سوريا: “موت في عهدة الحكومة”/ شفق كوجك ورائد الصالحاني
ألقت زينة نظرة فاحصة على البيان العائلي الذي تسلّمته للتو من دائرة الأحوال المدنية (النفوس) في منطقة الجسر الأبيض وسط دمشق، لتتفاجأ السيدة الثلاثينية بعبارة كتبت إلى جانب اسم زوجها زكريا بأنه “متوفّى”.
زوجها معتقل في أحد مراكز الاحتجاز السرّية أو الأفرع الأمنية التابعة للأجهزة الأمنية السورية منذ عام 2014 على خلفية تقرير أمني بتهمة مناهضة النظام، ومنذ تلك الفترة تعقد زينة الأمل على لقاء قريب قد يجمعها به فور الإفراج عنه، لكن هذا الحلم باللّقاء قد تبخّر.
تدمدم السيدة ببضع كلمات غير مفهومة في محاولة منها لفهم سبب الوفاة قبل أن تقاطعها موظّفة تجلس خلف طاولة وجهاز حاسوب، بالقول “لا نعلم سبب الوفاة لقد وصلت هذه الأسماء إلينا وتم إدخال المعلومات الشخصية الواردة كما هي إلى سجلات المواطنين”.
تقول زينة “لم أكن الوحيدة التي تسأل عن أحباء لها، كان هناك طابور طويل يمتدّ حتى خارج الصالة، أغلبهم من النساء (أمّهات أو أخوات معتقلين أو زوجاتهم) كانت كل واحدة تخرج، وهي تمسح دموعها، وتحمل بيدها ورقة نسفت كل أحلامها”.
زينة ليست الوحيدة التي علمت بوفاة زوجها بهذه الطريقة، بل تتشابه قصّتها في خواتيمها مع حالة أم خالد التي اعتقل ابنها الثلاثيني من وسط حي المزة الدمشقي نهاية 2013، ولاحقاً وصلت أخبار عنه تفيد بوجوده في الفرع 215 (سريّة المداهمة والاقتحام)، الفرع الأشد سطوة وقسوة، على خلفية “اتهامه بالإرهاب والتحريض على النظام” ولم يتمكّن الأهل من التواصل معه بشكل مُباشر أو الوصول إليه.
تقول والدة الشاب “علمت بمكان ابني من طريق أحد المفرج عنهم في عام 2014، وبعدها انقطعت أخباره نهائياً حتى وردنا اتصال من قيادة الشرطة في شارع خالد بن الوليد بدمشق قبل ثلاثة أشهر، وطلب منا القدوم لاستلام أغراضه الشخصية، وعندما وصلت تم تنظيم ضبط بأنه قضى على يد عصابات مسلّحة بعد خطفه، وطلب مني التوقيع على ورقة مقتله على يد العصابات المسلّحة”.
حالة السيدتين من بين عشرات الإخباريات التي وردت إلى ذوي المعتقلين في عدد من المدن السورية بوفاة ذويهم داخل مراكز اعتقال وسجون بعد سنوات طويلة من الاعتقال، على خلفية الاحتجاجات المناهضة للنظام مطلع 2011.
منذ أيار/ مايو الماضي، بدأت تصل إلى دوائر السجلات المدنية في أكثر من محافظة على رأسها دمشق وريفها وحماة والحسكة وحلب، قوائم بأسماء معتقلين ومحتجزين، توفوا داخل السجون، لتعرف بعض العائلات في ما بعد نبأ وفاة أحد أفرادها عند استخراج بيان قيد مدني (إخراج قيد) للسجين أو المفقود، أو بيان عائلي للعائلة من السجلات المدنية. كذلك، أسرعت عائلات أخرى للبحث بين سجلات ورقية أو ملفات رقمية عن مصير من ينتظرونهم منذ سنوات ولا “حس ولا خبر عنهم” كما تقول سيدة لفريق التحقيق.
تشكّل الوفيات داخل مراكز الاعتقال والسجون النظامية بحق معتقلين، بعد طول فترة الاعتقال ومن دون محاكمة أو توجيه تهم واضحة، وكذلك عدم السماح للمتّهمين بالدفاع عن أنفسهم وفق محاكمات عادلة، وفق شهادات أهالي من توفوا داخل السجون، خرقاً للمادة (53) من الدستور السوري الذي عُدّل في شباط/ فبراير 2012 أي بعد عام تقريباً من اندلاع الاحتجاجات. تشير الفقرة رقم (1) أنه “لا يجوز تحرّي أحد أو توقيفه إلا بموجب أمر أو قرار صادر عن الجهة القضائية المختصّة، أو إذا قُبض عليه في حالة الجرم المشهود أو بقصد إحضاره إلى السلطات القضائية بتهمة ارتكاب جناية أو جنحة”. والفقرة رقم (2) تقول،”لا يجوز تعذيب أحد أو معاملته معاملة مهينة ويحدّد القانون عقاب من يفعل ذلك ولا يسقط هذا الفعل الجرمي بالتقادم”. والفقرة رقم (3) “كل شخص يقبض عليه يجب أن يبلغ خلال أربع وعشرين ساعة أسباب توقيفه ولا يجوز استجوابه إلا بحضور محام عنه إذا طلب ذلك كما لا يجوز الاستمرار في توقيفه لأكثر من ثمان وأربعين ساعة أمام السلطة الإدارية إلا بأمر من السلطة القضائية المختصة”. وتنص الفقرة الأخيرة رقم (4) على أنه “لكل شخص حُكم عليه حكماً مبرماً ونُفّذت فيه العقوبة وثبت خطأ الحكم أن يطالب الدولة بالتعويض عن الضرر الذي لحق به”.
وبحسب أم خالد، لم يُسمح لها بالسؤال عن مكان دفن ابنها، حيث أكّدوا لها “أن الجثة دفنت أصولاً بعد وفاته في المعتقل”.
استلمت السيدة أغراض ابنها الشخصية، وأعطيت ورقة موجّهة من قيادة الشرطة في دمشق إلى دائرة السجلات المدنية، (النفوس) لإجراء معاملة الوفاة بشكل رسمي.
تظهر قاعدة البيانات التراكمية في الشبكة السورية لحقوق الإنسان لعام 2018، أن عدد المواطنين الذين لا يزالون محتجزين لدى النظام بلغ 127,593 معتقلاً، من بينهم 81,652 مواطناً تحوَّل إلى مختفٍ قسرياً منذ آذار/ مارس 2011 حتى آب/ أغسطس 2018، في حين بلغت حصيلة الذين قتلوا بسبب التعذيب في مراكز الاحتجاز التابعة للنظام 13,608 منذ آذار 2011 حتى آب 2018.
وبحسب تقرير الشبكة في 27 آب الماضي، تم توثيق 836 حالة كشف النظام السوري عن مصيرهم بأنهم ماتوا جميعاً من دون ذكر سبب الوفاة ومن دون تسليم جثامين لذويهم، بينهم ما لا يقل عن 22 ناشطاً في الحراك الشعبي، 10 طلاب جامعيين، مهندسان، ثلاثة رياضيين، 4 معلّمين، ثلاثة رجال دين واعتقلوا بين العامين 2011 و2012.
دوائر النفوس… مكتظّة بالمراجعين
في شارع الثورة وسط العاصمة دمشق وضمن بناء طابقي تقف عشرات العائلات أمام دائرة النفوس العامة (الشؤون المدنية) والتي تشهد إقبالاً كبيراً لأهالي معتقلين بهدف استخراج قيد عائلي وفردي للتحقّق من ورود أسماء أبنائهم المحتجزين والمعتقلين منذ سنوات ضمن قوائم الوفيات، وبحسب ما رصد فريق التحقيق “فإن ما لا يقل عن 10 حالات وفاة تُسلّم يومياً في المبنى لمعتقلين من مختلف المناطق قضوا في السجون”.
هذه الشهادات تأتي بعد تقرير مفصّل لمنظمة العفو الدولية بعنوان “مسلخ بشري: شنق جماعي وإبادة في سجن صيدنايا” اتّهمت فيه النظام السوري بأنه وراء شنق 13 ألف شخص سرّاً في سجن صيدنايا، وبحسب التقرير فإنه “بين 2011 و2015، كل أسبوع، وغالباً مرتين أسبوعياً، كان يتم اقتياد مجموعات تصل أحياناً إلى 50 شخصاً إلى خارج زنزاناتهم في السجن وشنقهم حتى الموت”.
تدلل الشهادات والوثائق التي حصل عليها فريق التحقيق على أن سلطات النظام السوري الأمنية توزّع قوائم بأسماء أشخاص قتلوا في المعتقلات على دوائر السجلات المدنية لتقوم بعدها هذه الدوائر باستصدار شهادة الوفاة. وهذا ما يعقّد العملية بحسب شهادات الأهالي، الذين أكّدوا أنهم لم يتمكنوا من اتخاذ أي إجراء قانوني لتحديد سبب الوفاة أو مكانها أو حتى المطالبة بالجثامين، لأن الموضوع برمّته مرتبط بأفرع أمنية ودوائر مغلقة تُغلق بدورها وبشتى الوسائل كل الطرق القانونية على أهالي الضحايا.
موت طبيعي
في قرية التريمسة التابعة لمحافظة حماة، وصلت قوائم إلى دائرة السجل المدني، تضم أسماء عدد من أبناء البلدة الذين قضوا في سجون النظام وجميعهم تم اعتقالهم بتاريخ 12 تموز/ يوليو 2012، في ذلك اليوم الذي وقعت فيه المجزرة المعروفة باسم “مجزرة التريمسة” والتي راح ضحيّتها أكثر من 100 قتيل من أبناء القرية، في محاولة قوّات النظام السيطرة على القرية، بحسب شهادات أهالي البلدة.
صايل هويان التابه (45 سنة)، مزارع من أبناء البلدة، أب لستة أولاد، يقول ابنه البكر علي، “على رغم مرور أكثر من 7 سنوات على اعتقاله لم ينقطع الأمل بعودته، حتى وصلنا يوم الأربعاء الموافق 27 حزيران / يونيو 2018 تبليغ من فرع الأمن العسكري في محردة بالبحث عن اسمه في دائرة النفوس في المدينة، ليتبيّن لنا أنه قتل داخل السجون من دون توضيح تاريخ وفاته، وقد تم تسجيل اسمه ضمن لائحة الموتى في سجل دائرة النفوس ليكون كغيره من الذين ماتوا بشكل طبيعي ولم يعد هناك دليل لدينا نقدّمه يثبت مقتل والدي تحت التعذيب خصوصاً أن حتى جثته لم تصلنا حتى نستطيع دفنها”.
ولا يختلف مصير رعد زاكي العلي، وهو في العقد الرابع من عمره من مدينة كفرزيتا بريف حماة، عن غيره من المعتقلين الذين قضوا داخل السجون، حيث خرج الرجل إلى عمله، أي نقل الخضار والفواكه بسيارته لبيعها في سوق الهال في العاصمة دمشق، ولم يعد، لكن فرع المخابرات الجوية بمدينة حرستا (شمال دمشق) اعتقل الرجل واقتاده إلى سجن المدينة وتمت مصادرة سيارته، في 26 شباط/ يناير 2012.
علمت عائلته بخبر اعتقاله من قبل أحد أصدقائه في العمل هناك، وفي 13 حزيران 2018 تلقّت خبر وفاته في السجن، وذلك بعد نشر اسمه في دائرة نفوس محافظة حماة.
تقول العائلة: “استطعنا الحصول على وثيقة وفاة وتبيّن أنه فارق الحياة في بداية 2015”.
لماذا شهادات الوفاة الآن؟
شهادات متطابقة، جمعها فريق التحقيق من خبراء ومحلّلين وشهود عيان، أكّدت أنه ومنذ مطلع عام 2017 ووضوح الرؤية لما سيحصل في الغوطة الشرقية ومع فرض النظام سيطرته على كامل دمشق وريفها بإشراف روسي، ومع التعقيد الموجود في ملف المعتقلين، بدأت دوريات مؤلفة من جنرالات روس وضباط من النظام السوري إجراء جولات تفتيشية على الفروع الأمنية والسجون التابعة لها، للاطّلاع على ملفات المعتقلين والذين قضوا داخلها، وكذلك على سجلات الدفن وصور المعتقلين وكل شيء يتعلّق بهم، وذلك بهدف إحصاء دقيق للأشخاص الموجودين على قيد الحياة في الفروع كافة، ومقارنة وثائق الأشخاص الموجودين على قيد الحياة مع الوثائق الشخصية المتوفّرة، وفرز الوثائق التي لا أصحاب لها (أي أن أصحابها قضوا داخل السجن).
يقول فضل عبد الغني، مدير الشبكة السورية لحقوق الإنسان في تصريح صحافي في 27 آب، “لا يمكن الجزم بما يخطّط له النظام السوري، لكنني أعتقد أن هناك فرضيتين، الأولى أن الروس هم من طلبوا من النظام فعل ذلك بهدف إنهاء الملف الذي يعرقل لملمة الكارثة السورية، والثانية أن النظام السوري يريد أن يظهر أنه قد انتصر ميدانياً والآن ينهي ملف المعتقلين”.
وبحسب الإحصاءات، تم تسجيل صاحب كل وثيقة لم يعثر عليه على أنه متوفى، واستمرّت العملية لمدة شهرين من العمل المتواصل، قبل أن يتم اقتراح فكرة التبليغ عبر المخاتير ودوائر الشؤون المدنية وقيادة الشرطة ووزارة الداخلية بعد عمليات فرز دقيقة، وكل من ليس له عنوان واضح ضمن مناطق سيطرة النظام أو رقم هاتف، فقد تمت توفيته لدى دوائر السجل المدني مُباشرة بأوامر من الفروع الأمنية. في حين لم يتحدّد بعد مصير المعتقلين على قيد الحياة داخل السجون منذ سنين ويقدر عددهم بحوالى 220 ألف مواطن، وفق الشبكة السورية لحقوق الإنسان عام 2017.
المركز الأوروبي للحقوق الدستورية وحقوق الإنسان، والمختص بالتقاضي الاستراتيجي في العالم ومن هذه القضايا (القضايا الخاصة بالانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان في سوريا)، شدّد على “إطلاق سراح جميع السجناء السياسيين فوراً ومن دون قيد أو شرط”. مؤكّداً في رد لفريق التحقيق، على ضرورة التحقيق في جميع الوفيات ضمن السجون السورية من قبل “هيئة مستقلة” وفي حال توصّلت التحقيقات إلى أن سبب الوفاة هم المسؤولون عن هذه السجون، يجب أن يتبع ذلك المساءلة الفردية والدولية.
مآلات تحرّك النظام
يؤكّد المحامي علي رشيد الحسن، رئيس تجمّع المحامين السوريين الأحرار “أن الفعل الذي يقوم به النظام السوري حالياً هو تحرّك خارج نطاق القانون ولا يوجد له تفسير غير أن النظام يحاول التملّص من تلك الجرائم الشنيعة التي مارستها أجهزة الأمن التابعة له بحق المعتقلين”.
وفي محاولة للإجابة عن الأسباب التي دفعت سلطات النظام السوري إلى تقديم شهادات الوفاة، يرى رئيس المركز السوري للدراسات والأبحاث القانونية، أنور البني، أن هناك احتمالات عدّة لذلك، مثل “سحب ملف المعتقلين من التداول السياسي وبخاصة مع قرب اجتماع آستانة والضغط باتجاه وضع ملف المعتقلين أولاً على الطاولة، وقبول روسيا بذلك ومحاولة تشكيل لجان مع الصليب الأحمر ومنظمات دولية للكشف عن مصير المعتقلين فاستبق هذه الخطوة بالبدء بالكشف عن مصيرهم لقطع الطريق على أي محاولة لذلك”.
وهناك احتمال آخر بحسب البني وهو “محاولة فتح ملف قضائي في سوريا وإلباس التهمة لبعض رموز الإجرام من ضباطه وعناصره الذين استخدمهم وانتهى دورهم، لمحاولة سحب ملف العدالة من يد القضاء الأوروبي أو الدولي، (وحتماً هذه لن تنجح أبداً لأنه لا يمكن الاعتداد بقضاء مستقل ونزيه قادر على القيام بهذه المهمة في سوريا)”.
تهرّب من المحاسبة
يقول مختصّون حقوقيون إنه وفي ظل هذه الأرقام “المخيفة” لعدد المتوفّين داخل السجون ولعدد المعتقلين، يعمد النظام السوري إلى تجنّب المحاسبة الدولية، إذ بدأ ينتهج سياسة نشر مئات الأسماء لمعتقلين قضوا تحت التعذيب في دوائر النفوس الحكومية وإيعاز سبب وفاتهم إلى أسباب مختلفة لإبعاد تهمة قتل المعتقلين منه، ساعياً إلى طمس معالم الجريمة التي فعلها وتجنب المحاكمة القانونية، خصوصاً مع بدء ظهور ملامح لحل سياسي في سوريا”.
وهذا ما يتقاطع مع ما يذهب إليه المحامي وعضو هيئة الدفاع عن معتقلي الرأي والضمير، ميشال شماس: “أن تسريب أسماء المعتقلين الذين قتلوا تحت التعذيب إلى دوائر النفوس المدنية في المحافظات السوريّة ما هو إلا محاولة من النظام للتهرّب من تبعات ملف المفقودين والمعتقلين في السجون”.
سجلات تؤسّس للانتقام
يتذكّر الشاب الثلاثيني يوسف القاطن شمال سوريا اللحظات الأخيرة لاعتقال والده في مدينة داريا بريف دمشق، خلال اقتحام المدينة من قبل قوّات النظام أواخر 2012، لتعلم العائلة في ما بعد على لسان أحد الشهود الناجين والذي رافق والده خلال فترة الاعتقال، أنه قتل خلال فترة الاعتقال رمياً بالرصاص. ويؤكّد الابن أن وفاة والده بهذه الطريقة “من دون محاكمة ومن دون حصولنا على جثة أو ذكر سبب الوفاة في الوثائق التي تصدرها الشؤون المدنية، تعزّز شعور الانتقام لديه حتى بعدما تركنا المدينة وتهجّرنا إلى الشمال السوري”.
في قائمة الأسماء التي نشرت لهؤلاء الذين قضوا وهم يصرخون حتى أسكتهم الموت، الكثير ممّن لهم أبناء، ربما ثلاثة أو أربعة لكل منهم. لذا كيف سيتصالح هؤلاء الأطفال مع قاتل أبيهم، وهل يمكن أن يترك هذا الفعل إرثاً على المجتمع ويؤسّس للانتقام وبالتالي زعزعة ركائز التعايش السلمي والاستقرار طويل الأجل بين السلطة والمجتمع؟
يقول الخبير الاجتماعي الدكتور أحمد برقاوي، وهو باحث ومفكّر فلسطيني، تولّى رئاسة قسم الفلسفة في جامعة دمشق، في مقابلة مع فريق التحقيق “إن قتل المعتقلين في سجون الجماعة الحاكمة هو شكل من أشكال الإبادة الجماعية لنخبة شبابية سورية ذات وعي سامٍ بالحياة، مؤسّس على فكرة الحرية وهي ظاهرة لم يشهد لها تاريخ البشرية مثيلاً”، معتبراً “أن الوعي الشعبي الذي ينطوي على ذاكرة جمعية، لا يمكنه نسيان هذه الفجيعة الغريبة، وهي ذاكرة متكوّنة من حزن وغضب وحقد على الفاعل”.
ويضيف البرقاوي: “التعايش المعشري يبدو مستحيلاً في المدى المنظور، حتى لو كان هناك عيش في مكان واحد، وأقصد بالتعايش المعشري الشعور بالإنتماء الواحد والعلاقات المترتبة عليه من زواج وصداقة ومشاركة في الأفراح والأتراح”.
وتترك الوثائق والشهادات تأثيراً كبيراً في المجتمع وبخاصة أثناء معرفة الأهل بما حصل من خلال شهادات معتقلين سابقين أو تقارير حقوقية، ويرى برقاوي “أن المجتمع يعيش الآن حال ذهول، وحال الحزن سوف تحفر في قلوب الناس، وبخاصة في قلوب الأمهات والآباء والأبناء والأقارب والمجتمع ككل”.
استرداد الرفاة
على رغم وجود أدلّة وتقارير حقوقية على عمليات “التعذيب والقتل” في السجون السورية التي جمعتها مؤسّسات الحقوقية ومنظّمات دولية، إلا أن مقاضاة المسؤولين والمتورّطين من خلال المحاكم المختلفة تتطلّب بحسب الخبيرة القانونية، سيسيليا بيشماز، من منظّمة سوريون من أجل الحقيقة والعدالة، ومقرّها اسطنبول، “ضرورة توفّر الاختصاص/التفويض، وإحدى الطرق المتاحة حاليّاً هي الاعتماد على مبدأ الاختصاص العالمي في دول تسمح قوانينها الوطنيّة بذلك، مثل ألمانيا/ فرنسا/ إسبانيا، وبعض الدول الإسكندنافيّة، حيث يتم التواصل عادة مع محامين مختصّين، يقومون بدورهم في التواصل مع السلطات المختصّة، وبناء قضايا وملفّات صالحة ومجهّزة وفق المعايير الدوليّة”.
وتشير إلى أن شهادات الوفاة التي يصدرها النظام “تشكّل من حيث المبدأ اعترافاً واضحاً بأنّ الأشخاص توفّوا تحت عهدة الحكومة السورية، وتمكن الاستفادة من هذه النقطة بشكل فعّال لغايات المحاسبة عند ربطها مع أجزاء أخرى في القضيّة، على سبيل المثال، يمكن الحصول على شهادات لأهالٍ زاروا أبناءهم في السجون، أو يمكن الحصول على شهادات من معتقلين سابقين يستطيعون تأكيد أنّ الشخص المتوفى كان في مركز الاحتجاز ذاته”.
ومع تسليم دوائر النفوس في المحافظات السورية، أسماء المعتقلين الذين قُتلوا في السجون السورية، بعد أن كان مصيرهم مجهولاً لسنوات، يواصل النظام السوري نفي التهم عنه ولا يعترف بمقتلهم، في حين تشكّل شهادات الوفاة الممنوحة لذويهم أحد أدلة الإدانة، مع استمرار منع أي مؤسسات أو لجان تحقيق دولية من الوصول إلى هذه السجون.
تقول منظمة “هيومان رايتس ووتش”، في تقرير لها نهاية شهر تموز/ يوليو 2018 “إذا كان المختفون قسرياً على يد الحكومة قد ماتوا، فيجب أن يُسمح باسترداد رفاتهم ومعرفة ظروف الوفاة من خلال تحقيق مستقل، يجب ألا يُسمح للحكومة بالإفلات من الحساب”.
أنجز التقرير: سوريون من أجل الحقيقة والعدالة، شبكة صوت العاصمة – بالتعاون مع الوحدة السورية للصحافة الاستقصائية – سراج، وبإشراف الزميل علي الإبراهيم