رواية أغنية هادئة/ ليلى سليماني
ليلى سليماني ونعي الرأسمالية القاتلة/ ممدوح فرّاج النّابي
عندما فازت الكاتبة الفرنسية من أصل مغربي ليلى سليماني، بجائزة “غونكور” عن روايتها “أغنية هادئة” 2017، وهي المرأة العربية الوحيدة التي نالت الجائزة بعد الطاهر بن جلون عام 1987، وأمين معلوف عام 1993، اهتمت الأوساط الثقافية الغربية والعربية في آن معا بفوزها، وهو ما كان له الأثر الجلّي على ترجمة عملها الفائز إلى العربية سريعا بتوقيع محمد التهامي العماري، وصدر عن المركز الثقافي العربي. لكن هذا الفوز يجب أن يطرح أسئلة من قبيل: ماذا قدمت سليماني للغرب؟ وماذا وجد الغرب من ثيمات مختلفة في كتاباتها؟ وإن كان السؤال الذي يسبق الجميع ما القضايا التي يطرحها الأدب العربيّ باللغات الأخرى في ظل اطراد هذه الكتابات في السنوات الأخيرة، وأيّ هوية يحمل، هوية بلد المنشأ أمّ بلد المستقر؟
القضية التي تطرحها الرواية، وهي قضية النساء العاملات والمربيات، واحدة من قضايا العصر الراهن والتي هي نتاج توغل الرأسمالية وفرض آلياتها التسويقية على نمط الحياة، فصارت المجتمعات استهلاكية وشخصياتها منزوعة العاطفة. فتبدأ الكاتبة روايتها هكذا بحسّ بوليسي “توفي الرضيع. لم يستغرق موته سوى بضع ثوان. أما الطفلة الصغيرة، فكانت لا تزال حيّة عند وصول النجدة، دافعت عن نفسها بشراسة” هكذا تدخلنا السَّاردة في الحكاية مباشرة، وهي حادثة وقعت في عمارة أنيقة في شارع هوتفيل بالدائرة العاشرة.
اكتشاف هذه الحادثة كان مصادفة للأمّ التي جاءت مبكّرة وهي تُجهِّز في عقلها للخروج بالأطفال، لكن ما إن تصل إلى الشَّقة تكون الحادثة أمامها. بعد هذا الاستهلال الذي هو بمثابة خبر وتلخيص لحكاية مُفجعة، وهو ما يدفع بالبحث عن الأسباب والدوافع، وما وراء هذه الجريمة البشعة؟ تقودنا الكاتبة إلى حكاية الزوجين بول ومريم. وهي حكاية لا تقفُ عند المكان بؤرة الحدث، بل تستدعي حوادث متكرِّرة خاصّة في المجتمعات الحديثة التي أخذت بأهداب الرأسمالية والحداثة في نهجها الحياتي، كما في دول الخليج على سبيل المثال، وقد صار جحيم الخادمات والمربيّات أزمة حقيقية لا تضاهيها أزمة، ولا تقتصر أخطاره على الأضرار النفسيّة والجرائم الجسمانية على الأبناء التي يكتشفها الأهل بالصّدفة، وإنما تذهب إلى تفكيك أواصر الأسرة حيث زواج السّيد من مخدومته، ثمّ الكارثة في عدم الاعتراف بالأبناء في ما بعد، على نحو ما رأينا في رواية “ساق البامبو” للكويتي سعود السنعوسي وغيرها من أعمال توسّعت في مناقشة أزمة الهويات.
لا تقف الرواية عند هذه النقطة الضيقة، وإنما توسِّع من الرؤية لتسلُّط الضوء على مجتمع الرواية الذي تدور فيه الأحداث، وهو مجتمع مديني بامتياز أفراده لاهثون – بل أَسرى – خلف طموحاتهم، ولو تخلّوا عن واجباتهم الأساسيّة في سبيل تحقيقها. لذا تُصبح رواية “أغنية هادئة” تجسيدا للواقع المتأزّم والمتشابك والمتصارع، والذي طَغى على مشاعر الإنسان وأسبغه بصفات الآلة. الغريب أنهم لا يملكون رفاهية الاستغناء عنه والعودة إلى الطبيعة، بل على العكس تماما فهم يبالغون في ملاحقته. ومن ثمّ تسيطر الأنانية على أفراده. وهذه الحالة هي ثمار الرأسمالية المتفشيّة، فوالدا بول يُسافران دون إخباره في رحلة لأسبوعين إلى آسيا، وهو ما يُربك حياته الأسرية. ومن ثمّ صار وجود طفلين في ظلّ هذه الحاجة الماسّة إلى عمل الزوجين لسدّ رمق الحياة، يمثّل أزمة حقيقة للعائلة.
الرواية تمسُّ موضوعات آنية وتُنذر نتائجها أو التراخي في علاجها بعواقب وخيمة، حيث الهجرة غير الشرعيّة وحالات الخوف التي تنتاب المهاجرين من اللجوء إلى الشرطة إذا حدثتْ كارثة داخل مكان العمل، لخشيتهم من الملاحقات الأمنية. ومن ثمّ كانت خيارات أسرة مريم وبول باستبعاد المهاجرين السّريين، وشملت قائمة المستبعدين المربيّة الطاعنة في السّن والمدخنة والمحجّبة. كان خيار الأسرة هو اختيار امرأة تعمل بجد “لنستطيع أن نعمل بجد أيضا” كما تطمح الأسرة. في إحدى مراحل هذه العلاقة بين المربية ومشغليها، صارت لويز لا غنى عنها في البيت. فصارت الأم أشبه بالطيف لها حضور حميمي لكنه غير مرئي. حتى راحت المربية لويز “تبني عُشها بأناة داخل الشقة”.
بدأت لويز تتسلّل إلى العائلة في مقابل انسحاب مريم من محيط العائلة، ومن هنا تأخذ الساردة في تتبع هذه الاختراقات والتوغلات التي صارت عليها شخصية لويز، وتأثيرها الكبير على الطفلين إلى درجة التواطؤ كما في حالة الطفلة ميلا. فُتور العلاقة بين الزوجين بسبب مشاغلهما التي أنستهما مرور الشتاء، قابله تحقّق الطموحات؛ فصارت الحياة سلسلة من الأعمال والالتزامات والمواعيد التي لا ينبغي التأخّر عنها. وقد صار كل واحد منهما مديرا لشركة. حتى أن بول للمرة الأولى يرى فيها “حياته على مستوى تطلُّعه وحيويته المتقدة”.
جرس إنذار
يذهب السَّرد في البعض منه إلى حياة أسرة لويز وزوجها جاك ونهايته المؤسِّفة بعد حادثة وضعها النبيذ في الطعام، ثم الديون التي ورثتها عنه، وبالمثل ابنتها ستيفاني التي جاءت إليها فجأة، ونبتت “كفطرٍ على قطعة خشب رطبة” ثمّ حجز البنك على شقتها الصغيرة. وغيرها من الأمور التي لم تَسْترعِ انتباه أسرة مريم وبول عندما وقع الاختيار عليها لتكون هي المربيّة للطفلين.
الزمن في الرواية موظِّف بطريقة ماهرة، فالرواية التي تبدأ بالحادثة ثمّ تأخذ في الارتداد إلى الخلف، وبينما يستمر السَّرد في علاقة هذه المربيّة بأسرة مريم وبول، لكن ثمَّة تقاطعات لزمن أسبق قد يصل إلى مرحلة عمرية كانت فيها لويز في الخامسة والعشرين من عمرها، وعلاقتها بصاحب العمل الرّسام وأمه العاجزة التي كانت تنام إلى جوارها، ثمّ حملها والذي سعى (م. فرانك) لمعرفة من المسؤول عنه. ثم يعود الزمن إلى الماضي خاصة في علاقتها بوفاء التي تلتقيها في حديقة تجتمع فيها المربيات مع الأطفال. وتكشف حكاية وفاء جزءًا من حكايات الهجرة غير الشّرعيّة والتحايلات التي يسعى إليها البعض من أجل الوصول إلى الإقامة كالزواج الوهمي الذي سعت إليه وفاء من يوسف من أجل الأوراق.
حكاية وفاء لا تقف عندها وإنما هي تمثيل لواقع عربي مفجع طارد لأبنائه، وغرب فارق صفته الأولى التي تجسّدت في أدبياته حيث كان الحُلم أو الفردوس؛ ليصبحَ الملاذ الآمن. فوفاء هربت من الدار البيضاء، بفضل عجوز كانت تدلكه في أحد الفنادق في الدار البيضاء. ومع حالة الاغتراب التي يعيش فيها هؤلاء المهاجرون وبحثهم عن ملاذ آمن، وربما كان البحث أحد أسباب اضطراب الشخصية، إلا أنّ المقابل المخدوم في ظلّ لهاثه خلف أطماعه. لا يُفكِّر في خادمه على أنه إنسان، يمرض ويحتاج إلى الراحة، وإنما مجرد آلة منزوعة المشاعر تنفذ الأوامر دون اعتراض أو تذمّر.
الرّواية تبدأ من النهاية، من حادثة القتل، ثم تعود الساردة بالأحداث إلى الخلف عبر تقنية الفلاش باك، وتسرد حكاية هذه العائلة الصغيرة، وكيف بدأت الزوجة تتخلّص من سأمها وضغط هذه الحياة الرتيبة بأن استجابت ربة البيت إلى اقتراح صديقها في الجامعة باسكال لأن تُمارس مهنة المحاماة. وهو ما استدعى التفكير في مربية تجلس مع الطفلين آدم وميلا، وبعد اختيارات عديدة استقرت الأم على لويز التي وقعت في غرامها من النظرة الأولى.
فكما تقول مريم “مربيتي ساحرة، لا بدّ أنها تمتلك قدرات خارقة. فقد استطاعت أن تغيّر هذه الشّقة الخانقة الضيقة إلى مكان هادئ ومشرق أو إلى بيت برجوازي حقيقي”. ما يلبث هذا الإعجاب أن يتحوّل إلى ثقة، فصارت لويز وكأنّها “ترعى أحلام مريم في أسرة مثالية”، ومع تقدّم مدّة العمل راحت توسُّع من صلاحياتها فتنقل أشياء من أماكنها، ولكن براعتها كانت في الطعام الذي أبهر الجميع حتى جعل مريم تدعو أصدقاءها إلى البيت، وتقول بكل فخر “إنّ المربية هي مَن أعدت كلّ شيء” تأثيرها الأهم هو في ترويض الطفلة ميلا. مع السّعي إلى تحقيق الرغبات تطلّب الأمر وقتا أطول تقضيه مريم خارج البيت، خاصة وقد منحت الثقة لمربيتها، التي في ظلّ غياب الأم أخذت سلطات جديدة لم تكن في اختصاصاتها، لدرجة أنها حلّت محل الأم في أحد اجتماعات أولياء الأمور بالمدرسة. هكذا تتحوّل الأسرة إلى ضحية إلى هذه المربية.
الرّواية أشبه بجرس إنذار بعدما طغت الحياة السّريعة والمتجردة من المشاعر، فآفة هذا العصر أن كل الأطفال مهملون “بينما يجري الآباء خلف طموحاتهم”، كما تدق جرس الإنذار على حالة التغريب التي يسعى إليها المهاجرون، والرغبة في الذوبان في المجتمعات الجديدة حتى ولو كان بالتحايل..
كاتب مصري
صفحات سورية ليست مسؤولة عن هذا الملف، وليست الجهة التي قامت برفعه، اننا فقط نوفر معلومات لمتصفحي موقعنا حول أفضل الكتب الموجودة على الأنترنت
كتب عربية، روايات عربية، تنزيل كتب، تحميل كتب، تحميل كتب عربية
لتحميل الرواية من الرابط التالي
أو من الرابط الثاني