة بحياتهم والعودة إلى بلادهم التي لا ترغب فيهم بالضرورة”.
كانت القشّة التي قصمت ظهر البعير بالنسبة إلى عبد الله، وهو سائق حافلة سابق من حلب يبلغ من العمر 48 سنة، هي وفاة والده. إنّ 6 أعوام من الفقر والاستغلال في لبنان قد أرهقته. يقود عبد الله شاحنة رافعة في مصنع لتعبئة المواد الغذائيّة وسط وادي البقاع لساعاتٍ طويلة وراتب ضئيل. يقول “كلّ صباح أذهب إلى العمل وأنا أشعر كأنني ذاهب إلى سجن”.
وقد استطاع تحمّل كلّ هذا، لكن وفاة والده وعدم تمكّنه من حضور جنازته وتوديعه إلى مثواه الأخير كانت أكبر من طاقته على التحمّل. كان والده العجوز قد شعر بالمرض أثناء عاصفة شتائية نهاية عام 2015. كأغلب السوريّين في لبنان، فإنّ عبد الله لا يتمتّع بوضع قانونيّ في البلاد. لقد طلب لبنان من الأمم المتّحدة أن تتوقّف عن تسجيل اللاجئين عام 2015، وكثير من السوريّين اليوم لا يستطيعون تحمّل معايير الإقامة أو لا تنطبق عليهم تلك المعايير.
حين توفي والده، أحضر عبد الله جثّته إلى المستشفى؛ ولكنّ طاقمَه استدعى الشرطة التي طلبت من عبد الله فوراً إثبات وضعه القانوني في البلاد. يقول “أخذوني إلى السجن بينما ظلّت جثّة والدي هناك في المستشفى. أردت فقط دفنَه بكرامة”. بينما مكث عبد الله في السجن، قام أصدقاؤه بترتيب مراسم الدفن.
هذا العام قرّرعبد الله العودة بأسرته إلى سوريا. كان يبيع ممتلكاته لتغطية أجرة المهرِّب. الكثير من اللاجئين العائدين بسبب الإحباط يدفعون للمهرّبين أثناء رحلة العودة إلى سوريا، وذلك لسببين: تجنّب الغرامات اللبنانيّة لبقائهم أكثر من المسموح به في لبنان، وكذا للتهرّب من الاستجواب على الحدود السوريّة. يقول عبد الله “لا نعلم ما ينتظرنا هناك في حلب، لكنني لا أستطيع تحمّل المزيد هنا. سأبدأ حياة جديدة مع أسرتي. على الأقل هكذا سأحتفظ بما تبقّى من كرامتنا”.
لبنان: نموذج مصغّر لمعضلة عالميّة
حين يعود اللاجئون تحت ضغوط أو لعدم وجود بدائل، ينتهي بهم الحال غالباً إلى النزوح مجدّداً. تقول الباحثة كاتي لونغ – التي أجرت دراسة مستقلّة عام 2013 عن سياسات عودة اللاجئين لحساب وكالة اللاجئين في الأمم المتّحدةUNHCR ، إنّ “رحلات العودة تؤدّي غرضها حين يختار الناس العودة، وهي عادةً ما تكون عمليّة متدرّجة. لكن في معظم حالات اللاجئين، هناك الكثير من الضغوط السياسيّة من الدول من أجل إعلان انتهاء الأزمة، وذلك من طريق إعادة اللاجئين”.
هذا التوتّر يمكن أن يتفاقم في الحالة السوريّة. فوصول مليون لاجئ سوريّ إلى أوروبا منذ 2015، قد أحدث صدمة في الثقة بالمؤسسات السياسيّة في القارّة، والتي صارعت من أجل حشد استجابة فعّالة للأزمة. تقول لونغ “مع التداعيات السياسيّة لوصول اللاجئين السوريّين إلى أوروبا، فإنّ هذه الضغوط (من أجل إعلان انتهاء الأزمة) ربّما تصبح أكثر حدّة؛ وبخاصة مع النفوذ الذي تمتلكه بعض الدول الأوروبيّة للدفع باتجاه أجندة العودة”.
حقل الألغام السياسي هذا الذي يبدو في الأفق، قد تمت معاينته هذا الربيع في لبنان. فقرية شبعا الزراعيّة المعزولة، والمحصورة بين الحدود اللبنانيّة-السوريّة- الإسرائيليّة، قد رحّبت بإنعاش اللاجئين للبلدة التي تعاني من الشيخوخة. وفي نيسان/ أبريل، وعن غير قصد، أصبحت شبعا منصّة إطلاق حملة سياسيّة ضدّ المفوضيّة السامية للاجئين بالأمم المتّحدة UNHCR . لقد استقلّ حوإلى 500 سوريّ يعيشون في القرية والقرى المحيطة جنوب لبنان الحافلات إلى قريتهم بيت جنّ بعد استجواب الاستخبارات السوريّة لهم. كانت قرية بيت جنّ -وهي مجرّد تدافع جبلي من 10 كيلومترات- قد استعادتها القوات الموالية للحكومة أخيراً. كانت تلك الحالة هي أول صفقة تسوية تلقى شعبيّة كبيرة في لبنان.
لقد أصدرت المفوّضية السامية للاجئين بيانَ تهدئة يؤكّد أنّها ليست طرفاً في تنظيم أيّ رحلات لعودة اللاجئين. إنّ سياسات المفوضيّة تقول إن الأوضاع في سوريا ليست ملائمة بعد لعودة اللاجئين إلى حياة آمنة وكريمة، ولذا لا يمكن المفوضّية “لا أن تروّج ولا أن تسهّل” رحلات العودة؛ ومعظم الحكومات تسير على النهج ذاته.
ومع قرب انعقاد الانتخابات اللبنانيّة التى تم تأجيلها لوقت طويل، فإنّ المتشدّدين المسيحيّين اللبنانيّين قد استفادوا من البيان. وبعد أيّام من مغادرة اللاجئين قرية شبعا في نيسان، طلب وزير الخارجيّة اللبناني جبران باسيل من المفوضيّة السامية للاجئين ألا تُصدِر أيّ بيانات أخرى عن العودة. وزعم لاحقاً أنّ الوكالة التابعة للأمم المتّحدة تخيف اللاجئين من أمر العودة، وجمّد تصاريح الإقامة لفريق الوكالة في لبنان.
لقد حذّر باسيل من “مؤامرة دوليّة” من أجل إبقاء اللاجئين في لبنان لإضعافه. وقد حاول حشد الدعم الدولي لإعادة السوريّين من لبنان، وذلك من خلال اللعب على حبل النفور الأوروبيّ من اللاجئين. في زيارة إلى المجر العام الماضي، طلب من رئيس وزراء البلاد، والمعادي للمهاجرين، فيكتور أوربان، مساعدة لبنان في إعادة السوريّين إلى سوريا. كذلك فقد فعل الرئيس اللبناني ميشال عون، وباسيل صهره، الشيء نفسه عند زيارة وفد من برلمانيّين أوروبيّين من اليمين المتطرّف إلى لبنان في حزيران الماضي، محذّراً من أنّ البديل قد يكون “اندفاع السوريّين إلى أوروبا”.
يقول ناصر ياسين، الأستاذ بالجامعة الأميركيّة في بيروت، إنّ “باسيل يستخدم نمط التفكير ذاته الذي نراه يمتدّ من واشنطن إلى بودابست وبيروت، ومن مانيلا إلى ميلان. الجميع يستخدم أسلوبه الخاص، لكنّهم جميعاً يتّخذون مواقف معادية للمهاجرين… لقد أصبح الخوف من الآخرين هو الشيء الغالب”.
لكنّ الحملة ضدّ المفوضية السامية للاجئين قد تلّقّت ردوداً محليّة ودوليّة. وقد قال أعلى رتبة دينيّة سنيّة في خطبة العيد محذّراً “هؤلاء الذين يحاولون طرد السوريّين يدفعونهم تجاه الخطر الذي هربوا منه”. أمّا القيادي الدّرزي وليد جنبلاط فقد اتّهم الرئيس بأنه يستخدم اللاجئين كبشَ فداء. وفي حزيران زارت المستشارة الألمانيّة أنغيلا ميركل لبنان وحثّت الحكومة على العمل مع المفوضيّة على قضية عودة اللاجئين، بينما طلب أعضاء بالكونغرس الأميركي من وزير الخارجيّة مايك بومبيو أن يفعلَ كما فعلت ميركل في مشروع قانون الإنفاق السنوي.
إنّ علاقة لبنان بسوريا علاقة معقّدة، خصوصاً أن التاريخ السوري حافل بالتدخّل في لبنان وهشاشة توازنات القوى بين الجماعات الدينيّة في لبنان ما بعد الحرب الأهليّة. ومع حدّة انقسامها بين مؤيّد ومعارض لحكومة الأسد في الجوار، فإنّ الحكومة اللبنانيّة حافظت على السلم في البلاد من خلال التسامح مع سياسات متعدّدة ومتناقضة بخصوص الحرب السوريّة واستقبال اللاجئين، والآن بشأن عودتهم.
وفيما يصرّ رئيس الوزراء اللبناني سعد الحريري، وأحزاب أخرى معارضة للأسد، على وجوب إشراف الأمم المتّحدة على رحلات العودة، أعلنت الأمن العام اللبناني في أيار/ مايو الماضي أنّها كانت تعمل مع الاستخبارات السوريّة لتنظيم عودة اللاجئين، ثم حدّدت أخيراً مكاتب لاستقبال طلبات اللاجئين الراغبين في العودة. أمّا “حزب الله” وحليفه “التيّار الوطني الحرّ”، بقيادة باسيل، فقد أكد أنّهم سيساعدون على تشجيع الناس وتسجيلهم للعودة.
عند سؤاله عمّا إذا كانت رحلات عودة ينظّمها حزب الله قد تقوّض من سلطة رئيس الوزراء الحريري، قال نديم مونلا، أحد مستشاري الحريري، “أحياناً تكون سياسة متعدّدة مدروسة ومتأنّية مفيدةً للبلاد؛ فهي تمنحك المرونة. وفي دولة طائفية، لا علمانيّة، فإنّك تستمدّ قوّتك من جماعتك ودينك وطائفتك، لا من أجندة السياسات التي تمتلكها”.
تهيئة جدول الأعمال
لكن بدون رؤية واضحة وبديلة لكيفيّة عودة السوريّين إلى بلادهم، يبقى الفضاء مفتوحاً أمام الأصوات السلطويّة للتحكّم في رواية الأمر. في الجامعة الأميركيّة في بيروت كان البروفيسور ناصر ياسين يغرّد يوميّاً لأكثر من عام بالعربيّة والإنكليزيّة سلسلة “حقيقة اليوم” عن اللاجئين، وكان هذا جهداً شخصيّاً لتضمين الحقائق في النقاش اللبناني عن اللاجئين. كان الأمر محبِطاً له أن يرَى باسيل يتبجّح فيما مفوضيّة اللاجئين تأخذ موقف الدفاع.
يقول ياسين: “لا يمكنك أن تنسحب إلى الخطوط الإنسانيّة كتيّار العمل الإنساني في خمسينات القرن المنصرم. لقد تغيّر العالم. مع صعود القوميّة اليمينيّة حول العالم، لا بد للمرء من جواب على هذا. إننا نقوم بردّ فعل، لكننا لا نضع الأجندات، ولهذا تطغى السرديّة المعادية للاجئين على أجندة العمل”.
في تمّوز الماضي، سيطرت روسيا على أجندة العمل، وكان تدخّلها عام 2015 قد حوّل مسار الحرب لمصلحة الحكومة، ولكنّها اليوم تبدو متحمّسة للخروج من المعركة. فبعد لقاء الرئيس الروسيّ فلاديمير بوتين بالرئيس الأميركيّ دونالد ترامب، أرسل وزير الدفاع الروسيّ مقترَحاً بخطّة عمل مشتركة إلى واشنطن من أجل إعادة 1.7 مليون لاجئ سوريّ، بما فيهم -للغرابة- حوإلى 889031 لاجئاً في لبنان. وقد رحّب السياسيّون اللبنانيّون بالفكرة.
وإثر الإعلان الروسيّ، أكّدت مفوضيّة اللاجئين التابعة للأمم المتّحدة على قائمة الشروط التي وضعتها من أجل بدء عملها على تسهيل عودة اللاجئين إلى جزء من سوريا، والتي سبق وفصّلتها مطلع العام. من بين هذه الشروط تحسين الأوضاع الأمنيّة، ووجود عدد كبير من اللاجئين يطلبون العودة، والعفو عن العائدين بمَن فيهم أولئك الذين تهرّبوا من الخدمة العسكريّة، وإمكان وصول المفوضيّة السامية للاجئين إلى العائدين؛ مع ضمان هذه الشروط في اتفاق رسميّ.
لكن السلطات السوريّة قد أجّلت مراراً وتكراراً السماح للمفوضيّة السامية للاجئين بدخول المناطق التي عاد إليها اللاجئون. ففي تمّوز الماضي، قال مسؤول فيإالمفوضيّة أنّهم لم يتمكّنوا من الاطمئنان على اللاجئين الذي غادروا شبعا وجنوب لبنان إلى بيت جنّ في نيسان. واعتبر مسؤول في تقديم الإغاثة، بشرط عدم الإفصاح عن اسمه، أنّ الكثير من العائلات من حينها بدأت التعاون مع المهرّبين للعودة من بيت جنّ إلى أجزاء أخرى من لبنان، حيث قاموا بالتخفّي والاختباء هناك.
السلام هو الحرب، المصالحة هي الاستسلام
قامت في بلدة المعضمية الزراعية السورية، الواقعة على مشارف دمشق، بعض من أول الاحتجاجات المناهضة للحكومة في عام 2011. وكان كثيرون قد وجّهوا في البداية غضبهم على رئيس البلدية حسن أبو زيد والاستيلاء الأخير على الأراضي وتحويلها لثكنات عسكرية قريبة. مع تعاظم الاحتجاجات، هرب رئيس البلدية. في الشهر الماضي، عاد أبو زيد إلى المعضمية مع مجموعة من لبنان.
شهدت المعضمية بعض من أحلك فترات الحرب. حاصرت القوات الحكومية البلدة، وبحث السكان الجائعون عن الطعام ليبقوا على قيد الحياة. في عام 2013، قُتل ما يقدر بحوإلى 1500 شخص في هجوم بالأسلحة الكيماوية على المعضمية وضاحية مجاورة. بعد فترة وجيزة، وافقت المدينة على واحدة من أول صفقات وقف إطلاق النار المحلية للحكومة.
لم تدم الصفقة، وأعادت الحكومة فرض حصار خانق. وفي النهاية استعادت القوات الموالية للحكومة المدينة عام 2016. ومُنح السكان خيارين: الانتقال إلى محافظة إدلب التي تسيطر عليها المعارضة، أو قبول اتفاق مصالحة مع الحكومة. عاد بعض اللاجئين في لبنان أيضاً إلى المعضمية بموجب شروط اتفاق المصالحة.
ساعدت الحكومة السورية على توسيع عملية المصالحة هذا العام لتشمل مجموعات صغيرة في لبنان. وكان محمد حمرة، وهو شاب نحيف لكنه قوي في الثلاثين من العمر من المعضمية، على صلة جيدة بالفرقة الرابعة المدرعة بالجيش السوري، والتي يشرف عليها شقيق الرئيس ماهر الأسد ومقرها في ضواحي معضمية. في أواخر عام 2016، قال حمرة إنه تلقى اتصالاً من غسان بلال، مدير الفرقة الرابعة المدرّعة، يحثه على تسجيل اللاجئين الذين يريدون العودة إلى المدينة. في حزيران، جاء مسؤول من لجنة المصالحة الحكومية إلى منزل الحمرة في لبنان للقاء اللاجئين
بعد أن تم فحصهم من قبل المخابرات السورية، عاد حمرة إلى المعضمية في أوائل تموز مع 50 شخصاً آخرين، بمن فيهم رئيس البلدية السابق. يخطّط حمرة للانضمام إلى شركة بناء مملوكة لابن عمه، والتي بدأت في إعادة بناء المدينة. لكنه ما زال ينتظر أن توافق الاستخبارات السورية على أسماء المئات ممن يريدون العودة من لبنان إلى المعضمية.
قال حمرة “أعرف أن كل ما يحدث لهم هو مسؤوليتي، لكنني لا أشعر بالخوف لأن الناس طلبوا مني مساعدتهم على العودة، ولدينا ضمانات من النظام السوري”.
اللّغة التي يكتبها المنتصرون
بينما تمدّد الحكومة وحلفاؤها سيطرتهم على سوريا، فإنهم يحددون أيضاً شروط مستقبل البلاد. روسيا هي الراعي الرئيسي لأجندة المصالحة داخل سوريا. عام 2016، أنشأت روسيا مركزاً للمصالحة في سوريا لتنسيق الصفقات. في تموز، أعلنت روسيا عن إنشاء مركز جديد لاستقبال اللاجئين وتسكينهم وإعاشتهم، لتنسيق إعادتهم إلى أوطانهم. بعد بضعة أسابيع، قام المبعوث الرئاسي الروسي الخاص لسوريا بزيارة إلى الأردن ولبنان لإنشاء مجموعات عمل مشتركة لتنظيم العودة. في أوائل آب/ أغسطس، أعلنت الحكومة السورية عن لجنة لتنسيق عمليات العودة مع “الدول الصديقة”.
طوال مدة الصراع، طبّقت الحكومة السورية وروسيا لغة السلام على استراتيجيات الحرب. إن إتفاقات وقف إطلاق النار المحلية مثلما حدث في المعضمية “تشلّ المجتمع الدولي موهمة إياه بوجود تقدم فيما هو في الواقع اعتداءات صريحة على المدنيين” وفقاً لما قاله محمد علاء غانم، الأكاديمي السوري. وفي حديث لموقع (Syria Deeply) قال محلّلون إن اتفاقية المناطق الآمنة التي تمت عام 2017 في سوريا كانت “استراتيجية لإدارة الحرب”، لتسمح للقوات الموالية للحكومة بترتيب معاركها أثناء تقمّص حالة الرغبة في السلام.
حالياً، قد توفّر عودة اللاجئين لروسيا وللحكومة السورية فرصة لكسر الجمود الدولي حول مستقبل الأسد في سوريا. قال ياسين “إنهم يحاولون تحقيق فوز كبير. سيكون هناك ثمن سياسي، لن يمرّ الأمر مرور الكرام، ولم يكن ليمرّ على الإطلاق. إنهم يريدون الكسب من ذلك: إعادة بشار إلى المجتمع الدولي”.
في لبنان، استخدم حزب الله تنظيمه لعمليات عودة اللاجئين، لزيادة الضغط على الحريري ليُعيد العلاقات رسمياً مع الأسد، وهو ما قاومه الحريري حتى الآن، كما قال يحيي، من مركز “كارنيغي” الذي يراقب عن كثب الأوضاع السياسية المحيطة بعمليات العودة. لبنان، مثل جيران سوريا الآخرين، ستكون أكبر المستفيدين من إعادة العلاقات مع سوريا سياسياً واقتصادياً. يمكن أن يكون إقناعهم والفوز بهم سهلاً ومتاحاً في إعادة التأهيل السياسي للأسد، مع إعتبار أوروبا هي الهدف النهائي.
وقال يحيى: “ما هي الطريقة الأفضل لإعادة العلاقات غير تنظيم عودة اللاجئين؟ يعي النظام تماماً كيف تم تسييس قضية اللاجئين. إنهم يستغلون قضية عودة اللاجئين كوسيلة لجذب دول العالم ومن ثم التعامل مع إزالة العقوبات وبداية إعادة الإعمار”.
التحكّم في العودة
تمكّن اتفاقيات المصالحة الحكومةَ من التحكّم بمن يسمح له بالعودة وكيفية عودته، يخضع السوريون الموقّعون على الاتفاقية للاستجواب عند عودتهم. وُعد رجال دون سن الرابعة والأربعين بإلإعفاء من التجنيد لمدة 6 أشهر وبعد ذلك يتوجب عليهم الانضمام إلى الجيش أو إلى مجموعة أمنية محلية.
يتمنّى الكثير من اللاجئين في لبنان الانتظار ملياً بما فيه الكفاية للتأكد مما إذا كانت هذه الاتفاقيات محل احترام وتنفيذ أم لا قبل أن يعودوا. وفي سوريا هناك عدد من التقارير التي ترصد شروط الانتقال، صرح مقاتلون معارضون سابقون من مدينة المعضمية لرويترز بأن خيار الانضمام لمجموعة أمنية محلية قد ألغي وأنهم جُندوا لمحاربة حلفائهم السابقين. ووفقاً لمنظمة العفو الدولية، نُقل أشخاص إلى “مركز إخلاء” حكومي في داريا، المدينة المجاورة للمعضمية، بعد اتفاق المصالحة الذي وقعته المدينة عام 2016 إلا أنه قد ألقي القبض عليهم على رغم الاتفاق.
أضاف يحيى: “نحن ندخل الآن المرحلة الثانية من الحرب؛ لقد انتهى الصراع الرئيسي وهم يقررون وضع المناطق الخاضعة لسيطرة الحكومة والمناطق الكردية”. وتابع: “سيتمكن بعض الأشخاص من العودة وبشكل أساسي المؤيدون للنظام، وسكان المناطق التي لم تكن بصدارة للاحتجاجات، والعائلات التي ليس لديها شخص مطلوب”.
وبين الموالين المتشدّدين ونشطاء المعارضة المعروفين، يحاول الكثير من اللاجئين معرفة مكانهم في سوريا التي يحكم الأسد قبضته عليها اليوم؛ فهم يبحثون عن أسمائهم ضمن قوائم المطلوبين المختلفة، سواء كانت قوائم لطلبات التجنيد التي تنشرها السلطات أو أوامر الاعتقال التي سربها المنشقون، ويحاولون التحقق من صحة المعلومات من طريق إجراء اتصالات مع مقيمين في البلاد.
صدمت مريم لدى رؤية اسمها مدرجاً على إحدى القوائم. كانت قد بدأت هي وزوجها نقاشاً في العام الماضي حول العودة إلى المعضمية في ظل اتفاقات المصالحة. لم تستطع وهي مديرة مدرسة سابقة أن تتحمّل مشاهدة بناتها ينشأن من دون تعليم رسمي في لبنان، كما سمعن أن الرجال العائدين إلى المعضمية يرسلون مباشرة إلى الخطوط الأمامية للمعركة، لذلك قررن أن تعود هي وحدها مع بناتها.
وقالت مريم: “غادرنا سوريا لأننا كنا خائفين على سلامة أطفالنا من القصف والتفجيرات لكنهم هنا من دون تعليم أو مستقبل أو أمل”. وأضافت: “سيكون انفصال الأسرة صعباً بالطبع، لكنني سأضحي، وزوجي سيضحي من أجل إنقاذ بناتنا وتعليمهنّ”.
ثم علمت مريم أنه وبصفتها موظفة حكومية سابقة لم تعد إلى عملها أبداً بعد عطلة عام 2012، إذ إنها وزوجها توقعا البقاء في لبنان بضعة أشهر فقط، قد أدرج اسمها ضمن الهاربين. تأخر سفرهن خوفاً من القبض عليها، قالت: “لا أحد يفضل دولة أجنبية على بلده… لا أحد. لم أكن لأغادر سوريا حتى لو عرض عليّ أي بلد في العالم ذلك”. ثم تابعت: “لكن ومن ناحية أخرى، إذا كان هناك تهديد لحياتي أو لأطفالي فأنا مضطرة لتحمّل آلام العيش في الخارج”.
تدّعي الحكومة السورية أنها تريد عودة اللاجئين، لكن السياسات الأخيرة لم تهدئ من مخاوف اللاجئين. عرقلت الحكومة السورية العام الماضي الحصول على إعفاء من الخدمة العسكرية أثناء السعي إلى المصالحة. وأصدرت الحكومة قانوناً في ربيع هذا العام يطلب من السوريين إثبات ملكية ممتلكاتهم في غضون 30 يوماً من تحديد مدينتهم منطقةً لإعادة الإعمار. احتجت ألمانيا ولبنان خوفاً من أن تقف مصادرة منازل اللاجئين عائقاً أمام العودة إلى سوريا، وأكّد لهم وزير الخارجية السوري وليد المعلم أن الفترة ستمدّد قرابة العام، لكن تعديلاً لم يُجرَ على القانون بعد.
ويحذر المحلّلون من أن النهج الذي تتخذه الحكومة في التعامل مع المصالحات وعودة اللاجئين وإعادة الإعمار بدعم من روسيا، قد يؤدي إلى تفاقم الأسباب التي أدت إلى حدوث الثورة عام 2011. إذ إنهم لم يعالجوا القضايا التي أنزلت المحتجين إلى الشوارع، وهي في المقام الأول الاحتجاز والتعذيب ومصادرة الأراضي والملكيات والتهجير، بل فاقمت من سوئها.
قال المنلا مستشار الحريري الذي ما زال يدفع تجاه إشراف الأمم المتحدة على العائدين: “ما زالت لدينا شكوك حول نيّات النظام السوري وما إذا كان يريد عودة 13 مليون سوري إلى أرض الوطن”. وتابع: “إن كان النظام يريد عودتهم فعلاً فليوضح سياسته، ليعطِ اللاجئين تحفيزات للعودة، وليقل لمن دمّرت منازلهم بأنه سيعيد بناءها لهم، ليضع خطة”.
خاتمة: لا مجال للعودة
بينما يزداد عدد اللاجئين العائدين إلى البلاد، يبحث السوريون المطلوبون من الحكومة عن مخرج. لكن الخيارات محدودة في لبنان، والتوطين في الخارج أصبح نادراً، والقليل منهم فقط يمتلك الموارد اللازمة للحصول على تأشيرات أو منح دراسية.
يقول محمد، وهو مدرّس يبلغ من العمر 32 سنة من مدينة القصير: “لن أعود إلى بلد أرى فيه صور بشار الذي قتل أصدقائي وأقاربي معلقة في الشوارع والمكاتب”. تخلّلت الخسارة السنوات الأخيرة لمحمد في سوريا، فقد تم تعذيب ابن عمه، الذي كان يعاني من مشكلات عقلية، في السجن حتى الموت. وقُتل صديق مقرب له من قِبل قناص موالٍ للنظام. واختفى عمه وهو يحاول الهروب من المدينة. يثق محمد تماماً بأن اسمه مدرج في قائمة المطلوبين لدى السلطات، فهو ناشط سابق مناصر للديموقراطية، وقد بدأ نشر الرسوم الكاريكاتورية على موقع “فيسبوك”.
حتى وقت قريب، كان محمد متردّداً في ترك أصدقائه الجدد في وادي البقاع في لبنان. لكن ومع كل تقدّم عسكري لقوات النظام، ينحسر إيمانه بدعم المجتمع الدولي للمعارضة السورية. والآن، يخطّط للذهاب إلى اليابان للحصول على درجة الماجستير في دراسات السلام والصراع. كانت زوجته تفكّر بالعودة إلى سوريا وحدها، إلى أن تم القبض على والدتها على الحدود واحتُجزت لشهرين.
يضيف محمد: “تكمن المشكلة في عدم وجود أي مسؤول عن اللاجئين في لبنان، موقفنا في غاية الضعف حالياً، نستمع إلى الشائعات، ونتابع الأخبار المتعلقة بمدينتنا. حقاً لا يوجد أحد يتفاوض بصدق من أجلنا”.
في هذه الأثناء، لا يزال السوريون يتدفّقون إلى لبنان، هذا على رغم إغلاق الحدود على معظم اللاجئين منذ عام 2015. بعد يومين من عودة اللاجئين إلى سوريا قادمين من مدينة شبعا اللبنانية، سارع أحمد، عامل منجم في دمشق، إلى عبور الجبال متّجهاً إلى لبنان. لقد مرّ ما يقرب من العامين منذ أن سمعت عائلته أي أخبار عنه. لم تكد تصدق زوجته منال أن هذا زوجها أحمد بعدما رأته على شريط فيديو وقد بدا وجهه الملتحي نحيلاً وجسده هشاً للغاية بعد إطلاق سراحه من سجن حكومي هذا العام.
بعد سنتين طويلتين شاقتين من تربية طفليهما بمفردها في المنفى، لم تستطع منال أن تصدّق أن أحمد سوف يأتي إلى لبنان. لذا عندما علمت بقدومه في شهر نيسان، أخبرت ولديها أنهم سيقومون بجولة في بيروت. على رغم عدم إخبارها الولدين عن لقاء والدهما، تمكّن الابن البالغ من العمر 10 سنوات من التعرّف إلى والده وسط التقاطع المزدحم في العاصمة اللبنانية، وانطلق بلهفة نحوه عابراً الزحام الفوضوي. أخيراً، استطاع أحمد أن يضم ابنه بين ذراعيه.
بعد خروج أحمد من البلاد على قيد الحياة، لا يعتزم العودة إليها في أي وقت قريب. وهو ليس الوحيد، فخلال تموز، تم اعتقال أكثر من 200 سوري حاولوا عبور الحدود من سوريا إلى لبنان. تقول منال: “ربما تكون نسبة العنف أقل في سوريا مقارنة بلبنان، لكن الناس هناك يعيشون تحت القمع؛ والقمع، بلا شك، نوع من أنواع العنف”. تكافح الأسرة للعيش في غرفة صغيرة في المدينة القديمة في ميناء صيدا جنوب لبنان. وتضيف منال: “عندما يكون لديك أطفال، كل شيء يتغير؛ جل غايتك أن يحظى أولادك بحياة أفضل من حياتك. لكن هنا، لا أعتقد أن هناك حياة أفضل من حياتي”.
فكّرت في محاولة عبور البحر بمركب لتهريب اللاجئين إلى تركيا، لكن السواحل اللبنانية أصبحت مؤمنة بشكل أكبر مما كانت عليه قبلاً. أحياناً تذهب إلى شاطئ البحر، حيث تصطف ألعاب الملاهي حولها، وتنسل إلى الماء مرتدية ثوبها الطويل وتحدّق في الطائرات المارة. “في سوريا، كنا نهاب قصف الطائرات علينا، والآن نحلم في أن تحملنا الطائرات بعيداً”.
شارلوت الفرد
هذا المقال مترجم عن newsdeeply.com ولقراءة المقال الأصلي زوروا الرابط التالي
درج