كاريكاتير هندسي… شهادات ومشاهدات من الرقة/ إبراهيم الزيدي
العودة إلى الرقة؛ أو منها؛ تشبه الاستيقاظ من حلم. حلم لم تفسره زيارة السفير الأمريكي وليام روباك إلى الرقة، أو مجلس سوريا الديمقراطية، الذي عاد من دمشق إلى القامشلي، فكلهم يريدون أن يقطعوا طريق الذاكرة، ويسرقوا أحزاننا! ولا أحد «يجيء من آخر الكوابيس ويخبرنا أنه كان مناما»! والرقة التي يمتلئ صندوق بريدها كل يوم برسائلنا العاطفية، تعاني من نزلة قهر ذهبت بصوتها.
مشيت في طرقاتها التي دنستها أقدام الغرباء، ورحت أبحث عن مذاق طفولتي التي انتهكتها سنوات التشرد والضياع، عن بقايا ملامحي في دروبها، أبحث عن مدينتي. عن حكايات عبد السلام العجيلي، عن ربابة حسين الحسن، عن مناكفات فيصل البليبل ومصطفى الحسون، عن متحف طه الطه، عن فسيفساء العرب والأرمن والشركس والمسيحيين والأكراد. فاستقبلتني لوحة رسمها الحقد، وتركها أنموذجا لهواة فن الكاريكاتير الهندسي!
لقد حدثت كل التوقعات، ولم يبق ما يمكن أن نخشاه في المستقبل. مئذنة تنتصب على أنقاض مسجدها، وكأنها تبحث عن صوت المؤذن في السماء السابعة، حديقة تحولت إلى مقبرة، وجذوع الأشجار أصبحت شواهد قبور، ثمة شارع طويل كجرح البلاد، انهارت عليه الأبنية من الجانبين، فبدت كخثرة الدم فوق الجرح! أبواب تبحث عن جدرانها، نوافذ يطلّ منها ليل بهيم. مدرسة غادرتها ضحكة الأطفال، فبدت كالسجن وحشتها. كافيتريا تناثرت أوانيها الزجاجية وكأنها أنقاض سماء. سرب من ذباب أزرق يجوب الأحياء.
يستوقف دهشتي أطفال يلاحقون الكلاب الشاردة، ويهشونها بأصواتهم النافرة. امرأة بكامل حزنها تقف بين الأطلال، هي لا تعرف امرؤ القيس، ولم تسمع (قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل)، هي تعرف كيف تمسح دمعتها بأطراف ملفعها الذي تهدلت أطرافه كالحزن على صدرها، وتتحسب الله. وهناك في ملعب الرشيد ثمة مقبرة جماعية تم إحصاء/500/ جثة فيها!/ 500/ بني آدم، في حفرة! /500/ حقيقة نائمة، ولا أحد يستطيع إيقاظها! يا لهذا الموت التعسفي! يا لتلك الأرواح الرخيصة! كنت بحاجة إلى غرفة صماء، أغلق بابها على صوتي وأصرخ. كنت ألوك الكلام، وكأنني أعيد تدويره. يا لهذه المدينة الأفقية التي لا يرتفع فيها سوى الحزن والركام، لقد صفعني وجعها، وأيقظ في نفسي كل ما ورثته من خوف الفجائع. لم تعد الرقة من المدن المنسية كما صنفتها منظمة اليونسكو ذات يوم، أصبحت من المدن المدمرة، وما زالت أرضها خصبة ، والعالم كله يريد أن يدفن مخاوفه فيها!
حين كانت الرقة في الذاكرة استطعنا أن نحتمل كل الأخبار الواردة منها؛ وعنها. كان القصف كلمة؛ والدمار كلمة؛ والفوسفور الأبيض كلمة؛ والموت كلمة أيضا! ما الذي حدث الآن؟ لقد امتلأت ذاكرتي بالكلمات، وها أنا أمام معانيها. هل تلك المفاهيم كلمات؟ إذا كان الموت والدمار كلمات، فإن الرقة شرحمها المستفيض!!
أعود مخذولا، أمشي على رصيف الذاكرة، كأم تبحث في دفتر الغياب عن أبناء مودتها، أستعيد الأحلام التي كبرت، وشاخت قبل أن تتحقق! كم نحتاج من البلادة لكي ننسى؟ وكم نحتاج من الألم حين نتذكر؟ أمرّ بأحياء نسيت أسماءها تحت الأنقاض، أبحث عن بيت أنقذته وحدته من الدمار، عن رائحة الحطب في (هباري) امرأة ريفية، عن فلاح يبحث في عيون السماء عن غيمة يستظل بفيئها من هجير القيظ، عن طاسة لبن يحملها إليّ طفل ما زالت على ركبتيه آثار اللعب. أتناولها منه وأشربها كلها، لعل تلك الغصة التي لازمت حنجرتي تغادرني. فأنا أجبن من أن أنتحر كما تقتضي فروسية الكاميكازي أو الساموراي احتجاجا على الوجود الأمريكي في بلدي.
٭ شاعر سوري
القدس العربي