أحمد بيضون.. صحبة العربية وتحولاتها/ نجم الدين خلف الله
يبدو كتابُ “في صحبة العربية”، الصادر نهاية كانون الأوّل/ ديسمبر الماضي عن “دار الجديد” في بيروت، في ظاهره، أبحاثاً متفرّقة حرِّرت على فتراتٍ من الزمن متباعدة، للخوض في قضايا مختلفة تُعنى “بمفردات الضاد ومُركّبات الثقافة”. ولكنّ وحدةً عميقة، عضوية ومحورية، تصل فصولَ الكتاب وتربط رهاناته بآفاقه؛ فموضوعه الرئيس إبراز التحوُّلات التي طاولت اللغة العربية في العقود الأخيرة ورصد تأثيرها، ليس فقط في نِظامها الداخلي، الصوتي والصَرفي والنحوي، بل وفي حضورها ضمن المشهد الثقافي القومي والعالمي وفي النسيج اليومي.
ولئن عمد اللغوي اللبناني أحمد بيضون إلى تقسيم مبسّطٍ لمُؤَلَّفه، من قبيل التوطئة والجوهر والختام، فإنَّ فصوله تستجيب لمنطق عميق وتجري إلى غاية واحدة: صياغةُ وصفٍ زمني للغة العربية لتحديد سلسلة التطورات التي لحقتها في عصرنا، وهي الكائن الحيّ الذي تنشط منه العناصر بقدر ما يواجِه منجزات الحداثة.
فمن جهة أولى، عمل بيضون على تفنيد مبدأ “التحكُّم” الناظم للعلاقة بين الدال والمدلول، عبر تحليلٍ معمّق للأصوات التي تتألّف منها كلمات قصيدة “سدوم” لـ إلياس أبو شبكة. وفيه كشف وشائج القربى بين قافيتها العينيَّة وحسَّ اللهفة واللهاث الذي تستدعيه. فعلى نهج يلمسلاف (Hjelmslev) وياكبسون (Jacobson)، جهد بيضون في إظهار التلازم، ولا سيما في النصوص الشعرية، بين حركة اللسان وخَلجات الجَنان. ومثل سائر دراساته، تعدّ هذه المحاولة نموذجًا تطبيقيًا يستدعي غيرَه من التجارب على نصوص مماثلة، حتى يُعدّل مبدأ التحكُّم في الضاد ويستعيد دارسوها الوعيَ بأخص خصائصها الموسيقية التي نظَّر لها ابن جني بقوله: “ذَهب بعضُهم إلى أنَّ أصلَ اللغات كلّها إنما هو من الأصوات المسموعات، كَدويِّ الريح وحنين الرعد (…)، ثم وُلدَت اللغات عن ذلك فيما بعد. وهذا عندي وجهٌ صالح ومَذهب مُتَقَبَّل”.
وأمّا القضية الموالية، والتي تخترق كلَّ فصول الكتاب تقريباً، فهي “السلطة اللغوية”، بما هي هيكلُ رقابة يشرف على مطابقة الإنتاج الكلامي لمعايير السلامة اللغوية والأداء التواصلي الصحيح والفصيح؛ إذ لا تنحصر هذه السلطة في علماء اللغة، وبعضهم في أبراجهم العاجية، ولا على مجامع اللغة العربية في خلافاتها، وإنما تُحيل على ما يشبه “الضمير الجمعي” الذي يراقب مدى مطابقة الاستعمالات للقواعد أو انحرافها عنها.
والحق أن مفهوم “السلطة اللغوية” من مُبتكَرات بيضون ومن مجالات المعرفة الخصبة التي لم تحظَ بدراسات وافية إلى حد الساعة. ولهذه الإشارات، على إيجازها، فضل التنبيه إلى ضرورة تفعيل هذه السلطة ومَدّها بالآليات التي تكفل لها حضوراً حقيقياً في صنع التوليد المعجمي وقبول وحداته أو رفضها، مثلما هو شأن الأكاديمية الفرنسية مثلاً. فمدار دعوته عدم قصر جهود اللغويّين العرب على التعقُّب البَعدي للمُفردات المستحدَثة، بعد أن يستطير شَررُها وتذهب على ألسنة الناس. ومن الأمثلة التي ضربها بيضون كلمة “خِلْيَوي”، التي لا يتوافق بناؤها مع المقاييس الاشتقاقية التقليدية.
ويكمن الرهان الموالي في تحقيق انزياحٍ معرفي هام يخصّ التوليد المعجمي وتسمية العالم عبر ابتكار مُفردات تواكب أشياءه ومفاهيمَه. فليست المعضلة، حسب ما يُؤكّد صاحب “كلمن: من مفردات اللغة إلى مركّبات الثقافة”، في عجز اللغة عن المواكبة، بل في عجز العرب، أصحاب اللسان أنفسهم، عن ابتكار العالَم والإسهام في نموّه وصنع أحداثه وتنشيط الاقتصاد الذي يُحرّكه. فقد لاحظ بحقّ أنَّهم يكتفون باستهلاك ما يُنتجه الغرب، ثم “تلقف العامياتُ الأسماءَ الأجنبية وتبتلعها”، دون نظر لا إلى وسائل اللغة الاشتقاقية ولا إلى غياب الفعل في التاريخ. خَطأٌ مضاعفٌ ترتكبه الثقافة وأهلها.
تحوّلٌ آخر رَصده الباحث اللبناني ويتجلّى في “جلاء الفصحى عن مناطق المشافهة”، ولهذا التحوّل آثارٌ عميقة، أولها تخلّي السجل الفصيح عن الدوائر الكلامية التي كانت حكراً عليه مثل الخطاب الديني والسياسي والأدبي، فقد تغلبت العامية عليه، ممّا خلطَ بين تقاليد الإنجاز الكلامي فتداخلت مناطق نفوذ السجلات وتصادمت أدواتها. ومن هذه الملاحظة انتقل الباحث إلى ضرورة تقريب الشقة بين سِجِليْ الضاد: العامية والفصحى. فليست العلاقة بينهما تنافراً ولا تنافساً، بل هي تكامل واستمرار لأنهما تجليَّان لأصلٍ واحد، إذا تركنا جانباً المُقترَضَ والدخيل.
ويمكن، بل يجب، أن تستمد الفصحى من معين اللهجات ما دامت هذه الأخيرة أحد تطوُّرات “كلام العرب”، جاريةً على مقاييسه، مقتفيةً أثَرَ الخُلَّص منهم في إطلاق الأقوال.
ولا يُمكن أن تفهم هذه التحوُّلات، حسب بيضون، بمعزل عن الثورة المعلوماتية الكبرى التي هزّت عالم التواصل بأسره، واللسان العربي من قِطاعاته، تأثّر بها كسائر أنشطة الوجود المجتمعي. فقد باتت مادة اللغة تشيع في الشبكة العنكبوتية وتسير عبرها، بسرعة البرق، بين أكبر عدد من المستخدمين. كما انكسر احتكار الكلام باسم اللغة لدى فئة واحدة، بعد أن تدخّل فاعلون اجتماعيون كثرٌ في إنتاجه وفرض أنماط جديدة منه في التواصل. وما “الفسبكة”، كما يسمّيها بيضون، سوى إحدى ترجمات هذا الانتشار، وربما لا تكون آخرَها.
تناول الكاتِب هذه المحاور المتشابكة من خلال دراسات تطبيقية قيّمة لعل أبرزها تتبع مفهوم “الطائفية”، منذ جذوره القرآنية إلى يوم الناس هذا، مع الإشارة إلى ما لحقه من فويرقات دلالية، توسيعاً وتضييقاً. وهذا البحث النفيس، على قِصَره، يصلح أن يكون مثالاً منهجياً يُتبع في الدراسات التطورية للمصطلحات السياسية المعاصرة، فتلاحقها منذ نشأتها الأولى لتحليل ما يشملها من تغيرات في مختلف السياقات، منذ القرون الوسطى إلى مقامات التداول المعاصرة.
وبمثل هذه الأصالة، أنجز الكاتب دراستيْن أسلوبيتيْن: الأولى عن طريقة الصحافي اللبناني غسان تويني (1926 – 2012) في الكتابة، والثانية عن نهج زياد الرحباني في صياغة أغاني فيروز. والفصلان من مباهج التحليل الأسلوبي الرصين الذي يتأمّل نظام المعجم واختيارات الكلام وخلق العلاقات بينها، فضلاً عن تفكيك التراكيب النحوية ومظاهر العدول المجازي.
ولا بد أن نسجّل طلاوة أسلوب بيضون في تناوله لهذه القضايا النظرية وفي دراساته التطبيقية، فقد جمع فيها بين جمال العبارة ونصاعة التركيب رغم الصعوبات الفكرية والمنهجية التي تعترض أي تناول لها.
ذلك أن المباحث التي ولّدتها “صحبةُ العربية” تُثير من القلق أكثر ممّا تَهبه من السكون. فليست هي بالصحبة اليسيرة، مع أنها ممتعة، لأنها تدعو القارئ إلى التفكير الملي في تغيّرات الضاد وربما الاجتهاد لإيجاد حلولٍ تتّفق مع التشخيص المقترح. فقضايا السلطة اللغوية وجلاء الفصحى عن مناطقها وروابطها باللهجات ودور مجامع اللغة ومعاجمها ووسائل إصلاحها وتيسير تعلمها وتطوير آلياتها في التسمية… كلُّ ذلك من صميم السؤال اللغوي -الفلسفي الراهن، الذي ينبغي أن تضطلع به المؤسّسات وتعكف على النهوض به هيئات متينة، تجمع بين الذكاء السياسي والرسوخ المنهجي مع عشقٍ صادقٍ للضاد وهي التي باتت تُدفع إلى مكان أقلّ من مكانها في رَدهات التاريخ.
العربي الجديد