سعدية قاضون وشيخ الكار: السلطة والسوق في دمشق العثمانية/ محمد تركي الربيعو
تنقل لنا أخبار مدينة دمشق في النصف الأول من القرن الثامن عشر عن قدومَ الوالي أسعد باشا للمدينة، الذي خلف عمه سليمان باشا العظم في سنة 1743. بيد أنه وخلافا، لسياسة عمه في مواجهة القوى العسكرية المحلية (اليرلية) ومن يدعمهم في سلطة الولاية؛ بدا أن أسعد باشا في فترة حكمه الأولي غير قادر على مواجهتهم، أو الحد من نفوذهم، وأن لا رغبة لديه في الحد من نفوذ دفتردار الشام آنذاك فتح الله بن محمد الفلاقنسي (ت 1749) الشهير بفتحي الدفتري، كما شاع لقبه في مدينة دمشق. فقد حظي هذا الرجل بجاه ونفوذ سواء داخل الإدارة العثمانية، أو لدى آغا اليرلية، كما كان مقربا من طوائف الحرف والكنيسة الأرثوذكسية في المدينة، وهو الأمر الذي مكّنه حقيقة من أداء دور في الحياة السياسية للمدينة مواز لدور الوالي، حتى يقال إنه وفي أثناء تزويج ابنته، اختار أن يستمر هذا الزواج لمدة سبع ليالي، في إشارة لمكانته، وتشبُّها بحفلات الزواج التي كان يقيمها الولاة.
ورغم أنه بعد وفاة عمه سليمان قام الدفتري بتحريك قوات اليرلية لمهاجمه عسكر الوالي والموالين له، كما قام بالحجز الكامل على أموال سليمان، وارتكب أمورا مهينة بحق نساء الوالي المتوفى كي يُفصِحن عن أماكن أمواله، إلا أن أسعد باشا عند قدومه لم يبدِ أي رد فعل حيال ما جرى مع نساء عمه، وتريث في مواجهة هذه القوى والشبكة المحلية، ما رسم صورة عنه في مخيال أبناء المدينة، وهي صورة رسمها لنا بدقة حلاق المدينة البديري، بوصفه حاكما ضعيفا، لا حيلة له أمام انتشار الفساد وتسلط الآغاوات وغيرهم من عسكر اليرلية، فسموه وفقا للبديري «سعدية قاضون، لا يحرك سكون، بل نايم مع النايمون، وهم في طغيانهم يعمهون، وللمال والعرض يستحلون، لكن البلد ساكنه، ومن المظالم آمنه».
ولكن هل كان بالفعل صاحب أعظم خان في المدينة، والذي سمي باسمه، بهذه الصفات السلبية؟
في سياق تحليله ليوميات البديري (1741ـ 1762)، يؤكد المؤرخ السوري سامر عكاش في كتابه يوميات شامية، أن أسعد باشا بدا في بداية حكمه غير آبه بسخرية الدمشقيين وغير متحمس لاستعجال التغيير، بيد أن ذلك لم يكن لعجزه عن التحرك، على ما يبدو، وإنما لرغبته في الوقت المناسب. ويبدو أن هذا الوقت المناسب جاء في مستهل عام 1746 بعد عودة موكب الحج، الذي لم يكن يعني للدمشقيين موسما دينيا، وإنما كان موسما اجتماعيا واقتصاديا، ولحظة سياسية للولاة، إذ يذكر البديري أنه «في يوم الخميس جاء الحاج الشريف الشامي، ودخل دمشق ثالث صفر، صحبة الوزير المعظم والمولى المفخم أسعد باشا، في أمن وإنعام، وأحسن حال كجاري عادته، لا يحرك ساكنا، كما مضى من الأعوام …لكن أرسل طلب دالاتية (قوى عسكرية موالية) وزاد في طلبهم بالكلية. فلما رأت انكشارية الشام إلى ذلك الأمور الصعبة، استحسوا الشر به، فنبهوا بعضهم بعضا، وقد ضاقت عليهم الأرض، وقالوا ست سعدية تريد تغدر بنا، فهذا الأمر لا يخوفنا. ثم زادوا بحمل السلاح، ونهب المال والعرض وسب الدين مباح».
مع ذلك، لم تستطع قوى الانكشارية المجابهة ولاذت بالفرار، فعمت المدينة حالة من الفرح، الأمر الذي دفع أسعد باشا، بعد حصوله على موافقة من الباب العالي إلى أخذ قرار بتصفية الدفتردار فتحي الفلاقنسي، وهو ما حدث بالفعل «فقال له: ويلك يا خاين، أما نسيت ما فعلت في نسا عمي.. فوضع في رقبته حبلا وجروه وشحطوه في شوارع الشام وأزقتها». إلا أنه وخلافا للصورة التي رُسِمت لاحقا عن الفلاقنسي بوصفه يستحق هذه النهاية المأساوية، يرى عكاش في كتابه يوميات شامية أن الأخير لم يكن بهذا السوء، لا بل على العكس كان هو وأفراد عائلته من محبي الفنون والعلوم والأدب، كما كان لهم دور في ترسيخ ثقافة الحياة الدنيوية في المجتمع الدمشقي وفي عمارة المدينة (جامع القيمرية). وبعد الانتهاء من هذا الصراع، يمكن القول إن مدينة دمشق عرفت حالة من الاستقرار إلى حين، بعد نصف قرن ربما من الاضطرابات وتكرار تغير الولاة.
الاقتصاد في المدينة
ولكن كيف كانت أحوال المدينة وخاناتها، وشيوخ مهنها، في النصف الأول من القرن الثامن عشر، وهي الفترة التي عرفت تغيّرا في الولاة، واقتتالا بين دمشق والقبائل البدوية في حوران، كما عرفت اضطرابات ومواجهات عديدة داخل المدينة قبل أن تقوى شوكة آل العظم، وتشهد المدينة فترة من الرخاء الاقتصادي؟ يمكن أن نعثر على جزء من هذه الإجابة في كتاب المؤرخ الأردني مهند مبيضين «شيخ الكار» الصادر حديثا عن دار جامعة حمد بن خليفة للنشر. واعتمادا على مادة السجل الشرعي، يبين مبيضين أن تلك الفترة عرفت صدور فتاوى من قبل العلماء تدعو الفلاحين لهجرة ضياعهم؛ ويمثل موقف الشيخ عبد الغني النابلسي (ت1731) أهم مثال عن موقف العلماء ورفضهم لتعديات رجال الإقطاع على الفلاحين، إذ ألف النابلسي رسالة حملت اسم «تخيير العباد في سكنى البلاد» أيد فيها هجرة الفلاحين، ضمانا لسلامتهم، وأكد على أن خروج أهل القرى وتركهم مساكنهم وأملاكهم أمر يثابون عليه.
وتبدو الصورة أكثر سلبية من خلال ما يظهر في الوثائق الشرعية، خاصة وثائق البيع والشراء في مدينة دمشق، إذ تبرز المشكلة الأكبر في حركة التجارة المحلية، التي تتمثل في تراكم الديون والتي يبدو أنها تضخّمت بسبب الربا الذي أخذ ينتشر في الوسط التجاري الدمشقي. ومن القرى التي واجهت أزمة الديون وفوائدها، يمكن ذكر جيرود والمزة ومنين والقدم وصحنايا وداريا وكفرسوسة.
لكن يبدو أن أحوال المدينة ستتحسن في فترة آل العظم بفضل عاملين هما: ازدهار حركة التجارة بين دمشق وجوارها بحكم استقرار الأمن، وتحديدا مناطق الجنوب، حيث سهل حوران المُنتج زراعيا، والثاني يتعلق باستقرار أمن قافلة الحج، التي كانت تعني ازدهارا للمدينة وأحوال أهلها، وأيضا استقبال من وفدوا بفعل الغربة بالتجارة أو تلقي العلم ووسط الأحياء وبين الحارات شكّلت الأسواق والشوارع الواصلة بينها، بؤرة للتمركز الاقتصادي والفعل الاجتماعي. ومن بين الأسواق التي ترد في وثائق وحجج البيع والشراء المدونة في السجل الشرعي: سوق الذراع الذي تباع فيه الثياب النفيسة والكتان والحرير، وسوق الذهبيين (الصاغة)، وسوق الحرير، وسوق العنبرايين عند باب الجامع الأموي، وقد بنيت هذه الأسواق وفق طراز عمراني يتناسب والمهام التي تقوم بها، كما أن بعضها كان يشكّل ساحات مكشوفة كسوق الجمال في حي الميدان وسوق الغنم والبقر وسوق الجمعة قرب قلعة دمشق.
بيوت الأكابر:
وقد أخذ البيت والدار الدمشقية اهتماما ملحوظا في الدراسات الحضرية، ولعل هذا الاهتمام، كما يرى مبيضين، نابع من نظرة الدمشقيين للبيت والدار، مع ذلك يرى مبيضين أن المصادر المحلية في الزمن العثماني (لا نعلم إن كان يقصد هنا فترة الدراسة ـ النصف الأول من القرن الثامن عشر/أم بشكل عام) لا تنقل الصورة عن بيوت الناس العاديين، واقتصرت فقط على بيوت الأكابر والأعيان. وهنا يمكن مخالفة المؤرخ بعض الشيء، خاصة أن السجلات الشرعية استطاعت أن تمدّ بعض الباحثين ممن عملوا على دراسة تاريخ مدينة دمشق العثمانية في القرن الثامن عشر، ببعض التفصيلات المهمة حول شكل بيوت العامة، كما في حالة دراسة المؤرخة الفرنسية بريجيت مارينو، التي بينت عبر دراستها لتاريخ حي الميدان في النصف الثاني من القرن الثامن عشر، أن معظم بيوت الحي لم تكن تتوفر فيها حجرة لإعداد الطعام، كما أن بعض العامة كانوا يسكنون في حوش كبير مشترك، وكل غرفة في الحوش مخصصة لعائلة بأكملها.
وبالعودة إلى بيوت الأكابر في القرن الثامن عشر، نجد أن من بين الدور التي نعثر عليها دار الأسطواني، وكانت تقع في زقاق الحمزاوي إلى ناحية الشمال من قصر العظم. وهناك دار إسماعيل العظم التي أنشأها غربي المدرسة الجوزية، ومن الدور الشهيرة أيضا دار أحمد أفندي العكري، وهو قاضي مكة المشرفة، ويقع غربي البيمارستان النوري. كما نعثر على بيت السباعي، الواقع جنوب الشارع المستقيم وغربي شارع الباب الصغير مع متطلبات التصميم المعماري لبيوت وجهاء المسلمين المؤلفة من ثلاث باحات، واحدة للضيوف، وقسم للعائلة وقسم للطبخ، بعكس بيوت العامة، كما أشرنا في حي الميدان (وفق بريجيت مارينو) التي لم تكن تحتوي على حجرة خاصة للطبخ.
ولا بد من الإشارة إلى أن ما يُحسب لمهند مبيضين خلال العقدين الماضيين هو اهتمامه بتاريخ دمشق في القرن الثامن عشر، لاسيما في النصف الأول من هذا القرن، وهي فترة لم تحـــظَ باهتــــمام كبير لدى مؤرخي المنطقة المهتمين بدمشق تحديدا، الذين أبدوا اهتماما أكبر بالقرن السادس عشر أو القـــرن التاسع عشر، في حين بقيت هناك فجوة تتعلق بالقرنين السابع عشر والثامن عشر، التي لاقت اهتمـــاما لدى باحثين غربيين عكفوا على دراسة هذه الفترة، من أمثال ليندا تشيلشر وبريجيت مارينو وعبد الكريم رافق. ولا بد من الإشارة أيضا في هذا السياق للإسهامات الرائدة مؤخرا لكل من المؤرخ السوري سامر عكاش والمؤرخة الفلسطينية دانا السجدي صاحبة كتاب «حلاق دمشق»، اللذين قدما من خلال دراساتيهما رؤية مختلفة للتعامل مع مرويات وأخبار المصادر المحلية للمدينة في القرن الثامن عشر.
٭ كاتب سوري
القدس العربي