معركة القراءة والحساب: عن التعليم في الشمال السوري/ مصطفى أبو شمس
يتلعثم أحمد، الطالب في الصف الثامن الإعدادي، وهو يقرأ بضع جمل سهلة اختارها له والده من كتاب مخصص لطلاب الصف الخامس الابتدائي، إذ يقوم بتهجئة الحروف ليتمكن من استكمال قراءة الكلمات، ودون مراعاة التشكيل أيضاً. كما أنه لا يجيد معظم العمليات الحسابية التي تضم «ثلاث خانات»، وهو ما دفع والده إلى «إخراجه من المدرسة للحصول على مساعدته في محل الخضار الذي يملكه»، مُحمِّلاً المسؤولية «للواقع التعليمي المتردّي الذي يعيشه أبناء الشمال السوري، في ظل الظروف التي عاشوها والانقطاع عن المدارس لفترات طويلة وعدم توفر الكتب، وازدحام الصفوف» على حدّ قوله.
حال الطالب أحمد مشابهٌ لحال أكثر من نصف الطلاب في الشمال السوري، وذلك بحسب استبيانات أكّدت أن 50% منهم يعانون من «التأخر في القراءة والعمليات الحسابية». ومع بداية العام الدراسي الجديد، تبدو الأعباء الملقاة على عاتق الجهات المعنية بسير العملية التعليمية في مناطق شمال غرب سوريا الخارجة عن سيطرة النظام كبيرة جداً. فعلى الرغم من الاستقرار الذي شهدته هذه المناطق مع تطبيق اتفاق الهدنة الأخير، وهو الأمر الذي يفترض أن يجعل سير العمليات التعليمية أكثر انتظاماً، إلا أن التحديات تتصاعد بتزايد عدد الطلبة والتوجه نحو التعليم من قبل السكان، الذين يزيد عددهم عن 5 ملايين نسمة، بينهم أكثر من 600 ألف طالب في المراحل التعليمية المختلفة.
وتتمثّل أبرز التحديات في عدد الطلاب الكبير جداً بالمقارنة مع عدد المدارس العاملة والمجهزة في المنطقة، وذلك بسبب الدمار الكبير الذي لحق بهذه المدارس وبنيتها التحتية جرّاء الحرب، وقلة الموارد المالية، وتوقف الدعم عن كثير من المدارس خاصة في إدلب وحماة، وهو ما أدى إلى إغلاق عدد منها ويهدد بإغلاق المزيد. يضاف إلى ذلك ضعف رواتب الكادر التدريسي، وانقطاع الطرق نحو مناطق النظام منذ أربعة أشهر، وهو ما يحول دون قدرة المدرّسين على استلام رواتبهم من مديريات التربية التابعة للنظام، التي ما زالت تقدم رواتبَ للعدد الأكبر من معلمي هذه المناطق. ويضاف إلى ذلك أيضاً توقف الدعم لطباعة الكتب، وعدم وفرتها في المدارس، وشبه انعدام الدعم من المنظمات الدولية كاليونيسيف، ونقص القرطاسية والحقائب والوسائل التعليمية.
تتباين المشكلات وتختلف مستوياتها بتعدد الجهات الداعمة والجهات المسيطرة على الأرض، وسيحاول هذا النص تقديم صورة شاملة عن وضع العملية التعليمية في مجمل هذه المناطق، وذلك باستثناء منطقة عفرين والأرياف التابعة لها، نظراً لصعوبة الحصول على المعلومات بسبب غياب الاستقرار في تلك المناطق، وعدم وجود دراسات أو معلومات موثقة من أي جهة حول واقع التعليم فيها منذ خروجها من سيطرة قوات سوريا الديمقراطية في آذار الماضي، وانتقالها إلى سيطرة فصائل مسلحة مدعومة تركياً، وسيتم الحديث عنها لاحقاً في تقرير منفرد.
الأبنية المدرسية (البنية التحتية والخدمات والوسائل التعليمية)
كان بيان أصدرته اليونيسيف في نيسان الماضي قد قال إن واحدة من كل ثلاث مدارس في سوريا قد خرجت عن الخدمة، وذلك بسبب القصف أو تحويل هذه المدارس إلى ثكنات أو مقرات عسكرية أو أمنية أو مراكز إيواء للنازحين. وبحسب تقرير العام 2018 الذي أصدرته وحدة تنسيق الدعم، فقد سجّلت المناطق الخاضعة لسيطرة فصائل درع الفرات في شمال وشمال شرق حلب أعلى نسبة للمدارس العاملة من بين المدارس الموجودة أصلاً فيها، بلغت 198 مدرسة من أصل 206 مدارس بنسبة 96%، موزعة على 3 مناطق و9 نواحٍ و198 قرية، كلها تتبع لمكاتب التربية في المجالس المحلية، التي تشرف عليها وتدعمها الحكومة التركية، كما أن 92% من الغرف الصفية في هذه المدارس مجهزة بشكل معقول.
أما في محافظة إدلب وريف حلب الغربي، فقد بلغ عدد المدارس العاملة 1434 مدرسة من أصل 1713 مدرسة، أي بنسبة 84% موزعة على 10 مناطق و37 ناحية و610 قرى. إضافة إلى 44 مدرسة لـ 169 مخيم في إدلب، 13 منها فقط إسمنتية بينما الباقي بأسقف توتياء أو خيم أو صيوانات أو كرفانات، وهي تتبع للحكومة المؤقتة أو المنظمات الداعمة وأهمها منظمة كومينكس.
أما في ريف حماة الشمالي الخارج عن سيطرة النظام، فثمة 182 مدرسة عاملة، 106 منها يتقاضى معلموها رواتبهم من حكومة النظام فيما تشرف الحكومة المؤقتة على سير التدريس فيها، و76 مدرسة تتبع لمديرية التربية الحرة في المحافظة، بحسب مدير تربية حماة الحرة أحمد الهكوش.
وتشترك معظم المدارس في الشمال السوري بنقص البنى التحتية والوسائل التعليمية، إذ تحتاج 1153 مدرسة للترميم، و19% من مقاعدها للاستبدال، وتحتوي 1% منها فقط على مخابر فعالة و2% على مخابر مجهزة بشكل جزئي، و20% على مخابر غير مجهزة، والباقي بدون مخابر. بينما تحتوي 3% منها على مكتبات فعالة و5% على مكتبات مجهزة بشكل جزئي، و23% على مكتبات غير مجهزة، والباقي بدون مكتبات. وتحتوي 1% منها فقط على قاعات حاسوب. في حين تعاني 50% من هذه المدارس من وجود حمامات غير صالحة للاستخدام، و45% منها تعمل على حُفر «جور فنية» للتصريف الصحي، في حين يعاني 9% من التصريف الصحي في العراء. وتحصل 66% من هذه المدارس على المياه للشرب بواسطة صهاريج، و22% عن طريق الشبكات العامة، و3% من الآبار الجوفية القريبة، و9% تؤمن المياه عن طريق الحمولة «الغالونات»، لتكون النتيجة أن أكثر من 30% من الطلبة يحصلون على المياه بواقع أكثر من 100 طالب لكل صنبور فقط. بينما تعاني 92% من المدارس من نقص في الوقود اللازم للتدفئة خلال الشتاء.
يوجد عدد من المدارس التي ما زالت تُستخدم كمراكز إيواء في حماة، وسيتم تسلّمها من قبل مديرية تربية حماة الحرّة بعد توفير السكن البديل. بينما يبلغ عدد هذه المدارس ستة فقط في إدلب (مدينة إدلب ومعرة النعمان) وثلاثة في مدينة إعزاز (تُستخدم كمقرات أمنية ومحاكم)، وتعمل المديريات على إنشاء مدارس جديدة بحسب الحاجة. «في كل يوم نعمل على إنشاء مدارس في حماة» كما يقول مدير المجمع التربوي في حماة خالد الفارس، في حين سلّم المكتب التعليمي في إعزاز «محاضر» لمهندسين أتراك، ستقام عليها ثلاث مدارس لتخفيف الضغط.
على صعيد توافر القرطاسية والسبورات والحقائب وبعض الوسائل التعليمية، تتباين الأوضاع بوضوح بين مناطق سيطرة فصائل درع الفرات شمال وشمال شرق حلب، وبين مناطق محافظة إدلب وريفي حلب الغربي وحماة، ويعدُّ واقع المدارس والخدمات فيها في ريف حماة الشمالي هو الأسوأ في الشمال السوري، إذ تتكفل المنظمات العاملة في المنطقة بدعم 26 مدرسة فقط من مجمل المدارس، بواقع 9 مدارس تدعمها منظمة قبس، و7 مدارس تدعمها منظمة مرام، و3 مدارس تدعمها منظمة مجد الشام، و4 مدارس تدعمها منظمة سيريا ريليف، و3 مدارس تدعمها منظمة بناء الإنسان، إضافة إلى تقديم بعض اللوازم المدرسية من منظمة اليونيسيف في مدرستين فقط (كفرنبوده وكفرزيتا) وتقديمها للسبوّرات في مدرسة قسطون. ويقتصر دور مديرية التربية والمجمّعات التربوية على الإشراف بحسب خالد الفارس، الذي يضيف أن «تأمين بعض الخدمات يتم عبر المجالس المحلية وأهل الخير من خلال حملات لدعم هذه المدارس».
وفي إدلب تعمل مديرية التربية الحرّة على توقيع مذكرات تفاهم مع المنظمات الداعمة، لتوجيهها نحو المناطق «الأكثر تضرراً واحتياجاً»، و«حتى لا ينحصر الدعم بمنطقة واحدة أو مدارس محددة» بحسب مصطفى حاج حسين مدير دائرة الإعلام في مديرية تربية إدلب الحرّة، الذي أضاف أن المديرية عملت على ترميم «بعض المدارس» وإعطاء «منح صغيرة» لها، لتأمين «جزء من احتياجات الوقود، وبعض القرطاسية».
الواقع في مناطق درع الفرات بدا أفضل على هذا الصعيد، إذ تُعدُّ البنى التحتية «جيدة» في مختلف المدارس، وتم الانتهاء من ترميم قسم كبير منها بشكل كلي، وبعضها بشكل جزئي (في إعزاز وحدها تم ترميم 10 مدارس بشكل كلي و5 بشكل جزئي). ويتم تلبية جزء من احتياجات الطلبة من القرطاسية والحقائب المدرسية بواسطة منظمات تابعة للحكومة التركية، أو من خلال دعم منظمات وقّعت «بروتوكولاً مع الحكومة التركية». أما عن الوقود، فقد تسلّمت المدارس في مناطق درع الفرات «مخصصاتها عن العام السابق من قبل الحكومة التركية في وقت متأخر، ولم يوزّع على المدارس وقتها، وهو ما أدى إلى توفّر الوقود والمدافئ والمعدات اللازمة لتوزيعها في العام الحالي، مع وعود بتسليم مخصصات هذا العام في وقتها»، وذلك بحسب نوري السيد علي معاون رئيس المكتب التعليمي في المجلس المحلي في مدينة إعزاز، الذي أضاف أن «التعاون يجري بين مكاتب التربية والمجالس المحلية التي توفر مياه الشرب وبعض الإصلاحات وأجور حمولة ونقل المعدات واللوازم».
الطلاب في الشمال السوري، ضغط عددي وتسرب دراسي ونواقص بالجملة
تزايد عدد الطلاب في مطلع العام الدراسي الجاري بسبب عودة قسم كبير من الأطفال إلى المدارس نتيجة تراجع العمليات العسكرية، وبسبب النزوح الداخلي وعمليات التهجير القسري نحو الشمال السوري، إضافة إلى عودة كثير من الأهالي إلى قراهم وخاصة في ريف حماة. وقد تسبب هذا بضغط كبير على الغرف الصفية التي يزيد عدد الطلاب في بعضها على خمسين طالباً، بمتوسط عام يبلغ 45 طالباً في الغرفة الواحدة، وهو ما يترك آثاره السلبية على سير العملية التعليمية، إذ يعاني أكثر من 50% من الطلبة من صعوبة في القراءة والعمليات الحسابية، وهو ما يضيف أعباءً كبيرة على المدرسين، تتعلق بتحديات إيصال المعلومة ومشاركة الطلاب في الحصة الدرسية ومراعاة التباين الكبير في سويّات الطلاب في الصف الواحد.
ويبلغ عدد الطلاب الملتحقين بالدراسة في محافظة إدلب وريف حلب الغربي 437293 طالباً وطالبة، 71% منهم في المرحلة الابتدائية، بينما يبلغ عددهم في مناطق درع الفرات 76214 طالباً وطالبة منهم 84% في المرحلة الابتدائية، وما يزيد عن 25 ألف طالب وطالبة في ريف حماة، و55 ألف طالب في مخيمات إدلب، ومثلهم تقريباً من المهجرين قسرياً من سائر أنحاء سوريا، منهم 28513 طالباً وطالبة من غوطة دمشق في محافظة إدلب وحدها.
وأظهرت دراسة وحدة تنسيق الدعم أن 98% من الطلبة لا يتلقون وجبات غذائية، و60% من المدارس لا تحتوي على وسائل تعليمية، و63% من المدارس لا يحصل طلابها على الكهرباء. كما لا يحصل معظم الطلاب على حقائب مدرسية أو قرطاسية، ونظراً للظروف الاقتصادية التي يعاني منها السكان، ترك كثيرٌ من الطلاب مقاعد الدراسة لعدم قدرة أهاليهم على تحمل الأعباء المالية.
وجاء في تقرير اليونيسيف أن 2.8 مليون طفل سوري حرموا من التعليم خلال سنوات احرب، بينما نشر موقع أنا برس في شباط 2018 إحصائية قال إنها تمت بالتعاون مع وزارة التربية والتعليم في الحكومة المؤقتة، وتظهر أرقاماً صادمة تخصّ عدد المتسربين من المدراس في الشمال السوري، والذي يبلغ 375470 طالباً وطالبة في إدلب، و106616 في حلب، و5460 في حماة، فيما أكدت دراسةٌ نشرها موقع العربي الجديد أن 60% من أطفال المخيمات «يتسربون من التعليم».
ولا تُطبّق قوانين «التسرب» من المدارس في كافة مناطق الشمال السوري، ولا تُقدّم بحق الأهالي بلاغات ولا تُطبق غرامات مالية بحقهم. يقول خالد الفارس: «القوانين موجودة ولكن تطبيقها صعب لعدم وجود قوى وهيكلية واحدة في هذه المناطق»، بينما يرى نوري السيد علي «أنه لا يمكن تطبيق المخالفات بحق الأهالي في الوقت الحالي»، وذلك لأسباب كثيرة منها «عدم قدرة المؤسسات المسؤولة على التكفل بمتطلبات الطالب المادية في ظل الظروف الاقتصادية التي يعاني منها الأهالي، وانخراط الطلاب في سوق العمل لمساعدة عوائلهم». يضاف إلى ذلك «ضعف التحصيل العلمي، والمصير المجهول للتعليم في سوريا من حيث الاعتراف بالشهادات» كما يقول أحمد سعيد، والد أحد الطلبة الذين التقينا بهم. بينما ترى السيدة منى، وهي أم لطفلين تركوا المدرسة وزوجة شهيد: «أن الطعام أولى من التعليم، في ظل غياب المنظمات التي تكفل العوائل اليتيمة والفقيرة، وضعف المستوى الاقتصادي الذي يعيشه الأهالي».
قدّمت بعض المنظمات الإنسانية وخاصة في مناطق درع الفرات «بعض الحاجات الأساسية من لباس وأحذية وحقائب وقرطاسية» لعدد من الطلبة، في حين تكفلت منظمة بنفسج وتكافل الشام بأكثر من 15000 طالباً في إدلب، إلّا أن مئات الأطفال في الشمال السوري، يعانون من نقص حاد في اللوازم المدرسية التي يصفها أبو أسعد، والد أحد الطلبة في ريف حلب الغربي، بـ «الباهظة»، فثمن أي حذاء جيد يزيد عن 5000 ليرة سورية، ناهيك عن اللباس الذي يتجاوز سعره 10 آلاف، والحقيبة الجيدة التي يصل سعرها إلى 10 آلاف، والقرطاسية من أقلام ودفاتر وألوان وغيرها من المستلزمات التي تُستهلك بشكل شهري، والتي تزيد كلفتها عن 10 آلاف، وهكذا فإن من لديه ثلاثة أطفال في المدرسة يحتاج شهرياً إلى 30 ألف كحد أدنى لتأمين متطلباتهم المدرسية، وهو أمر فائق الصعوبة نظراً لأحوال السكان.
تقوم مديريات التربية بالتعاون مع المدارس والمجالس المحلية بحملات للتوعية، ولترغيب الطلبة بالعودة بشكل طوعي إلى مقاعد الدراسة، من خلال شرح أهمية التعليم ودوره في الحياة، في حين قامت مديرية تربية إعزاز بفتح مركزين لتعليم المنقطعين عن الدراسة في المدينة، واستطاعت استقطاب 300 طالب وطالبة، وتأمين منهاج مكثّف لهم بمدرسين أكفاء لتعويضهم عن النقص في المعلومات، وإلحاقهم بأقرانهم من الطلبة النظاميين. كما قامت مديرية تربية إدلب بمشاريع منها مشروع التعليم المسرّع في الفترة الصيفية، وذلك لمساعدة الطلبة الذين يودون الالتحاق بزملائهم من فئاتهم العمرية، وتعويض نقص المعلومات لديهم.
كذلك قامت مديريات التربية باستقبال الطلبة الوافدين من مهجرين ونازحين، بعد التأكد من أوراقهم الثبوتية (التعليمية والشخصية)، وفي حال عدم توافرها يتم إجراء سبر معلومات للطلبة، لإلحاقهم بالمدارس بحسب فئاتهم العمرية ومستواهم الدراسي.
لا توجد مدارس مختصة بالطلبة من ذوي الاحتياجات الخاصة، إلا أن 43% من مدارس إدلب تستقبل هؤلاء الطلبة «بحسب نوع الإصابة»، فيما 1% فقط من هذه المدارس لديها كوادر مختصة للتعامل مع هذه الفئة. يقول مصطفى حاج حسين: «لا يوجد مدارس مخصصة بذوي الاحتياجات الخاصة، إلا أن مديريات التربية أطلقت مشروع التعليم الدامج، لدمج ذوي الاحتياجات الخاصة مع أقرانهم، وتوفير المناخ التدريسي لهم، وتواصلت مع المنظمات المعنية، وأقامت عدة مؤتمرات وندوات واجتماعات مع منظمات المجتمع المدني التي تُعنى بالتربية، وجمعت الاقتراحات لمواجهة المشاكل وتذليل العقبات بشأنهم».
الأمر نفسه نجده في مديرية تربية حماة، أما في مناطق درع الفرات فلا تستقبل المدارس ذوي الاحتياجات الخاصة، وتم التعاون مع مديريات التربية لدعم بعض المراكز الخاصة كمركز الصم والبكم في مدينة الباب، الذي يضم 30 طالباً وطالبة في ظروف من غياب الدعم تقريباً. فيما ينتظر أكثر من 200 طفلاً من الصم والبكم (في مدينة الباب وريفها) وجود مراكز خاصة لتعليمهم. وتوجد بعض المنظمات التي تعمل على استقبال ذوي الاحتياجات الخاصة، وتقديم الخدمات اللازمة لهم من قبل مختصين بالتعليم والتحصيل الدراسي، ولكن بأعداد قليلة.
المعلمون: انقطاع الدعم وقلة الرواتب وإضرابات واستقالات
كان تقرير وحدة تنسيق الدعم قد أوضح أن 79% من المعلمين مؤهلون (حاصلون على شهادة جامعية أو معهد)، بينما يتم رفد العملية التعليمية بـ 21% من مزاولي المهنة من الوكلاء (الحاصلين على شهادة التعليم الثانوية أو الإعدادية، أو الحاصلين على شهادات جامعية في اختصاصات غير التعليم، كالهندسة والاقتصاد). كذلك بينت الدراسة أن 46% من المعلمين يتلقون رواتبهم من النظام، و27% من الحكومة المؤقتة، و19% من المنظمات، بينما يعمل 8% منهم كمتطوعين بلا رواتب.
تغيّر الحال مع بدء العام الدراسي الجديد في الشمال السوري باستثناء مناطق سيطرة فصائل درع الفرات وتركيا، وذلك بسبب انقطاع رواتب أعداد كبيرة من المدرّسين في ريف حلب الغربي وإدلب وريفها وريف حماة الشمالي. وكان 1994 شخصاً من الكوادر التعليمية في حماة و7000 في إدلب، يتلقون رواتبهم من قبل النظام، ونظراً لإغلاق المعابر لم يتمكن أي منهم من استلام رواتبه عن الأشهر الأربعة الأخيرة. بينما توقفت رواتب 8000 معلم في محافظة إدلب، كان 4300 منهم يتلقون رواتبهم من مديرية التربية الحرّة، و3700 من منظمات إنسانية تُعنى بالتعليم، وذلك بعد أن توقف دعم منظمة كومينكس والمنظمات الأخرى الداعمة للمدرسين في المنطقة، في حين توقف الدعم عن 310 معلمين يتبعون لمديرية تربية حماة الحرة. ويعمل في إدلب اليوم 6000 متطوع، وفي حماة 407 متطوعين، بدون رواتب.
أدى توقف الدعم إلى ترك شواغر كبيرة في المدارس بسبب «ترك كثيرٍ من المعلمين لوظائفهم» للبحث عن عمل لإعالة أسرهم، وكان المعلم يتقاضى راتباً وقدره 120 دولاراً للجامعي و100 دولار لخريج المعهد. وعلى الرغم من عدم تناسب هذه المرتبات مع الغلاء المنتشر، إلّا أنها كانت تحقق دخلاً ثابتاً، واستقراراً نسبياً في العملية التعليمية بكوادرها التدريسية.
يقول مصطفى حاج حسين «إن الجهة الممولة لمؤسسة كومينكس أوقفت الدعم عن مديرية تربية إدلب الحرة (الذي كان يُقدَّمُ على شكل عقود لثمانية أشهر دون رواتب في العطلة الصيفية) بحجّة تبعيتها لحكومة الإنقاذ (المحسوبة على هيئة تحرير الشام)، منذ بداية العام الدراسي 2018» رافضاً هذه الاتهامات، ومؤكداً «أن المديرية تنتمي للطالب والمعلم والصف والمقعد، وليس لأي جهة سياسية»1.
- تم تأسيس مديريات التربية الحرة ومكاتب التربية في المجالس المحلية، في المناطق الخارجة عن سيطرة النظام، من قبل المعلمين والتربويين، لتكون بديلاً عن مديريات التربية التابعة للنظام، وقد مرّ عملها بمراحل متعددة من حيث التنظيم والإدارة، ورغم تعدد وتغير الجهات المسيطرة عسكرياً على الأرض، إلا أنها حافظت على مستويات جيدة من استقلايتها في العمل، ويحتاج النظر في هيكلياتها وتبعيتها ومصادر تمويلها إلى بحث مستقل.
الحال في مديرية تربية حماة مطابق تماماً، إذ توقف الدعم عن المديرية وعن كوادرها بما في ذلك العاملون في مديرية التربية والمجمع التربوي وليس المدرسين فقط، وهو ما أدى في العام الماضي إلى ترك أكثر من 200 مدرس لوظائفهم وإغلاق بعض المدارس، وفي العام الحالي بحسب خالد الفارس «الوضع أكثر سوءاً، والمدارس مهددة بالإغلاق وحرمان الطلاب من التعلم».
وتعمل مديريات التربية على رفد المدارس بالوكلاء لتغطية الشواغر، من قبل المتطوعين، إلّا أن هذا «الحل لن يجدي نفعاً، فلا يمكن إجبار المتطوع على العمل»، ولا «أحد يعمل بدون رواتب في ظل انعدام مصادر الدخل الأخرى»، ومع «إغلاق المعابر» فقد القسم الأكبر من المعلمين الذين تعتمد عليهم المديرية، والذين يشكلون القسم الأكبر من عدد المدرسين، رواتبهم، ما سيؤدي إلى خلل كبير في العملية التعليمية.
في مناطق درع الفرات، وعلى الرغم من الاستقرار الذي يحصل عليه المدرس، في ما يخص الرواتب الممنوحة من قبل الحكومة التركية، إلّا أن المعلمين يعانون من ضعف الرواتب بعد تراجع سعر صرف الليرة التركية في الأشهر الأخيرة، إذ حددت الحكومة التركية راتب المعلم بـ 500 ليرة تركية (ما يعادل بحسب سعر الصرف الحالي 40 ألف ليرة سورية) والمستخدم بـ 400 ليرة تركية (حوالي 32 ألف ليرة)، مع العلم أنه لا يوجد في المنطقة معلمون يقبضون رواتبهم من قبل النظام، وإن اكتشف أمر أحدهم يتم اتخاذ عقوبة الفصل بحقه.
لا تفي الرواتب المعطاة للمدرسين في مناطق درع الفرات بالغرض، كما تمنع القوانين التي يتم التوظيف على أساسها المعلمين من العمل في وظائف أخرى، ومع ضعف الراتب وغلاء الأسعار بدأ معلمو هذه المناطق بالتململ، وهو ما أدى إلى استقالة أعداد منهم، أو أخذهم لإجازات طويلة بلا راتب (ستة أشهر)، وهو ما ترك فراغات وشواغر في المدارس وبكافة الاختصاصات، تم تعويضها عبر نظام الوكلاء الذين يتم اختيارهم بحسب القدم والشهادة التي يمتلكونها من قبل المكاتب التعليمية، إذ «لا يوجد نظام لتعيين الوكلاء عبر مسابقات في التربية التركية»، بحسب نوري السيد علي.
ويرى عبد الله نعسان (مدير مدرسة في إعزاز) أن ضعف الرواتب «أثّرَ سلبياً على أداء المدرسين، وقدرتهم على العطاء، إذ بات همهم تأمين لقمة العيش، وشغلهم الشاغل البحث عن مصدر دخل جديد، وهو ما انعكس بآثاره النفسية على الطلبة بعد أن غابت الرغبة من قبل المدرس على العطاء، والتحضير للدروس».
وعودٌ كثيرةٌ تلقّاها المعلمون بتحسين رواتبهم، إلا أنها لم تجد طريقها للتنفيذ، ما دفعهم للإضراب والاعتصام أمام بعض مديريات التعليم لإيصال صوتهم إلى المسؤولين، وحثّ مديريات التربية ومن خلفها الحكومة التركية الداعمة للنظر في أوضاعهم، دون جدوى، مع انعكاسات سلبية أدت إلى فصل عدد من المدرسين، والاعتداء عليهم باللفظ واتهامهم بـ «التشبيح»، كما ذكر بعض المدرسين المعتصمين في قرية بزاعة بريف حلب الشمالي الشرقي.
آراء لمدرسين
المدرس أحمد عبد الرحيم يعمل منذ أربع سنوات كمدرس للغة العربية في ريف حماة، وقد قال للجمهورية إنه تقاضى راتباً عن سنتين دراستين فقط خلال السنوات الأربعة الأخيرة، وإنه لم يتقاضى أي راتب منذ السنة الماضية هو وزملاؤه، ما دفع كثيرين منهم لترك صفوفهم والبحث عن عمل.
أما فهد العلي (مدرس فلسفة)، فيعمل الآن في «مكبس للقرميد»، بعد أن ترك المدرسة التي كان يعمل فيها: «لدي ثلاثة أطفال بحاجة إلى الغذاء، وليس لدي دخل آخر، وكل وعود مديرية التربية الحرّة ذهبت أدراج الرياح، وتراكمت علينا الديون، لم يعد هناك دكان أو بائع خضار ولم أستدن منه. كان لا بد من هذا القرار».
في حين قام مهند (مدرس كيمياء) بفتح «دكان صغير» لبيع «الأدوات المنزلية»، بهدف تغطية «نفقاته» بعد أن قرر تقديم استقالته: «عملتُ كل ما أستطيعه، عملتُ متطوعاً لسنتين، وحان الوقت للتفكير بعائلتي. يحزّ في نفسي ما وصل إليه الواقع التعليمي، وكأن دول العالم تريد تجهيلنا عن قصد، وليس في اليد حيلة».
محمد سعيد عرابي (نازح من حمص ويعمل مدرساً للغة العربية في مناطق درع الفرات) قدّم استقالته أيضاً، بعد أن يأس من الوعود الكثيرة: «كل شهر يرجئوننا إلى الشهر الذي يليه، هم يهزؤون بنا». ويضيف أنه لا حلول مقدمة لتحسين الرواتب: «إضافة إلى المصاريف التي يحملوننا إياها، حتى مياه الشرب في المدارس تُقتطع من رواتب المعلمين، ودفاتر التحضير والتوقيع وغيرها من المصاريف» يقول عرابي الذي يلخص حياته «راتبي لا يكفي إيجار بيت، هناك مدرسون من أهالي المنطقة يمتلكون منازل وبعض مصادر الدخل الأخرى، أما نحن النازحون فليس لدينا أي شيء نعتمد عليه سوى رواتبنا، أقل منزل إيجاره 25000 ليرة، وتحتاج لكهرباء أمبير واحد بـ 4000، نسينا التلفاز والبراد والغسالة، نحتاج فقط إلى الإنارة، ناهيك عن الدواء، ومعظمنا يسكن في قرية ومدرسته في قرية أخرى، ما يزيد العبء عليه ومصاريف التنقل»، ليخلص إلى القول «راتبي لا يكفيني فواتير أول الشهر، لتبدأ رحلة البحث عن الطعام والخبز وغيرها من الأشياء».
يشعر عرابي براحة الضمير بعد الاستقالة، يقول «الطلاب أمانة، وفي ظل ظروفنا الحالية لا نستطيع تقديم علم صحيح لهم ونحن منشغلون بأمور الحياة التي تقض مضجعنا».
صفوف بدون كتب، وطلاب لا يجيدون القراءة والكتابة
تعتمد المدارس في الشمال السوري على المنهاج القديم الصادر عن وزارة التربية التابعة للنظام، مع التعديلات التي أجرتها الحكومة المؤقتة في بعض المواد. وقدّمت الحكومة المؤقتة 20% من الكتب للمدارس خلال الأعوام السابقة، فيما يتم الاعتماد على الكتب المستعملة وإعادة تدويرها بنسبة 23%، لتبقى نسبة النقص 57%.
ومع بداية العام الدراسي توقفت المنظمة الداعمة لطبع الكتب، المتعاقدة في الحكومة المؤقتة، عن طباعة الكتب هذا العام، ما أدى إلى نقص حاد في الكتاب المدرسي، وتأثير كبير في العملية التعليمية التي تعاني أصلاً من الضعف على كافة المستويات، إذ وصلت نسبة النقص في بعض مدارس حماة إلى 100%، حيث تخلو بعض المدارس من أي كتاب مدرسي، خاصة في المرحلة التعليمية الأولى. بينما يتواجد في بعض الصفوف من مدارس أخرى في حماة وإدلب 5 إلى 10 كتب لكل 40 طالباً، وهي من الكتب المُعاد تدويرها من الأعوام السابقة، في حين بلغت نسبة النقص في مناطق درع الفرات 50%، خاصة في المناهج التي قررت الحكومة التركية تعديلها (الاجتماعيات واللغة الإنجليزية والتربية الإسلامية)، والتي لم تصل إلى المدارس حتى الآن.
يقول أنور السعيد «توقفت المنظمة التي وعدت بطباعة الكتب لمدة خمس سنوات وعلى نفقتها عن الدعم، إضافة إلى تلف كثير من الكتب المدوّرة، خاصة في المراحل الأولى، وهو ما سبّبَ أزمة ستتفاقم إن لم تتراجع المنظمة عن قرارها». ويوضح السعيد أن نسبة عجز مديرية تربية إدلب عن الطباعة 100%، ولا توجد حلول بديلة، وقد قامت، بحسب مصطفى حاج حسين، دائرة المطبوعات برفع حالة الطوارئ والاستعانة ببعض المنظمات كمشروع الدعم في أطمة لطباعة عدد من الكتب، تم توزيعها على الثانويات في مجمع أطمة الحدودي، بالإضافة إلى إعادة استخدام الكتب القديمة.
مديرية تربية حماة الحرّة لجأت من جهتها إلى المجالس المحلية و«أهل الخير» لتصوير «وحدة أو وحدتين» من بعض الكتب، وعلى نفقتهم الشخصية، ريثما تُحلّ مشكلة طباعة الكتب. بينما اجترح بعض المدرسين حلولاً خاصة بكتابة الدروس على السبورة، أو تبادل الكتب بين الشعب الصفية، أو كتابة ملخصات وتصويرها للطلبة، في حلّ وصفه المدرسون بأنه «قاصر» ولكنه أفضل من «اللاشيء».
ويسبب نقص الكتب المدرسية ضعفاً في سير العملية التعليمية، يتحدث عنه المدرس أحمد: «الكتاب واحد من الوسائل التعليمية المهمة، التي توفر وقت المدرس الذي عليه كتابة النص على لسبورة أو إعادته لمرات كثيرة ليستوعبه الطلبة، وعلى هذا الأساس لن يستطيع المدرس الالتزام بالمنهاج، والخطة الدرسية» كما أن غياب الكتاب المدرسي «يلغي النشاط المنزلي والوظائف، كيف سيحل الطالب الأسئلة دون كتاب»، ثم كيف «سيدرس للمذاكرات والامتحانات»، يتساءل المدرس؟ ليخلص إلى القول: «عدم وفرة الكتاب في السنوات السابقة خلّفت جيلاً غير قادر على القراءة والكتابة بالشكل الأمثل، وغيابه الآن سيُبقي الطالب شبه أمي».
******
تمّ جمع المعلومات والأرقام الواردة في هذا النص من عدة تقارير منشورة هي: تقرير المدارس في سوريا، الإصدار رقم 4 لعام 2018، وحدة تنسيق الدعم، وتشمل العينة المدروسة فيه 4079 مدرسة في 99 ناحية و10 محافظات سورية. وبيان اليونيسيف الصادر في 23 نيسان 2018، خلال مؤتمر بعنوان (دعم مستقبل سوريا والمنطقة). وتقرير نشره موقع أنا برس. وبالإضافة إلى هذه التقارير، ثمة معلومات تم جمعها من خلال تواصل الجمهورية مع مدير تربية حماة الحرة أحمد الهكوش، ومدير المجمع التربوي في حماة خالد الفارس، ومعاون مدير تربية إدلب الحرة محمد الحسين، ومدير دائرة المطبوعات في تربية إدلب أنور السعيد، ومدير دائرة الإعلام في مديرية تربية إدلب الحرّة مصطفى حاج حسين، ومعاون رئيس المكتب التعليمي في المجلس المحلي في مدينة إعزاز نوري السيد علي، ومعاون مدير التربية في مدينة الباب جمعة الكظكاظ، ومدرسين في مديرية تربية أخترين، ولقاءات متعددة مع مدرسين وأهالي بعض التلاميذ والطلبة.
- تم تأسيس مديريات التربية الحرة ومكاتب التربية في المجالس المحلية، في المناطق الخارجة عن سيطرة النظام، من قبل المعلمين والتربويين، لتكون بديلاً عن مديريات التربية التابعة للنظام، وقد مرّ عملها بمراحل متعددة من حيث التنظيم والإدارة، ورغم تعدد وتغير الجهات المسيطرة عسكرياً على الأرض، إلا أنها حافظت على مستويات جيدة من استقلايتها في العمل، ويحتاج النظر في هيكلياتها وتبعيتها ومصادر تمويلها إلى بحث مستقل.
موقع الجمهورية