ذلٌّ وخوف في طوابير الخبز في سوريا/ مروان كيالي
أن تعيش الثورة في منطقة تلفظها بأنواعها المختلفة، هي حكاية معاناة أخرى في بلد تسيطر عليه لغة إلغاء الآخر حتى الرمق الأخير؛ عندها قد تختار ثورتك الخاصة وتمضي في شوارع بلدك لتبحث عن نهاية سعيدة.
بدأت الأمطار تهطل، لكنني لم أدرك ذلك حتى استمعت لصوت قطرات المطر وهي تنقر على أكياس النايلون المحمولة من حولي. لقد تجاوز انتظاري ساعة كاملة بتوقيت دمشق، وما زلت أنتظر حتى أستمتع بأصوات قطرات المطر على الكيس الذي أحمله.
لم أُعِر اهتمامي لاشتداد الظلام فضوء كوة فرن الخبز الخافت يؤنس وحشة المكان وتدافع الأكتاف لم يثن عزيمتي بل زادها إصراراً وقوة.
بدأت أصوات الرعد تشتد، وأصبح هطول الأمطار غزيراً لدرجة أنني لم أعد أرى من حولي، وقد استغل البعض هذا الموقف ليسطو على الأماكن الأمامية في طابور الخبز.
أحاول الثبات مستذكراً ومستهزئاً من مقولات “إن عشت فعش حراً أو مت كالأشجار وقوفاً”، كما أنني أحاول الصمود مستذكراً وساخراً من مقولة “صامدون هنا.. صامدون هنا”.
يصرخ أحد الصامدين مثلي على موظف الفرن، ويطلب منه الاستعجال في تسيير الطابور، وَيأتيه ردٌ بعيد من داخل الكوّة بأن يصبر أو يعود لاحقاً فهذا هو المتاح.
فجأة وعلى مرأى من الجميع تحضر سيارة عسكرية، يركنها السائق بالقرب من باب الكوة المخصص للموظفين، ويتسلل أحد العناصر العسكريين إلى الداخل ثم يخرج مبستماً ومزهواً بهذا النصر الجديد ومعه عشرات ربطات الخبز.
لم يستطع أحد أن ينطق بحرف، فنظرنا جميعنا إلى بعضنا بعضاً، معلنين بإيحاءاتنا أننا جبناء. لكن وبعد أن رحلت السيارة طبعاً، أطلق أحد الصامدين صرخته في وجه الظلم لكنها لم تتعدَ قوله إننا ننتظر منذ ساعات وفجأة يأتي لصوص الدفاع الوطني ليحصلوا على كل الخبز في دقائق، وَيسايرهم بعض الصامدين، ويصمت أغلبهم.
فجأة سمعنا صوتاً أشبه بالانفجار، تلته تحليلات وتنبؤات. قال أحدهم إن هذا صوت الرعد إذ سبقه ضوء البرق، والضوء أسرع من الصوت، محاضرة فيزيائية سريعة ألقاها وصمت. وبعد أن تتالت قوة الأصوات خرج أحد الصامدين عن صمته وقال إن هذا قصف على الغوطة، لكن وعيه المزعوم ما لبث إذ ردد “الله محيي الجيش”.
بدأ الطابور يتحرك، وتسارعت نقرات المطر على أكياس الخبز المحمولة وكان على من حصل على ربطة خبز أن يحميها تحت ثيابه حتى لا ينال المطر منها.
“فراطة يا شباب”، صرخ موظف الفرن أمام الطابور الطويل، وبدا صوته قوياً بعد انحسار الأمطار قليلاً وقد كسر صراخه الهدوء الذي ساد للحظات لأسباب نجهلها.
لقد تدرج سعر ربطة الخبز من 5 ليرات سورية في التسعينيات إلى 15 ليرة سورية بعد عام 2000، ثم ارتفع ليصبح 25 ليرة ثم 35 ليرة وبعدها استقر على سعر 50 ليرة.
افتعل النظام خلال الحرب أزمات تتعلق بالخبز وما زالت حتى هذه اللحظة، وقد استفاد من أحداث دعمت ادعاءاته. فمحصول القمح السوري يستمر بالتراجع إلى أدنى مستوياته، كما أن الجفاف ساهم في انخفاض الغلّة، وليس خافياً على أحد اعتماد النظام في سوريا على استيراد القمح الروسي إذ إن الخطة تهدف إلى استيراد أكثر من مليون طن من القمح، في حين كانت سوريا تصدّر هذا المقدار وأكثر وتنتج نحو 4 ملايين طن سنوياً.
شهدت سوريا أيضاً تجارة الخبز عبر السماسرة، وفي حين يتعذر الحصول على خبز من الفرن تشهد الشوارع السورية عشرات البسطات التي تبيع خبز الأفران، إنما بأسعار تصل إلى 75 ليرة و100 ليرة سورية. رقم ليس بقليل إذا ما قورن بالحاجة اليومية للأسرة والدخل الشهري الضعيف، ويبقى السؤال عالقاً حول كيفية الوصول إلى البسطات.
كل هذه الأحداث كانت تجول في رأسي وقد مللت الانتظار، وأكثرت من التأفف، وقد خطرت في بالي العودة إلى المنزل دون شراء الخبز لكن ضوء كوة الفرن بات أكثر سطوعاً وبدأت الاقتراب أكثر للحصول على ما أطمح إليه… ربطة خبز واحدة لا أكثر.
صوت انفجار جديد، جعل الجميع يتسمّر في مكانه أكثر من أي وقت مضى، ولم تظهر التحليلات سريعاً، لكن مصيرها ذلك. رأى أحد الصامدين أن هذه قذيفة هاون أطلقها الإرهابيون على المنطقة ويبدو أنها قريبة. رد عليه محلل آخر، مشيراً إلى أن هذا صوت الرعد بعد أن افترض أن الضوء الذي سطع فوقنا منذ لحظات هو ضوء البرق. لكن رأياً ثالثاً كان يقول دائماً “الله محيي الجيش”، يقولها بشكل هستيري لدرجة أنني ظننت لو سألته عن أي موضوع؛ سوف يجيب “الله محيي الجيش”.
بؤس وذل وخوف، هي الحال المحتومة لدى انتظارك على أحد طوابير الخبز في سوريا، وقد شكرت اللحظة أنها كانت خالية من أي عراك وهو الذي أصبح عرفاً وتقليداً لدى المجتمع السوري عموماً. لكن سعادتي لم تدم، إذ أتى رجل طاعن في السن ووقف أمامي مخترقاً الصف كله. لم أتعجب من هذه الحال لكن أصبحت الآن مسؤوليتي أن أبدأ العراك المنتظر. كثيرون وبخاصة من هم ورائي احتجّوا على ما حصل، وأنا ما زلت أفكر ماذا أفعل والعيون تحدّق بي وكأنني المخلّص المنشود الذي سوف يبدأ العراك.
شتائم وتعليقات ومطالبات طغت على صوت الرعد أو القذائف فلم أعد أسمع غير الشتائم التي انهالت من حولي على الرجل المسكين بعد أن يئس الواقفون من أي تصرف قد يصدر عني. واصلت صمودي وصمتي وكنت شاهداً لا فاعلاً في حل الخلاف، لا أعتقد أن مثل هذه الخلافات سوف تحل في بلد مثل سوريا أو في أي بلد عربي فمشكلة الالتزام واحترام القوانين واحترام بعضنا بعضاً لا تعالجها الإساءة إلى بعضنا بعضاً.
حادثة أخرى تفصلني عن حصولي على ربطة خبز، سيارة خاصة توقفت وأعطاها موظف الفرن نحو 20 ربطة دفعة واحدة، وهنا وصل الاستفزاز مراحله القصوى، وقامت القيامة على الموظف الذي ما كان منه إلا أن أغلق الكوّة غاضباً. يبدو أن صاحب السيارة يملك أحد المحلات ويتعاقد مع موظف الفرن فيشتري عدداً من الربطات كل يوم مقابل رشوة يدفعها له ليبيعها بسعر أعلى في محله (فرضيةٌ أطلقها أحد الواقفين تحت المطر).
وخلال أكثر من عشرة دقائق، لم نعد هؤلاء الناس الواقفين الصامدين المنتظرين دورنا لشراء الخبز، فبعد إغلاق الكوة – وكأن الموظف هو الذي على حق ونحن من خالف القانون – صرنا مجرد واقفين تحت المطر ننظر إلى حالنا ونتمعن في مشكلتنا.
“بالهدوء يا شباب”، تقدم رجل من كوة الفرن وتحدث إلى الموظف واعتذر له عن سيل الشتائم وطلب منه الاستعجال في فتح الكوة. وقد أفلح هذا الرجل حقاً في اقناع الموظف “المخالف” بأن يتكرم ويفتح الكوّة من جديد. ظهرت الابتسامات على وجوه الصامدين بعد ساعات طويلة من العُبوس، وبدأ ضوء الكوة يسطع من جديد كلما اقتربت أكثر، ولم نعد نكترث إن كانت الأصوات قصفاً أم رعداً أم انفجاراً.
وبسرعة لم تخلُ من الخفّة استطعت دفع ثمن الربطة والحصول عليها، حتى أن البعض قدم لي التهاني والمباركة على هذا الإنجاز العظيم.
بعدها، توجهت إلى المنزل في عتمة سوريا، مزهواً وسعيداً بأنني اشتريت ربطة خبز تكفي أسرتنا ليوم واحد. وفي الطريق استوقفني شابٌ ليسأل إن كان الفرن ما زال يعمل، فما أن أجبته بأنه كذلك حتى بدأ يركض باتجاهه، وتابعت مسيري حتى وصلت المنزل.
استقبلتني أمي بشفقة بالغة، وقد أدركت ما عانيته خلال غيابي الطويل، أكثر من ساعتين ونصف الساعة، هي المدة التي قضيتها للحصول على ربطة خبز. وكأن الوقت بلا معنى، وكأن الإنسان بلا قيمة، وكأن الوضع بلا نهاية. توجهت إلى المغسلة ونظرت إلى المرآة، بالفعل ما هذا الذي أصابني، فمن شدة التعب والغضب تنفخ وجهي، وتقطّب جبيني.
جلست إلى جانب والدي المتسمّر أمام التلفاز، وقال لي مسرعاً “الحمدلله على السلامة” وكانت الأخبار العاجلة تتكرر على الشاشة حول مجزرة جديدة للنظام في الغوطة الشرقية منذ نحو الساعة مع سقوط قتلى مدنيين في المدينة “المؤيدة” التي أسكن فيها نتيجة الرد بقذائف الهاون “مجهولة المصدر”.
لم أعلم ما أقول وقد وضعت أمي ربطة الخبز أمامها لتفردها كي لا تلتصق الأرغفة ببعضها بعضاً. ساد الصمت قليلاً، ثم انقطع التيار الكهربائي مجدداً. هل نغضب أم نضحك؟
رفعت جوالي لأضيء المكان فوجدت أن أحد صفحات “فيسبوك” قد توقفت عند خبر “عاجل”، بدأت قراءته وهو يشيد بدور الجيش في قصف الغوطة الشرقية مع هاشتاغ #الله_محيّ_الجيش، فأطفأت الهاتف الجوال وقررت الجلوس في الظلام مستمتعاً برائحة الخبز والصمت الذي هو أبلغ من أي حديث.
درج