داريا الصيف الأسود/ اسامة ابو زيد
عاد آب/أغسطس 2018، مع هبوب رياح الذكريات، ليذكرنا بقسوته على داريا وثورتها، عندما أكد النظام المجرم استشهاد معتقلين من المدينة تحت التعذيب، في معتقلات “المخابرات الجوية”.
تقول الأنباء الأولية أن مخابرات الأسد سلمت “دائرة النفوس” في ريف دمشق قوائم بأسماء أكثر من 900 معتقل قضوا تحت التعذيب. والى جانب كل اسم في تلك القوائم، وضع سبب الوفاة على انه ذبحة قلبية او جلطة دماغية، لتكتمل من وجهة نظر النظام عناصر إبرائه لساحته من المسؤولية عن مقتل خيرة شباب المدنية، وذلك النموذج الناصع في ثورة السوريين.
في مطار المزة العسكري، الذي يقع جزء منه داخل أراضي مدينة داريا بعد استملاكها من “الدولة”، تم احتجاز وتحقيق وتعذيب معتقلي داريا اللذين تجاوز عددهم 2900 معتقل. وفيه نُهشت أجساد، وأزهقت أرواح الكثير من أبناء المدينة، عدا من تم تنفيذ “أحكام” إعدام صادرة بحقهم عن “محاكم الميدان العسكرية” في سجن صيدنايا العسكري. مطار المزة، المستملك من أرض داريا، والمُعتقل المريع لأهلها، دمّرته صواريخ إسرائيلية، في 2 أيلول/سبتمبر، بعدما استهدفت مستودعات ذخيرة لمليشيات إيرانية.
الثلاثاء 21 آب/أغسطس 2013: نفذ طيران النظام المروحي عمليات قصف على داريا في غوطة دمشق الغربية، بالتزامن مع حملة عسكرية على معضمية الشام المجاورة، بالاضافة لحشود عسكرية تمركزت علـى مداخل داريا. ذلك لم يمنع تنسيقية داريا من إقامة عزاء جماعي لشهداء مجزرة القصف الجوي، تضمن كلمات وقصائد، منها قصيدة العشماوي “يا قاتل الأطفال يومك آت”.
ثم استيقظت داريا على أخبار مؤكدة بأن قوات النظام ستقتحم المدينة. وبالفعل، مع غروب الشمس، بدأ النظام حملة قصف عنيف على المدينة بصواريخ أرض-أرض والمدفعية، بعد قطعه الكهرباء عن المدينة. أمطرت السماء ناراً وصواريخ، فقرر والدي أن ننتقل من منزل أهلي الذي تضرر من القصف إلى منزل اخي القريب، باعتباره طابقاً أرضياً له ملجأ تحته.
على وجه السرعة، ركبنا السيارة التي كان زجاجها الخلفي مُحطّماً كلياً بفعل الشظايا، والزجاج الأمامي متضرراً. مروحية في السماء تستهدف بالرشاشات الشوارع، عناصر الجيش الحر يصرخون بأعلى أصواتهم يطلبون من والدي إطفاء الاضواء كي لا تستهدفنا المروحية.
دقائق قليلة حتى وصلنا منزل أخي طارق. أخي محمد كان قد سبقنا مع عائلته إلى هناك. لم نتبادل السلام، فمعظمنا لم يكن قادراً على ذلك، حتى السؤال عن الحال لم يكن ممكناً. الحال كانت العيون تشرحه؛ قلق وحيرة حول ما هو آت خلال الساعات المقبلة. الحيرة الأصعب كانت عند التفكير بإجابة مريحة لأسئلة الأطفال التي لا تنتهي، خصوصاً مع سماعهم لكثافة القصف غير المسبوقة.
اتفقت مع أخي محمد أن نُجرّب الخروج من المدنية مع بزوغ الفجر، وطلوع الصباح. وبالفعل ركبت أنا وزوجتي مع عائلة أخي، وبدأنا نستطلع مخارج المدينة التي يمكن اللجوء إليها في رحلة باتجاه المجهول. وبعدما بدأ اخي القيادة، اكتشفنا أننا لسنا الوحيدين اللذين وضعوا هذه الخطة. أعداد كبيرة من الناس قررت تجربة الخروج مع ساعات الصباح الأولى.
وسرعان ما تحولت الجموع السيّارة إلى قافلة للهاربين من الموت. طريق دمشق كان مغلقاً، والطريق الزراعي باتجاه جديدة عرطوز لم يكن محل ارتياح. فاتجهت القافلة من دون قائد إلى طريق داريا-صحنايا. بعض عناصر الجيش الحر كانوا على مفترقات الطرق يوجهون السيارات، حتى وصلنا إلى ساتر ترابي يسد الطريق. وكان السؤال: هل نجرب الالتفاف على الساتر، أم نعود أدراجنا؟ أحد السائقين قرر أن يجرب الإلتفاف، فأخبرته أربع رصاصات من قناص بأنه يتوجب علينا أن نعود أدراجنا. وبالفعل عدنا إلى البيت.
لم نكن ندرك ان توقف القصف على المدينة كان يعني أن عصابات القتل التابعة لـ”المخابرات الجوية” و”الحرس الجمهوري” و”الفرقة الرابعة” باتت داخل أحياء داريا، وأن الجيش الحر الذي كان قليل العدد قد انسحب. عند الظهر تقريباً، بدأت عناصر عصابات النظام تطرق باب منزل أخي بشكل جنوني، ففكرت بأنهم سيقتلوني باعتباري معتقلاً سابقاً، وربما في أحسن الأحوال سيتم اعتقالي مجدداً. قبيل دخول شبيحة الأسد إلى بيت أخي، نظرت في وجوه الموجودين؛ أمي وزوجتي وأخواتي وبنات أخي، ومحمد و طارق وزوجتيهما. العيون كلها تترقب ما سيحدث، وكيف سيكون شكل مواجهتنا نحن العزّل مع مجموعات من المجانين القتلة.
سألت والدي: ماذا سنفعل؟
أجابني بهدوء: وكّل أمرك لله!
كنت متوتراً لدرجة كبيرة، فسألته مجدداً، إذا ما قيدونا الآن، واغتصبوا أهلنا أمامنا، ماذا سنفعل؟ ماذا سيفعل الله؟
دخل الشبيحة إلى المنزل، وفتشوه، مدققين في الهويات، قبل أن يخرجوا لتفتيش الأقبية والملاجئ. أخي كان يملك مستودعاً تابعاً لشركته المتخصصة في التجهيزات الطبية. العناصر اعتبروه مشفى ميدانياً، وبدأوا يحققون مع من في الشارع ويسألونهم عن صاحبه. فقرر أخي أن يخبرهم، وأنه مستودع لشركة طبية. بالنسبة للشبيحة، لم يكن التفسير والشرح مهماً، فضربوا أخي، وأجبروه على حرق المكان، وهو داخله ليحترق.
ركضت إلى الضابط، ورجوته ترك أخي. وبعد رجاء وإلحاح، قال الملازم قائد المجموعة: “خلوه يطلع”، ولما خرج طلبوا منه أن يجلس جاثياً على الأرض، وبدأ العناصر يلقمون بنادقهم. هل سيعدمونه؟ ضاعفت إلحاحي على الملازم. أحد العناصر كان متشوقاً لإطلاق النار، وصار يقاطع إلحاحي على الملازم بالشتائم، وهو يكرر سؤال الملازم: “شو سيدي بقوصوا؟”. فقال الملازم: “لا خلص اتركوه!”. ربما كان هذا الجواب على سؤالي لوالدي: “وين الله وشو رح يعمل؟”.
جُنَّ العُنصر، وطلب من الملازم أن يسمح لهم “توديع” أخي، أي إقامة “حفلة ضرب” كوداع. ضربوه بشكل وحشي، حتى نزف.
استراتيجية العصابات المقتحمة لداريا تمثلت في تركيز القصف المدفعي والصاروخي على مجموعة أحياء، لشلّ أي إمكانية للحركة، وعندها تدخل القوات البرية إليها لتبدأ عملية التمشيط والقتل، فيما ينتقل تركيز القصف إلى أحياء أخرى. النظام حاصر المدنيين في اقبيتهم، من خلال عمليات القصف المركزة، ولم يتوقف القصف إلا مع وصول مجموعات المشاة إلى مدخل الحي. مع غياب الشمس، توقفت عمليات الاقتحام والتمشيط، لكن عصابات الأسد لم تنسحب، بل قررت المبيت في النقاط التي انتهت من تمشيطها. القصف المدفعي والصاروخي لم يتوقف، ولا القنص.
لحظات قليلة شعرت فيها بالسكينة داخلي، سكينة سرعان ما غادرتني واختفت كلياً مع عودة التساؤل إذا ما كانت قوات النظام ستعود إلى حيّنا غداً. لم تهرب السكينة وحدها، بل تضاعف القلق مع فشلنا في ايجاد طبيب يستطيع الوصول إلى منزل أخي حتى نوقف النزيف من عينه، وتضاعف أكثر مع ما تحمله إلينا الريح من أصوات الشتائم والصراخ. صراخ جلاد، وصراخ ضحية. بعد انسحاب قوات النظام من المدينة، اكتشف الاهالي أن عناصر العصابات حولت بعض البيوت إلى مراكز تعذيب وتحقيق وتمثيل في الجثث. الصراخ الذي حملته إلينا الريح كان لشباب احترقوا أحياء.
استغرقت مطولاً في التفكير بخياراتنا المتاحة، فقررت الخروج من داريا مهما كانت التكلفة، وقلت في نفسي: الموت قنصاً أو رمياً بالرصاص، خير من مواجهة الموت ذبحاً أو مشاهدة من يعتدي على أهلي، بلا قدرة على الدفاع عنهم.
ما زلتُ أذكر تلك المحادثة مع زوجتي آية، منتصف ليل السبت/الأحد، قلت لها: “غداً صباحاً سأحاول الخروج، وعليك أن تأتي معي، لكني لن اجبرك على ذلك إذا كنت تفضلين البقاء مع أهلي”.
قاطعني والدي قائلاً: “حاول الخروج غداً، وإذا تمكنت من ذلك، سنلحق بك من الطريق الذي سلكته”.
مع قدوم الصباح، أزحتُ الأنقاض والشظايا عن سيارة والدي، ووضعت غطاءً قماشياً أبيض مكان الزجاج الخلفي المكسور، فربما يمتنع عناصر النظام عن استهداف السيارة بالقناصات، إذا ما اعتقدوا إنها اشارة استسلام.
بسرعة جنونية انطلقت من منزل أخي عبر طريق فرعي بين داريا والمهايني، وبعد ساعة وصلتُ الى منزلي في دمشق، غير مُصدّق أني قد وصلت.
لم اكن أدرك أن آب/أغسطس سيعود ثقيلاً ودموياً مرة أخرى على داريا، في العام 2016، اثناء وجودي في ريف ادلب. في 25 آب، استقبلت اتصالاً بعد منتصف الليل من قادة الحراك الثوري في داريا، ليبلغوني بأن المفاوضات مع النظام قد انتهت، وأن الخيار الوحيد المتاح أمامهم هو الخروج إلى إدلب، وأن القرار قد اتخذ بتكليفي تنسيق وصول الأهالي والمقاتلين.
بعد أربع سنوات من القتال والصمود، أربع سنوات من إذلال “قوات النخبة” في “الحرس الجمهوري” و”الفرقة الرابعة” و”حزب الله” اللبناني والعراقي و”ابو الفضل العباس”، وبعدما نفذت ذخيرة الرجال، اتخذ ثوار داريا قرارهم بالانسحاب من المدينة. النظام المرتعدة فرائصه، وافق مرغماً على خروجهم بسلاحهم. النظام وحلفاؤه كانوا يعرفون أن لا ذخيرة قد تبقت مع رجال داريا، لكنهم كانوا يدركون أن من صمد رغم اختلال موازين القوى كل تلك السنوات، ليس من الذكاء محاصرته بين خيار الاستسلام او الاستشهاد، فخيار أهل داريا واضح وسيكون باهظ التكاليف…
ذكريات آب الأسود الكثيرة في داريا.. مَن يستطيع حفظها، أو حتى تحمّل آلامها؟
المدن