قرى الأطفال في سوريا: انتهاكات تحت غطاء الرفاهية/ كرم منصور
تنتشر بوسترات ملونة في شوارع دمشق الرئيسية هذه الأيام، تشرح نشاطات منظمة قرى الأطفال «SOS»، وتتحدث عن «مساهمتها في بلسمة جراح السوريين» على حد وصف الإعلام الرسمي، الذي خصّصَ خلال السنوات السابقة مساحات واسعة لتغطية نشاطات الفرع السوري لهذه المنظمة.
تُعرِّفُ المنظمة عن نفسها بأنها «غير حكومية، غير ربحية، مقرها الرئيسي النمسا، وتنتشر فروعها في 134 دولة». وتشغل سمر دعبول موقع رئيس مجلس إدارة الفرع السوري لقرى الأطفال، ويقع مقر إدارة هذا الفرع في منزلها الشخصي، في حي المالكي بدمشق قريباً من بيت بشار الأسد. وسمر دعبول هي ابنة ديب دعبول المعروف بـ«أبو سليم»، مدير مكتب حافظ الأسد ومن ثم ابنه بشار.
تأسست «قرى الأطفال» في سوريا عام 1975، وكان عرّابها آنذاك أبو سليم دعبول نفسه، والد سمر. وتشير الأحاديث المتناقلة إلى أنه هو من أقنع حافظ الأسد وقتها بضرورة تأسيس الفرع السوري لتلك القرى، ليكون ذلك أول مرحلة من مراحل توطيد العلاقة بين النظام في سوريا والمنظمات والمؤسسات الأوروبية.
تستقبل المنظمة الأطفال الذين يحتاجون إلى رعاية، شريطة ألّا يكونوا لقطاء أو مجهولي النسب، وشريطة أن يتراوح عمر الطفل عند قبوله بين يوم واحد وست سنوات، ثم يبقى في القرية حتى إتمام الثامنة عشرة. وتتم دراسة حالة أسرة الطفل المادية ومدى قدرتها على رعايته، ثم يتم قبوله عندما تثبت حاجته وحاجة أسرته إلى ذلك. وقد ازداد نشاط الجمعية بعد العام 2011، وفضلاً عن القرى ومراكز رعاية الأطفال الدائمة التابعة للمنظمة، انتشرت عدة بيوت تابعة لها كمراكز رعاية مؤقتة في كل من صحنايا والدويلعة وغيرها في ضواحي العاصمة، ومثلها في منطقة حصين البحر في محافظة طرطوس.
كانت قرية الأطفال في قدسيا أولى القرى التي افتتحها المنظمة في سوريا عام 1981، وهي تضم اليوم نحو مئة وثمانين طفلاً، يتوزع كل خمسة منهم في بيت داخل أسوار القرية، ويتم توفير جميع الخدمات التعليمية والأنشطة لهم، بالإضافة إلى الغذاء الجيد والرعاية. وثمة سيدة مسؤولة عن كل بيت تُدعى «الأم»، ومعها مساعدة لها تدعى «الخالة»، تكون أدنى منها في الترتيب الوظيفي.
لدى دخولك إلى قناة يوتيوب الخاصة بقرى الأطفال السورية، ستدهشك كمية الرعاية الممنوحة للأطفال، وكمية الجهود التي يبذلها القائمون على تلك القرى، في سبيل تأمين بيئة نموذجية للأطفال، لا يمكن أن يحظى بمثلها معظم أطفال سوريا، حتى في كنف أسرهم الحقيقية.
ولكن ما أن تدخل إحدى أروقة القرية الواقعة في قدسيا، حتى تتكسر الصورة التي تسعى فيديوهات القناة لترسيخها في ذهن المتلقي عبر لغة بصرية مخادعة، إذ يتكلم كثير من الأطفال هناك عن حالات الضرب والتعنيف والإهانات التي يتعرضون لها، في حين يفضّلُ بعضهم الصمت.
وبالمقابل، تتكلم المُربيات عن عنف مبالغ فيه عند الأطفال، لا يمكن تخطيه إلا بممارسة العنف المضاد! وتذكر عدد من المربيات حادثة قديمة؛ حاول فيها أحد الأطفال إحراق إحدى القرى عبر إشعال شجرة كبيرة بعد سكب البنزين عليها، ما استدعى تدخل فرق الإطفاء لإخماد النيران التي كادت تلتهم البيوت داخل القرية.
تروي إحدى «الخالات» للجمهورية، وقد التقيناها خارج نطاق القرية، أن هناك كثيراً من حالات العنف الذي يُمارس على الأطفال داخل القرية. تشرح سعاد، (26 عاماً_اسم مستعار)، وقد أتمت عامها الثاني داخل القرية، أن هنالك العديد من الخطوط الحمراء التي لا يجب المساس بها، وأن على الخالات والأمهات الالتزام بها ضمنياً وعدم تجاوزها: أولها التوزيع العادل للطعام المقدم لكل بيت من بيوت القرية، لأن على ذلك رقابة شديدة من المكتب الإقليمي والمكتب الدولي. والثاني عدم ترك أي آثار أو ندبات عند استخدام العنف، لأن ذلك يمكن أن يفتح باباً للمسائلة والفصل في حال توافرت الأدلة. والثالث هو نظافة المكان، والنظافة الشخصية.
تروي لنا سعاد قصصاً عن ضرب الأطفال، منها لجوء إحدى «الأمهات» إلى ضرب طفل باستخدام إحدى أدوات المطبخ، حيث أصبحت المغرفة (الكفكير) أداة للضرب والعقاب، مؤكدة انتشار كثير من حالات التبول اللاإرادي بين الأطفال جرّاء الخوف.
ومن بين حالات العنف التي يتعرض لها الأطفال، كانت قضية محمد ذي الأربعة عشر عاماً، والذي خرج من قرى الأطفال بناء على طلب والده، بعد تعرّضه للضرب المبرح. استطاعت الجمهورية الاطلاع على جوانب من قصة محمد، الذي يعمل الآن في سوق الهال بدمشق، ويلقبونه هناك بـ «SOS». يقف محمد على مدخل السوق، ويقوم بنقل صناديق الخضار وتحميلها في سيارات التجار. ليس في ذاكرة محمد عن القرى سوى الطعام.
كان خروج محمد ناتجاً عن قيام إحدى «الأمهات» بتعنيفه وضربه بعنف، ما استدعى نقله إلى المستشفى. قدّمَ والد محمد شكوى، وعُرض الطفل على لجنة طبية، وهو ما اضطر الإدارة إلى إرسال إيميل إلى مجلس إدارة المنظمة في النمسا حول القضية، فُصِلَت على إثره تلك «الأم». فوجئ ذوو محمد بأن «الأم» التي فصلت قد تم تعيينها بالوساطة لاحقاً في منصب «خالة»، ومن ثم إعادتها إلى منصب «أم»، وهو ما يعني أن يد المحسوبيات هي اليد العليا داخل تلك القرى التي توصف بأنها نموذجية.
يعمل شقيق «الأم» المفصولة في القصر الجمهوري، وقد استطاع الوصول إلى أبي سليم دعبول والد رئيسة مجلس الإدارة، ومن ثم «إقناع» إدارة المنظمة بأن والد الطفل المُعنّف لديه اضطراب نفسي، ومشاكل شخصية مع تلك «الأم».
رغم أن الفرع السوري للمنظمة يُقدّم نفسه كمنظمة غير حكومية ومحايدة، وليست طرفاً في النزاع، إلا أن الالتصاق بين قرى الأطفال والنظام يظهر واضحاً من خلال آلية العمل التي فرضها النظام عليها، عبر اشتراط ربط النشاطات التي تقوم بها القرى بإبرام عقد مع وزارة الشؤون الاجتماعية والعمل ليصبح عملها مرخصاً! وبالتالي فإنه يحق للوزارة تعيين أعضاء في مجلس الإدارة، وبهذا يتم لجم نشاطات القرى بلجام وزارة الشؤون الاجتماعية والعمل.
وتلقى نشاطات قرى الأطفال ترحيباً كبيراً من قبل النظام، إذ يتم منحها كافة التسهيلات اللازمة، وتحظى بتغطيات خاصة. ويبدو من خلال المعلومات التي استطعنا جمعها من مصادر داخل الفرع السوري للمنظمة، أن أصحاب القرار يرون في المنظمة الدولية مصدراً مالياً مهمّاً، ذلك أن القرى يمكن أن تكون بالنسبة لهم جزءاً من أي مشروع يريدون تنفيذه.
ومن أمثلة ذلك ما كانت قد نشرته جريدة المدن الالكترونية في وقت سابق، عن احتفالية يوم اليتيم الثامنة التي أقامتها القرى برعاية وزارة الثقافة، وتمت دعوة فنانين من أمريكا الجنوبية ليشرفوا على نشاطات الأطفال في الرسم فيها، بتكلفة تجاوزت 20 ألف دولار. ولا تقتصر شراكات قرى الأطفال على المؤسسات الرسمية، بل تجمعها شراكات أيضاً مع عدد من المؤسسات غير الحكومية مثلها، من قبيل ما أوردته جريدة المدن في المقال نفسه، حول الدعم الذي تتلقاه المنظمة من «جمعية البستان» المملوكة لرامي مخلوف، ابن خال بشار الأسد، والتي يتبع لها فصيل مسلح يشارك بفعالية في الحرب.
كذلك تحظى قرى الأطفال بدعم من رجل الأعمال السوري محمد حمشو، وهو واحد من أكبر داعمي وشركاء أركان النظام السوري الاقتصاديين. وبحسب مصادرنا، فإن الدعم السخي من قبل حمشو لنشاطات القرى، يأتي في إطار تبييض الأموال والتهرب من الضرائب.
وتشهد المنظمة صراعات بين المتنفذين فيها على التوظيف، بسبب الرواتب العالية التي يتقاضها الموظفون، والامتيازات الأخرى مثل التأمين الصحي الشامل، والراتب التقاعدي الذي لا توفره معظم المنظمات العاملة في سوريا. وبحسب روايات متقاطعة لموظفين داخل القرى، فإن معظم العاملين تجمعهم صلات مع ضباط في أجهزة الأمن والجيش أو مع أصحاب النفوذ في النظام، ما ينعكس سلباً في كثير من الأحيان على العاملين أنفسهم، جراء حروب باردة وخلافات بين الأطراف المتنفذة، إذ يريد كثيرون تعيين معارفهم أو أقربائهم في الشواغر الوظيفية المتوفرة.
تحدثُ كثيرٌ من التجاوزات داخل المنظمة، وتسعى الإدارة غالباً إلى إخفائها، ومن بينها مثلاً قضية إقالة المدير الوطني السابق للقرى، راني رحمو، بتهمة التحرّش. وقد جاء قرار الإقالة رغم المحاولات الحثيثة من الإدارة لطيّ الملف، ولكن إرسال إحدى المسؤولات في الطاقم الإداري شكوى للمكتب الاقليمي في المغرب، أدى إلى فتح تحقيق وإقالة رحمو مع عدد من الموظفين المتورطين.
وقبل القضية التي أدت إلى إقالة راني رحمو، كان هناك فضيحة أطاحت بأحد مستشاري الجمعية، جرّاء تورطه في قضية اختلاس لما يعرف بأموال الكفالة، وهي تبرعات مالية تأتي من أوروبا للأطفال المقيمين داخل القرى، يستحقونها عند إتمام الثامنة عشرة من أعمارهم. وفي الوقت الذي كانت فيه إدارة القرية تمنع التواصل المباشر بين المتبرعين والأطفال، شاعت أحاديث عن اختلاسات من أموال هؤلاء المتبرعين، تمّ على إثرها استدعاء أعضاء من الطاقم الإداري إلى المكتب الإقليمي في المغرب والتحقيق معهم، وفصل مستشار المكتب الوطني بشكل مباشر، ولا يزال التحقيق مستمراً في هذه القضية بحسب مصادر من داخل قرية الأطفال في قدسيا.
تعيش قرى الأطفال واقعاً مزرياً من نواحي متعددة، ولكن يبقى أنه لا يمكن إنكار ما تقدمه من خدمات للأطفال، وخصوصاً ما قامت به من خلال إقامة مراكز إيواء لاستقبال الأطفال المتضررين من الحرب بشكل مباشر، وكذلك دعمها للمبادرات التي تستهدف النازحين في عدد من المدن والقرى السورية.
حاول هذا النص الإضاءة على التجاوزات التي تحصل داخل منظمة غير حكومية تعمل في سوريا، حالها كحال العديد من المنظمات التي لا يمكن أن تعمل بشكل فاعل، دون أن تنخرط في المعادلات التي يفرضها اللاعبون المحليون، من فساد ورِشى ومحسوبيات في كثير من الأحيان، باتت أشبه بصبغة عامة تطغى على جميع المؤسسات والمنظمات العاملة في سوريا، سواء كانت محلية أم دولية.
موقع الجمهورية