«فصل جاف» للعودة إلى فرانز فانون/ سعيد خطيبي
ما إن نفرغ من قراءة «فصل جاف»، للروائية السلوفينية غابرييلا بابنيك، حتى يسطع أمام أعيننا فرانز فانون، ولاسيما كتابه «بشرة سوداء، أقنعة بيضاء». فهذه الرواية اختبار جاد لقياس مُلائمة نظريات فرانز فانون للوقت الحالي، وهل ينسحب كلامه على القرن الواحد والعشرين، مع ما عرفه من تغيرات، سنُدرك في ما بعد أنها تغيرات ظاهرية لا أكثر. فقد كتب وتوفي، في مرحلة لم يكتمل فيها مشروع التحرر في إفريقيا، اتخذ من أفارقة يرزحون تحت الاستعمار نموذجاً لعمله، نضجت أفكاره بينما تلك المجتمعات لم تنضج بعد، ولم تتخلص من العبودية. ورغم مرور أكثر من نصف قرن، سنجد أن ما كتبه ما يزال مُطابقاً للراهن، وعلى الرغم مما في الأمر من انتصار فردي لفانون، فهو بيان خسارة، لأن الإفريقي الذي دافع عنه صاحب «معذبو الأرض»، يرفض أن يتقدم خطوة، في التاريخ، لم ينزع عن نفسه جلدة الآباء، ويفضل أن يعيش في غيتوهات ورثها من المحتل القديم.
يقتسم الحكي راويان. في البدء، آنا امرأة تجاوزت لتوها الستين، تصل إلى واغادوغو، عاصمة بوركينا فاسو، قادمة إليها من مدينة في وسط أوروبا، وتتلكأ الروائية في ذكر اسم المدينة. ربما عن قناعة منها أن نظرة الأوروبية للزنجي واحدة؛ من بوخارست إلى لندن (مع أنها تُشير ـ على عجل ـ في واحد من المقاطع إلى أنها من ليوبليانا). تذهب آنا إلى تلك المدينة، في غرب إفريقيا، برغبة منها في تناسي حياتها المملة، في بلدها، وما تُعانيه من أزمات نفسية، معتقدة أن في إفريقيا أسباب تُعيد إليها ثقتها في نفسها. ثم إسماعيل، شاب، في أواخر العشرينيات، عاش يتيماً ومُشرداً، يُصادفها في شارع عام، يقترب منها ليُساعدها في حمل حقيبتها، إلى الفندق الذي تقيم فيه، بدون أن يعلم أنه سيتورط في علاقة معها. تُحاول الحفاظ على عاداتها كامرأة بورجوازية، مُتعالية، ويتجنب إسماعيل مغازلتها، أو قول أي كلمة خارج سياقها، كي لا يمنحها انطباعاً أنه سهل المنال. يلعبان لعبة شد الحبل، في غرفة فندق، وهما يشتهيان بعضهما بعضاً، وينتهي الأمر، كما هو متوقع، بأن يقضيا ليلة في السرير. هذا لم يكن سوى مدخل لنفهم أن الثقافة الكولونيالية، التي نبهنا إليها فانون، ما تزال حاضرة، وبشدة، في ذهنية الإفريقي. بالنسبة لآنا، لم يكن الأمر استثنائياً، سرعان ما تناست ما حصل، وأخذت تتعامل مع الشاب الزنجي، بشكل طبيعي، مع ميل لمقارنته مع ابنها، الذي في سنه، ونزوع لتكون علاقتهما أكثر حميمية، لا لشيء سوى ليصير بمثابة دليل لها، ويُساعدها في التجوال وفي اكتشاف واغادوغو في أمان، ولكن بالنسبة لإسماعيل فالأمر يختلف، بعدما كان مجرد صعلوك، وشخصاً مضطهداً في العصابة التي ينتمي إليها، ويعيش من سرقات صغيرة، تحول، في اليوم الموالي، إلى بطل، حمل معه دليلاً على أنه قضى ليلة مع امرأة، وليست أي امرأة، بل امرأة بيضاء، وبات الجميع يحسدونها على صنيعه، بما يتماهى مع تلك الصرخة التي أطلقها فرانز فانون: «من الجزء الأكثر سواداً في نفسي، عبر المنطقة المشطبة، تتصاعد هذه الرغبة في أن أغدو فجأة أبيض». إن ما أقدم عليه إسماعيل لم يكن عن إغراء، ولا لحاجة في أن يقضي منها وطره، بل ليعلو، قليلاً، عن رفاقه، ويجد سبباً للتباهي قبالتهم. أن يُحظى بامرأة بيضاء فهو يفتح، أمام عينيه، ممرأً إلى ثقافة البيض. «مما يفضي إلى ثبات نفسي كلي»، يُضيف فانون. يتسلق الزنجي جسد المرأة البيضاء وهو يعتقد أنه بذلك يدخل ثقافتها، ويصير في مستوى مماثل لمستواها. هذا هو الاستيهام الزنجي، الذي يعبر عن دونية الإفريقي إجمالاً، تجاه الأبيض، وظننا خطأ أنه ضمر وتوارى، في نهاية الحقبة الكولونيالية، لكنه ما يزال يتسع، تحت الظل، بصخب أقل، وثقة ثابتة في تأكيد علوية الأبيض على الأسود.
كان يُمكن أن نعتبر ما ذهبت إليه غابرييلا بابنيك مجرد إعادة تدوير لكليشيهات قديمة، وأنها استفادت من أرشيف العبودية، لتكتب روايتها، لكن من قراءة النص سنجد العكس، خصوصاً حين نعلم أنها أقامت في واغادوغو، وقتاً كافياً، لتفهم حساسيات الناس، من الداخل، وما تزال تتردد على تلك المدينة، ففي «فصل جاف»، لا تُفارقها اللهجة الساخرة من أفكار الأوروبي تجاه الإفريقي. «مُدهش هذا العدد الكبير من الحشرات، وإن غابت الحشرات نابت عنها فئران وقوارض وسحالٍ. إفريقيا هي أرض الحشرات والأدغال». هكذا تكتب، بما يتقاطع مع الإيكزوتيكية الشاملة، قبل أن تهدم تلك القوالب الجاهزة عن القارة السمراء، وتتوغل في واغادوغو، تقدم لنا طبوغرافية ومسحاً دقيقاً لشوارعها وأزقتها، وناسها، في عراكهم اليومي من أجل العيش. فواغادوغو، التي تظهر في الرواية، هي أرض المخاطر كلها، وإن كان رجالها يرغبون في جسد امرأة بيضاء، كي يثبتوا وجودهم، فهم في ذلك الانتظار، يخوضون حروباً يومية، ضد الفقر وضد الظلم أيضاً. وبما أن آنا، قادمة من بلد عرف الاشتراكية، وثار في صمت ضد تيتو، فقد كان من الطبيعي أن تُقارن تجربتها تلك مع تجربة مماثلة في بوركينا فاسو، وهي سنوات حكم توماس سانكارا (1949-1987)، وذلك على لسان إسماعيل، فقد آمن الناس بسانكارا، سموه «تشي غيفارا» إفريقيا. وآخرون قارنوه بباتريس لومومبا، ولكن الأحلام الوردية لم تصنع يوماً بلداً. أول شيء قام به، عند وصوله إلى الحكم، هو تغيير اسم البلد من فولتا العليا إلى بوركينا فاسو (بمعنى أرض الرجال الأحرار، باللغة المحلية)، في ذلك الوقت كانت الأمهات ـ كما يحكي إسماعيل ـ يملأن أفواه أطفالهن تراباً، كي يصمتوا، بعدما تعذر عليهن الوصول إلى الحليب، ثم قام سانكارا بإصلاحات، أو هكذا أسماها، ببيع ـ مثلاً ـ حظيرة سيارات الرئاسة، ووعد الشعب بحياة أفضل، بينما إسماعيل صار حينها متسولاً، في واغادوغو. مرت سنوات، وانتهى سانكارا مقتولاً، في انقلاب قاده رفيقه السابق كومباوري، ووجد إسماعيل نفسه يهيم في شوارع المدينة، ولم يستطع أن يصعد في السلم الاجتماعي، بين رفاقه،إلا بعد أن جامع امرأة بيضاء. سيقترح عليها أن يرتبط بها، كي يؤكد المساواة بينهما، لكنها تتمنع، رغم ما تشعر به من قرب منه، في تلك اللحظة فهم أن انتصاره اللحظي قد مرّ، وترسخ في الأذهان، ويمكنه أن يمضي إلى حياة أخرى، يهجر آنا ويجد نفسه متورطاً في تجارة رق في البنين، وتعود هي إلى بلدها الذي جاءت منه، مبتهجة بالتجربة التي عاشتها، بعدما ذكرتنا على طول هذه الرواية (الحائزة جائزة الاتحاد الأوروبي في الأدب) أن ما كتبه فرانز فانون يصلح الآن، وربما غداً أيضاً.
ذهبت آنا إلى واغادوغو، في فصل الجفاف، من أكتوبر/تشرين الأول إلى ديسمبر/كانون الأول، تجنباً لفصل الأمطار، الذي تُرافقه أحياناً عواصف، وفي حالات أخرى ترتفع فيه الرطوبة معدلات قياسية، وهو الفصل الذي دامت فيه علاقتها مع إسماعيل، ونيتها، التي اتضحت مع الوقت، أن تصير «زنجية»، ولو رمزياً، كي تنسى حياة الضجر والتعقيدات العائلية، التي جاءت منها، فوجدت إسماعيل، الذي لا يختلف عن مئات الآلاف الآخرين، من العالقين بين ماضٍ استعماري ودولة الاستقلال التي لم تقف على رجليها، وهو يحلم بأن يصير أبيض، من قناعة الإفريقي أنه لن يكتمل سوى عندما يتقبله الأوروبي، بما يُخالف نضالات فرانز فانون: «ينبغي على هذه الأسطورة الجنسية – خرافة البحث عن الجلد الأبيض، أن لا تعود. ينبغي عدم الشعور بلوني كأنه عاهة. فمنذ أن يتقبل الزنجي الشرخ الذي يفرضه الأوربي، لن يجد فسحة أمامه للارتفاع في سلم الألوان».
٭ كاتب جزائري
القدس العربي