بماذا “تفتي” زينة أرحيم؟/ وليد بركسية
يلعب برنامج “لا تفتي”، الذي قدمته الصحافية السورية زينة ارحيم في “فايسبوك” و”يوتيوب” وانتهى عرضه قبل أيام، على الحد الفاصل بين البروباغندا الفجة ومعايير الإعلام المستقل، كجدل يبرز في القرن الحادي والعشرين بفعل قوة التكنولوجيا التي حولت كل شخص إلى مراسل صحافي في لحظة ما. التركيز على الحالة السورية، كنموذج للصحافة في مناطق النزاعات، تأخذ الجدل إلى سياق مختلف تماماً، إنسانياً وإعلامياً.
وفي كل حلقة، تقدم ارحيم، في تجربتها الأولى والأخيرة، بحسب وصفها، نماذج للتجاوزات المهنية والأخلاقية في مناطق النزاعات، لا من طرف ناشطين فحسب، بل من طرف إعلاميين ومراسلين لوسائل إعلام ومؤسسات مختلفة، بعضها مستمد من حوادث حقيقية. ويتبعها إجراء حوار مع شخصيات كارتونية تمثل مقدمي البروباغندا، ثم لقاءات مع إعلاميين يلتزمون بمعايير مهنة الإعلام المتعارف عليها، لتلخيص ما يصح وما لا يصح عند التغطيات الإعلامية وتقديم المعلومات للجمهور.
المشروع الذي تم تصويره في لندن، حيث تقيم ارحيم حالياً، هو تأليف ونشر دليل تدريبي باللغة العربية عن الصحافة الحساسة للنزاعات في السياق السوري. وعمل داوود ابراهيم على النسخة المكتوبة، فيما أعدت ارحيم مقاطع الفيديو التي نشرت على شكل برنامج مؤلف من خمس حلقات. وكانت الفكرة هي توفير محتوى بطرائق متعددة لسهولة إيصال المعلومات والإضاءة على أخطاء وإنجازات بهذا المجال.
وفي حديث مع “المدن” أوضحت ارحيم، أن البرنامج يتوجه لكل من يعمل في المجال الإعلامي أو توفير الأخبار في سوريا وعنها، وأيضاً للمتلقين الذين يستقبلون هذه المنتجات. والهدف هو “الإضاءة على أفعال تتم ممارستها منذ بداية الانتفاضة حتى الآن على أساس أنها عمل صحافي وتم تقبلها من قبل البعض على أنها كذلك، لكن بعضها لم يتجاوز الإعلان بمعناه التسويقي والترويجي” بالإضافة إلى “عرض وجهة نظر مستقلة عن التحيزات القاتلة والتعصبات والعصبيات عند الإعلاميين، أو الإعلانيين، ككل، من المؤيدين لكل الأطراف، والذين لا يغطون إلا انتهاكات الطرف الآخر وأخطاء الطرف الآخر بينما يتجاهلون تماماً ما ترتكبه المجموعات التي يؤيدون. وإن لم يمجدوها فهم على الأقل يتجاهلون انتهاكاتها”.
والبرنامج مع الدليل المكتوب، من تمويل وإنتاج “معهد صحافة الحرب والسلام”، وهي المنظمة التي تعمل فيها ارحيم، أما عمليات الإنتاج التقنية “فقد تعاقدنا فيها مع مؤسسة ميديا 22 التي تقوم بإنتاج العديد من البرامج العربية والأجنبية في لندن والشرق الأوسط”.
ويأتي المشروع في توقيت ينحسر فيه الإعلام المعارض تدريجياً، بما في ذلك اختفاء العديد من الناشطين الإعلاميين في الداخل السوري، مقارنة بالسنوات السابقة التي كانت فيها أصوات الناشطين مسموعة ومؤثرة. لكن ارحيم ترى أن “كل الأوقات مناسبة للحديث عن مواضيع تتعلق بنشر الكراهية والموضوعية والإساءة للمصادر والتحيز واللغة الذكورية والتنميط في الإعلام”.
وأضافت ارحيم أن “معهد صحافة الحرب والسلام” عمل منذ دخوله لسوريا العام 2007 على العديد من الكتيبات التدريبية باللغة العربية عن صناعة الفيتشرات وإجراء المقابلات والسلامة الرقمية وغيرها. مضيفة أن “مشروع هذا الكتيب مع البرنامج موجود في خطتنا منذ عامين لكن أسباباً إدارية أخرته حتى الآن”، لافتة أن “مغادرة الإعلاميين من سوريا لا يعني أنهم توقفوا عن العمل، فالعديد من ناشري الكراهية والمحرضين من الإعلاميين مقيمون في الخارج، أعتقد أن المكان ليس له علاقة بهذا الموضوع. القصة مبادئ واحترام لأخلاقيات العمل والمهنية”.
وعن فائدة المشروع في ظل الوضع الحالي في سوريا وحتى بعد انتهاء الحرب في البلاد، قالت ارحيم إن “سلسلة فيديوهات أو الدليل التدريبي لن يقلب الموازين ويغير الممارسات الإعلانية، بل هو مجرد مصدر آخر للمعلومات بطريقة مختلفة للمهتمين والراغبين بأن يروا الأحداث بعينتين اثنتين بدلاً من العين الواحدة”، موضحة أن عدداً من المدربين تواصلوا معها وطلبوا الإذن لعرض فيديو معين خلال جلساتهم التدريبية “وهذا أكثر ما أطمح عليه. إضافة إلى ناشط مقيم في ريف حلب قال لي أنه لم يفكر في تغطيته قبلاً بهذه الطريقة، وقد استفاد من الحلقة لأنها غيرت وجهة نظره عن التغطيات الحربية وما يمكن عمله إعلامياً في الداخل”.
والحال أن البرنامج أثار جدلاً واسعاً، وبالتحديد الحلقة الأولى منه التي ترجمت فيها كلمة “الإعلاني” المستخدمة للإشارة إلى مروجي البروباغندا من كافة الأطراف، إلى “المواطن الصحافي” في النص الانجليزي المرافق، ما أثار حفيظة كثير من الناشطين والإعلاميين السوريين عبر مواقع التواصل الاجتماعي، من منطلق أن الكثير من المواطنين الصحافيين يتمتعون بمهنية عالية قد لا تتوفر في العاملين لدى وسائل الإعلام، فضلاً عن دور كثير من المواطنين الصحافيين في كسر التعتيم الإعلامي الذي مارسه النظام السوري في البلاد، بعد الثورة السورية.
وأوضحت ارحيم بالقول “لدى شركة الإنتاج مترجم، ومعهد صحافة الحرب والسلام منظمة تعمل من 25 عاماً في أكثر من 30 دولة، لديها سياسات تحريرية دقيقة والمحررة البريطانية، ولغتها الأصلية هي الانجليزية، هي التي أضافت هذه الجملة لأن كلمة إعلاني بالانجليزية مرتبطة بالمعنى التجاري وأرادت توضيح السياق”، لافتة إلى أن “كل الصحافيين الأجانب الذين شاركت معهم الفيديو لم يسيؤوا فهم الجملة بين قوسين، وخصوصاً أن العديد من الأمثلة السلبية كانت لصحافيين مخضرمين بمعنى التجربة والعمل، بينما المثال الإيجابي كان ناشطة إعلامية وهذا تأكيد عملي على أن الجملة منفية في سياق الحلقة ذاته. بكل الأحوال شرحت للمحررة دانيلا بعد الحلقة الإشكاليات التي حصلت بسبب إضافتها للجملة وافقت على حذفها من بقية الحلقات وهذا ما حدث”.
وأكملت ارحيم: “من المفهوم حصول سوء فهم عن موضوع الترجمة لكن من الغريب جداً افتراض حدوث مؤامرة وإرسال رسائل مختلفة للجمهور العربي عن الأجنبي، وافتراض أنني شخصياً أستطيع في منظمة بريطانية كبيرة أن آخد كل القرارات التحريرية وأعد وأترجم وأحرر وأنشر كما يحلو لي وأتحمل مسؤوليته وحدي!”.
الجدل السابق أعطى إيحاء بان البرنامج يشدد على فكرة الصحافي الأكاديمي في مقابل الناشط الهاوي، بغض النظر عن الانتماء السياسي، لكن تتالي الحلقات بددت تلك الفكرة، مع تركيز البرنامج على فكرة المهنية والمبادئ الصحافية. وقالت ارحيم أن الطرح السابق غير دقيق حيث “لا توجد أية إشارة للأكاديمي في كل الحلقات! بل في الحلقات أمثلة إيجابية لناشطين إعلاميين لم يدرسوا الصحافة في حياتهم، وأمثلة سلبية لآخرين خريجين أو يعملون في هذا المجال من عشر سنوات وأكثر! القضية بسيطة جداً، الممارسة المهنية هي من يحدد إذا كنت إعلاني أو إعلامي، لا شهادتك الجامعية ولا خلفيتك الاجتماعية ولا لون بشرتك”.
ويمكن الاستدلال على النقطة السابقة بتقديم الحلقة الأولى من البرنامج للصحافية خلود وليد، كنموذج عن الصحافيين الذين لا يقدمون البروباغندا، وهي الفائزة جائزة “أنا بوليتكوفسكايا” للعام 2015، وواحدة من مؤسسي صحيفة “عنب بلدي”، رغم أنها ليست أكاديمية ولم تدرس الصحافة والإعلام. علماً أن ارحيم في مقابلة سابقة مع “المدن” أشارت إلى مخاوفها بشأن مستقبل الناشطين الإعلاميين في البلاد، بسبب مسألة الدراسة الأكاديمية بالتحديد، لكنها تؤكد اليوم أن “المؤسسات الإعلامية الكبيرة لم تعد تأخذ موضوع الشهادة بجدية، هم يوظفون على الخبرة والعلاقات والمهنية، ما يعني أني مخاوفي لم تتحقق والحمد لله. لكني لا أرى عودة قريبة للصحافيين إلى سوريا، العديد يأخذون فيزا صحافية للذهاب لدمشق أو حمص وحلب لكن كرحلات سريعة يكتبون فيها عن مواضيع تمارس عليها وزارة الإعلام رقابة صارمة”.
وفيما يشير عنوان البرنامج للوهلة الأولى، إلى فصل الرأي عن الخبر، كمعيار يجب تعليمه للناشطين والصحافيين على حد سواء، تبرز إشكالية راهنة مع تطور الصحافة تدريجياً نحو إفساح المجال للإعلاميين لتقديم وجهات نظرهم، مع إيضاح أين تبدأ المعلومة وأين تنتهي وكذلك الأمر بالنسبة للتعليق عليها. لكن ارحيم تقول أن المسألة أكبر من ذلك، فمعنى “لا تفتي” يتجاوز النقطة السابقة، و”جاء من قضية اسأل أو ادرس أو ابحث ولا تفترض الصح والخطأ من نفسك، أو مما تقوله وتفعله الجماعة التي تدين لها بالولاء”.
وأكملت ارحيم: “لست ضد أن يعطي الصحافي رأيه ولا أعتقد أن هذا يقلل من مهنيته، أحد أسباب استقالتي من بي بي سي، هو صرامتهم بهذا السياق، وعنوان مدونتي الشخصية حتى هو منحازة للإنسانية، وأكتب فيها آرائي. لكن الآراء مختلفة عن التحريض على الكراهية والتهليل للعنف والاحتفال بالدعس والفعس والمعس، والتحقيق مع الأسرى المذلولين وكأنهم ببرنامج الشرطة في خدمة الشعب”.
والحال أن البرنامج يتزامن مع إغلاق العديد من وسائل الإعلام المعارضة والصفحات في مواقع التواصل وتوقف الكثير من الناشطين وبروز مشاكل التمويل، خلال العامين الماضيين، لأسباب متداخلة مثل “مزاج التمويل وتوجاهته، عدم قدرة الوسائل على إيجاد مصادر بديلة للتمويل غير المنح الأجنبية، مآلات الحرب السورية والتهجير وتهديدات الفصائل المتطرفة للصحافيين العاملين في مناطقها”. ومع بروز اسم ارحيم طوال سنوات الحرب وحصولها على عديد من الجوائز الدولية، لنشاطها الصحافي أو تدريبها للناشطين أيضاً، يمكن اعتبار البرنامج تقييماً لمرحلة انتهت من عمر البلاد، إعلامياً وسياسياً.
وعلقت ارحيم هنا، بأن “الإعلام لم ولن ينتهِ، على الأقل بالمدى المنظور، ولو انتهت الحرب أو سيطر النظام. هي مستمرة داخل وخارج سوريا ومن قبل كل الأطراف وبالتالي نشر المعايير المهنية والإضاءة على قضايا تتعلق بعدم تأجيج الصراعات كافة، الطائفية والمناطقية والقومية والدينية والجندرية، بالإضافة للدفاع عن الحريات الصحافية موضوع سيبقى هاماً دائماً وسأعمل بسبيله ولأجله دائماً”.
المدن